آيات من القرآن الكريم

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا ۗ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ

وَالْمَعْنَى الْمُتَبَادِرُ مِنْهَا لُغَةً هُوَ: رَاعِنَا سَمْعَكَ وَهُوَ كَأَرْعِنَا سَمْعَكَ: أَيِ اسْمَعْ لَنَا مَا نُرِيدُ أَنْ نَسْأَلَ عَنْهُ وَنُرَاجِعَكَ الْقَوْلَ فِيهِ لِنَفْهَمَهُ عَنْكَ، أَوْ رَاقِبْنَا وَانْتَظِرْ مَا يَكُونُ مِنْ شَأْنِنَا فِي حِفْظِ مَا تُلْقِيهِ عَلَيْنَا وَفَهْمِهِ. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَرَاعَيْتُ الْأَمْرَ - نَظَرْتُ إِلَامَ يَصِيرُ وَأَنَا أُرَاعِي فُلَانًا - أَنْظُرُ مَاذَا يَفْعَلُ، وَأَرْعَيْتُهُ سَمْعِي، وَأَرْعِنِي سَمْعَكَ، وَرَاعِنِي سَمْعَكَ اهـ. وَلَكِنَّ اللهَ - تَعَالَى - نَهَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ قَوْلِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَالْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ هُوَ أَنَّ الْيَهُودَ سَمِعُوهَا فَافْتَرَصُوهَا وَصَارُوا يُخَاطِبُونَ بِهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَاوِينَ أَلْسِنَتَهُمْ بِهَا لِتُوَافِقَ كَلِمَةَ شَتْمٍ بِلِسَانِهِمُ الْعِبْرَانِيِّ. قِيلَ: كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا " رَاعَيْنَا " وَقِيلَ: كَانُوا يُرِيدُونَ بِتَحْرِيفِهَا نِسْبَتَهُ إِلَى الرُّعُونَةِ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) (٤: ٤٦) الْآيَةَ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّ هَذَا النَّهْيَ لَهُ صِلَةٌ وَارْتِبَاطٌ بِشَأْنِ الْيَهُودِ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَزَالُ فِي شُئُونِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُؤْمِنِينَ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ سَبَبُ النَّهْيِ هُوَ كَوْنُ الْكَلِمَةِ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّتْمِ فِي الْعِبْرَانِيَّةِ، وَلَا أَقُولُ بِهَذَا إِلَّا بِنَقْلٍ صَحِيحٍ
عَمَّنْ يَعْرِفُ هَذِهِ اللُّغَةَ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ وُجُوهٌ أُخْرَى فِي تَعْلِيلِ النَّهْيِ، فَعَنْ مُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ " خِلَافٌ " وَالْمُرَادُ لَا تُخَالِفُوهُ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِتَابِ، وَلَكِنِ اعْتُرِضَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ لَيْسَ لَهُ شَاهِدٌ مِنَ اللُّغَةِ. وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ (رَاعِنَا) مِنَ الْمُرَاعَاةِ. وَهِيَ تَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ فِي الرِّعَايَةِ أَيِ ارْعَنَا نَرْعَكَ، وَفِي خِطَابِ النَّبِيِّ بِذَلِكَ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ مَا هُوَ ظَاهِرٌ، فَالنَّهْيُ عَنْهُ تَأْدِيبٌ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) (٤٩: ٢) كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تَكُونُوا كَهَؤُلَاءِ الْغِلَاظِ الْقُلُوبِ الَّذِينَ قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ خَبَرَهُمْ، أَوِ الَّذِينَ عَرَفْتُمْ سُوءَ أَدَبِهِمْ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، بَلِ اجْمَعُوا بَيْنَ الطَّاعَةِ وَالْأَدَبِ.
(قَالَ) : وَهَا هُنَا وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ: رَاعَى الْحِمَارُ الْحُمُرَ إِذَا رَعَى مَعَهَا، فَيَجُوزُ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَةَ بِصَرْفِهَا إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَنَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْ هَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَشَنَّعَ عَلَى الْيَهُودِ بِإِظْهَارِ سُوءِ قَصْدِهِمْ فِيهَا، وَقَدْ رَضُوا بِصَرْفِ اللَّفْظِ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَإِنْ كَانَ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ حُمُرٌ؛ لِأَنَّ السَّبَّابَ يَسُبُّ نَفْسَهُ كَمَا يَسُبُّ غَيْرَهُ فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ الْقَائِلِ:

اقْتُلُونِي وَمَالِكًا وَاقْتُلُوا مَالِكًا مَعِي
قَالَ - تَعَالَى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا)، نَهَاهُمْ - تَعَالَى - عَنْ كَلِمَةٍ كَانُوا يَقُولُونَهَا وَأَمَرَهُمْ بِكَلِمَةٍ خَيْرٍ مِنْهَا تُفِيدُ مَا كَانُوا يُرِيدُونَهُ مِنْهَا. فَكَلِمَةُ (انْظُرْنَا) تُفِيدُ مَعْنَى كَلِمَةِ (رَاعِنَا) فَإِنَّ فِيهَا مَعْنَى الْإِنْظَارِ وَالْإِمْهَالِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى قِرَاءَةُ (انْظِرْنَا) مِنَ الْإِنْظَارِ، وَفِيهَا مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَهُوَ مَا يُسْتَفَادُ مِنَ النَّظَرِ بِالْعَيْنِ. تَقُولُ: نَظَرْتُ الشَّيْءَ

صفحة رقم 338

وَنَظَرْتَ إِلَيْهِ إِذَا وَجَّهْتَ إِلَيْهِ بَصَرَكَ وَرَأَيْتَهُ، وَتَقُولُ: نَظَرْتُهُ بِمَعْنَى انْتَظَرْتُهُ وَمِنْهُ (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) (٣٦: ٤٩) أَذِنَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ (انْظُرْنَا) وَأَمَرَهُمْ بِالسَّمَاعِ لِلنَّبِيِّ لِيَعُوا عَنْهُ مَا يَقُولُ مِنَ الدِّينِ وَهُوَ أَمْرٌ يَتَضَمَّنُ الطَّاعَةَ وَالِاسْتِجَابَةَ. ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) لِبَيَانِ أَنَّ مَا صَدَرَ عَنِ الْيَهُودِ مِنْ سُوءِ الْأَدَبِ فِي خِطَابِ الرَّسُولِ هُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ الَّذِي يُعَذَّبُونَ عَلَيْهِ الْعَذَابَ الْمُوجِعَ أَشَدَّ الْإِيجَاعِ، وَلِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّقْصِيرَ
فِي الْأَدَبِ مَعَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَنْبٌ مُجَاوِرٌ لِلْكُفْرِ يُوشِكُ أَنْ يَجُرَّ إِلَيْهِ، فَيَجِبُ الْاحْتِرَاسُ مِنْهُ بِتَرْكِ الْأَلْفَاظِ الْمُوهِمَةِ لِلْمُسَاوَاةِ، بَلْهَ الْأَلْفَاظِ الْمُنَافِيَةِ لِلْآدَابِ.
أَقُولُ: لَا شَكَّ أَنَّ مَنْ يُعَامِلُ أُسْتَاذَهُ وَمُرْشِدَهُ مُعَامَلَةَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، يَقِلُّ احْتِرَامُهُ لَهُ وَتَزُولُ هَيْبَتُهُ مِنْ نَفْسِهِ حَتَّى تَقِلَّ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ أَوْ تَعْدَمَ، وَإِذَا لَمْ تَزُلِ الِاسْتِفَادَةُ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُعَلِّمًا، فَإِنَّهَا تَقِلُّ وَتَزُولُ لَا مَحَالَةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ مُرَبِّيًا؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ فِي التَّرْبِيَةِ عَلَى التَّأَسِّي وَالْقُدْوَةِ، وَمَنْ أَرَاهُ مِثْلِي لَا أَرْضَاهُ إِمَامًا وَقُدْوَةً لِي، فَإِنْ رَضِيتُهُ بِالْمُوَاضَعَةِ وَالتَّقْلِيدِ وَكَذَّبَتْنِي الْمُعَامَلَةُ، فَأَيُّ قِيمَةٍ لِهَذَا الرِّضَى، وَالْعِبْرَةُ بِمَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسِ الْأَمْرِ، وَهُوَ أَنَّ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ امْرَأً فَوْقَهُ عِلْمًا وَكَمَالًا، وَأَنَّهُ فِي حَاجَةٍ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرْشَادِهِ وَمِنْ أَخْلَاقِهِ وَآدَابِهِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُسَاوِيَ نَفْسَهُ بِهِ فِي الْمُعَامَلَةِ الْقَوْلِيَّةِ وَلَا الْفِعْلِيَّةِ، إِلَّا مَا يَكُونُ مِنْ فَلَتَاتِ اللِّسَانِ وَمِنَ اللَّمَمِ، وَعَنْ مِثْلِ هَذَا نَهَى الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ -؛ لِئَلَّا يَجُرَّهُمُ الْأُنْسُ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَرَمُ أَخْلَاقِهِ إِلَى تَعَدِّي حُدُودِ الْأَدَبِ الْوَاجِبِ مَعَهُ الَّذِي لَا تَكْمُلُ التَّرْبِيَةُ إِلَّا بِكَمَالِهِ، وَهُوَ - تَعَالَى - يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (٣٣: ٢١) الْآيَةَ.
(الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ) : إِنَّمَا كَانَ عَدَمُ الْإِصْغَاءِ لِمَا يَقُولُهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَخِطَابُهُ خِطَابُ الْأَكْفَاءِ وَالنُّظَرَاءِ مُجَاوِرًا لِلْكُفْرِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَلَّمُ عَنِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِسَعَادَةِ مَنْ يَسْمَعُ وَيَعْقِلُ وَيَأْخُذُ مَا يُؤْمَرُ بِهِ بِالْأَدَبِ وَيَسْأَلُ عَمَّا لَا يَفْهَمُهُ بِالْأَدَبِ، وَمَنْ فَاتَتْهُ هَذِهِ السَّعَادَةُ فَهُوَ الشَّقِيُّ الَّذِي لَا يُعْدَلُ بِشَقَائِهِ شَقَاءٌ. وَمَعْنَى هَذِهِ الْمُجَاوَرَةِ أَنَّ سُوءَ الْأَدَبِ بِنَحْوِ مَا حُكِيَ عَنِ الْيَهُودِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ، هُوَ مِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا) (٤: ٤٦) فَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تُحَاكِي الْأَلْفَاظَ الَّتِي تُوُعِّدُوا عَلَيْهَا بِهَذَا الْوَعِيدِ عَلَى أَنَّهَا كُفْرٌ إِذَا صَدَرَتْ مِنَ الْمُؤْمِنِ غَيْرَ مُحَرَّفَةٍ وَلَا مَقْصُودًا بِهَا مَا كَانُوا يَقْصِدُونَ، تُسَمَّى مُجَاوِرَةً لِأَلْفَاظِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّهَا مُوهِمَةٌ وَخَارِجَةٌ عَنْ حُدُودِ الْأَدَبِ اللَّائِقِ بِالْمُؤْمِنِينَ.
(قَالَ) : إِنَّ لِمَنْ جَاءَ بَعْدَ الرَّسُولِ حَظًّا مِنْ هَذَا التَّأْدِيبِ، وَلَيْسَ هُوَ خَاصًّا
بِمَنْ كَانَ فِي عَصْرِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَهَذَا كِتَابُ اللهِ الَّذِي كَانَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ يَجِبُ الِاسْتِمَاعُ لَهُ وَالْإِنْصَاتُ لِأَجْلِ تَدَبُّرِهِ، هُوَ الَّذِي يُتْلَى عَلَيْنَا بِعَيْنِهِ، لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ شَيْءٌ، وَهُوَ كَلَامُ اللهِ الَّذِي بِهِ

صفحة رقم 339
تفسير المنار
عرض الكتاب
المؤلف
محمد رشيد بن علي رضا بن محمد شمس الدين بن محمد بهاء الدين بن منلا علي خليفة القلموني الحسيني
الناشر
1990 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية