آيات من القرآن الكريم

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا
ﭓﭔﭕﭖﭗ ﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬ ﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺ ﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ

[الجزء الرابع]

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة مريم
هذه السورة مكية بإجماع إلّا السجدة منها، فقيل: مكيّة.
وقيل: مدنيّة.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)
وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
قوله عزَّ وجل: كهيعص قد تقدَّمَ الكلامُ في فواتح السوَرِ.
وقوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ مرتَفِعٌ بقولهِ: كهيعص في قَوْلِ فرقَةٍ.
وقيل: إنَّهُ ارتفعَ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدأ محذوفٍ تَقْديرُهُ: هذا ذكر، وحكَى أبو عمرو الدَّانِي عن ابن يعمر «١» أَنَّه قرأ: «ذَكِّر رَحْمَة رَبِّكَ» : بفتح الذَّالِ، وكسر الكافِ المشدَّدة، ونصبِ الرَّحمة.
وقوله نادى: مَعناه بالدُّعَاءِ والرغبَةِ قاله ابنُ العربيِّ في «أحكامه» «٢».
وقوله تعالى: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا: يناسِبُ قَوْلَهْ: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً. [الأعراف: ٥٥].
وفي «الصحيح» عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قَال: «خيرُ الذَّكْرِ الخفيُّ، وخيرُ الرِّزقِ ما يكفي» «٣»
(١) ينظر «مختصر الشواذ» ص (٨٦)، و «المحرر الوجيز» (٤/ ١٤)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٦٣)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٩٠).
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٥٠).
(٣) تقدم تخريجه.

صفحة رقم 5

وذلك لأَنَّهُ أَبْعَدُ مِن الرياء، فأَمَّا دُعاءُ زكرياء عليه السلام فإنما كان خفيّاً لوجهين:
أَحدُهُما: أَنَّهُ كان ليلاً.
والثاني: أَنَّهُ ذَكَرَ في دُعَائه أَحوالاً تفتقرُ إلى الإخفَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي. وهذا مما يكتم. انتهى.
ووَهَنَ الْعَظْمُ معناه ضَعُفَ، واشْتَعَلَ مُسْتَعَارٌ للشيْب منِ اشتعال النَّار.
وقولهُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا شكر لله- عز وجل- على سالف أياديه عنده، معناه: قد أَحسنتَ إليَّ فيما سلَف، وسعدتُ بدعائي إيَّاك فالإنعامُ يقتضي أَنْ يشفع أَوله آخره.
ت: وكذا فسَّر الدَّاوُودِيُّ، ولفظه: «ولم أَكنْ بدُعائِك رَبِّ شقيّاً»، يقولُ: كنْتَ تعرفني الإجابَة فيما مضى، وقاله قتادةُ: انتهى.
وقوله: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ... الآية، قيل: معناه خاف أَن يرثَ الموَالي مَالَهُ، والموالي: بنو العمّ، والقرابةُ.
وقولُه مِنْ وَرائِي أَيْ: من بعدي.
وقالت فرقةٌ: إنما كان مواليه مهمِلينَ للدِّين فخاف بموته أَنْ يضَيع الدينُ فطلب وليّاً يقومُ بالدين بعده حَكَى هذا القولَ: الزَّجَّاجُ، وفيه: أَنه لا يجوزُ أَن يسأل زَكَرِيَّاءُ من يرث ماله إذ الأَنبيَاءِ لا تُورَثُ.
قال: ع «١» : وهذا يُؤَيّده قوله «٢» صلى الله عليه وسلّم: «إنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُو صَدَقَة» «٣». والأَظهرُ الأَلْيق بزكرياء عليه السلام أَن يريدَ وِرَاثةَ العِلْم والدِّينِ، فتكون الوارثةُ

(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٤- ٥).
(٢) في ج: قول النبي.
(٣) أخرجه البخاري (٦/ ٢٢٧- ٢٢٨) كتاب «فرض الخمس» : باب فرض الخمس، حديث (٣٠٩٤)، (٧/ ٣٨٩) كتاب المغازي باب حديث لبني النضير، حديث (٤٠٣٣)، (٩/ ٤١٢- ٤١٣) كتاب «النفقات» :
باب حبس الرجل قوت سنة على أهله، حديث (٥٣٥٨)، (١٣/ ٢٩٠- ٢٩١) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» : باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين والبدع، حديث (٧٣٠٥)، ومسلم (٣/ ١٣٧٧- ١٣٧٩) كتاب «الجهاد» : باب حكم الفيء، حديث (٤٩/ ١٧٥٧)، وأبو داود (٢/ ١٥٤- ١٥٦) كتاب «الخراج» : باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأموال، حديث (٢٩٦٣)، والترمذي (٤/ ١٥٨) كتاب «السير» : باب ما جاء في تركة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حديث (١٦١٠)، وفي «الشمائل» (٢١٦)، -

صفحة رقم 6

مستعارةً، وقد بلغه الله أَمَلَهُ.
قال ابنُ هشام: ومِنْ وَرائِي متعلّقٌ ب الْمَوالِيَ، أو بمحذوفٍ هو حالٌ من «١» الموالي، أو مُضَاف إليهم، أَيْ: كائِنِينَ مِنْ وَرَائي، أو فعَل الموالي مِنْ ورائي، ولا يصحّ تعلقه ب «خِفْتُ» لفساد المعنى. انتهى من «المغني».
وخِفْتُ الْمَوالِيَ هي قراءةُ الجمهور «٢»، وعليها هو هذا التفسير.
وقرأ عثمانُ بنُ عَفَّانَ، وزيدُ بنُ ثابتٍ، وابنُ عباسٍ «٣»، وجماعةٌ «خَفَّتِ» بفتح الخاء، وفتح الفاء وشدِّها، وكَسْر التَّاء، والمعنى على هذا: قد انقَطَع أَوْلِيَائِي، وماتُوا، وعلى هذه القراءة، فإنما طلب وَليَّا يقوم بالدين.
قال ابنُ العربي «٤» في «أحكامه» : ولم يخف زكرياءُ وارث المال، وإنما أراد إرث

- وعبد الرزاق (٩٧٧٢)، وأبو يعلى (١/ ١٢، ١٣) رقم: (٢، ٤)، وابن حبان في «صحيحه» (٨/ ٢٠٧- الإحسان) حديث (٦٥٧٤)، والبيهقي (٦/ ٢٩٧)، والبغوي في «شرح السنة» (٥/ ٦٣١، ٦٣٢- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب به، وفيه قصة طويلة.
وأخرجه مالك (٢/ ٩٩٣) كتاب الكلام: باب ما جاء في تركة النبي صلى الله عليه وسلّم، حديث (٢٧)، والبخاري (١٢/ ٧، ٨) كتاب «الفرائض» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا صدقة» حديث (٦٧٢٧، ٦٧٣٠)، ومسلم (٣/ ١٣٧٩) كتاب «الجهاد والسير» : باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» حديث (٥١/ ١٧٥٨)، وأبو داود (٢/ ١٦٠، ١٦١) كتاب «الخراج والفيء والإمارة» : باب في صفايا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الأموال، حديث (٢٩٧٦، ٢٩٧٧)، والنسائي (٧/ ١٣٢) كتاب «قسم الفيء»، وأحمد (٦/ ١٤٥، ٢٦٢)، وعبد الرزاق (٩٧٧٤)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (١٠٩٨)، وابن حبان (٨/ ٢٠٩- الإحسان) رقم (٦٥٧٧)، «والبيهقي» (٦/ ٢٩٧، ٢٩٨) كلهم من طريق الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت: إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلّم حين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلّم أردن أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر، فيسألنه ميراثهن من النبي صلى الله عليه وسلّم، قالت عائشة لهنّ: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» ؟! وفي بعض طرق الحديث أن راوي هذا الحديث هو أبو بكر. [.....]
(١) لأنه في الأصل صفة للنكرة، فقدّم عليها.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤/ ٥)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٦٥)، «والدر المصون» (٤/ ٤٩١).
(٣) وقرأ بها محمد بن علي، وعلي بن الحسن، وسعيد بن العاص، وابن يعمر، وسعيد بن جبير، وشبيل بن عزرة.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص (٨٦)، و «المحتسب» (٢/ ٣٧)، «والكشاف» (٣/ ٤)، «والمحرر الوجيز» (٤/ ٥)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٦٥)، وزاد نسبتها إلى الوليد بن مسلم عن ابن عامر.
وهي في «الدر المصون» (٤/ ٤٩١).
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٥٠).

صفحة رقم 7

النبوة، وعليها خاف أَن تخرج عن عَقِبه، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم أَنه قال: «إنَّا- معَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ- لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» «١» انتهى.
وقرأ عليُّ بنُ أَبي طَالِبٍ، وابنُ عباسٍ، وغيرُهما- رضي الله عنهم- «يرِثُنِي وَارِثٌ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ «٢» ».
ت: وقوله: فَهَبْ لِي قال ابنُ مَالكٍ في «شرح الكافية» اللامُ هنا: هي لامُ التعدِيَة وقاله ولدُه في «شرح الخلاصة».
قال ابنُ هشام: والأولى عندي أن يمثل للتعدية بنحو: ما أكرم زيداً لعمرو، وما أحبه لبكر، انتهى.
وقوله: مِنْ آلِ يَعْقُوبَ يريد يرث منهم الحكمة/ والعلم، والنبوة، ورَضِيًّا معناه: مرضيّا، والعاقر من النساء التي لا تلد من غير كبرة، وكذلك العاقرُ من الرجال.
وقوله: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا معناه في اللغة: لم نجعل له مُشَارِكاً في هذا الاسم، أي: لم يسم به قبل يحيى، وهذا قول ابن عباس «٣» وغيره.
وقال مجاهدُ «٤» وغيره: سَمِيًّا معناه: مئيلا، ونظيرا، وفي هذا بعد: لأنه لا

(١) ينظر الحديث السابق.
(٢) وبها قرأ عاصم الجحدري، وابن يعمر، وأبو حرب بن أبي الأسود، والحسن، وقتادة، وأبو نهيك، وجعفر بن محمد.
قال أبو الفتح: هذا ضرب من العربية غريب، ومعناه التجريد، وذلك أنك تريد: فهب لي من لدنك وليّا يرثني منه أو به وارث من آل يعقوب.
وهو الوارث نفسه، فكأنه جرد منه وارثا. ومثله قول الله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨]، فهي نفسها دار الخلد، فكأنه جرد من الدار دارا، وعليه قول الأخطل: [الطويل]
بنزوة لصّ بعد ما مر مصعب بأشعث لا يفلى ولا هو يقمل
ومصعب نفسه هو الأشعث، فكأنه استخلص منه أشعث. ا. هـ.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ٣٨)، «ومختصر الشواذ» (٨٦)، و «الكشاف» (٣/ ٥)، «والمحرر الوجيز» (٤/ ٥)، «والبحر المحيط» (٦/ ١٦٥)، «والدر المصون» (٤/ ٤٩٢)،
(٣) ذكره ابن عطية (٤/ ٦)، والسيوطي (٤/ ٤٦٨) وعزاه إلى الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عباس.
(٤) أخرجه الطبريّ (٨/ ٣٠٩) برقم: (٢٣٥٠٥)، وذكره ابن عطية (٤/ ٦)، وابن كثير (٣/ ١١٢)، والسيوطي (٤/ ٤٦٨).

صفحة رقم 8
الجواهر الحسان في تفسير القرآن
عرض الكتاب
المؤلف
أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي
تحقيق
عادل أحمد عبد الموجود
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1418
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية