
يَكُونُ بِأَنْ لَا تُفْعَلَ فِي وَقْتِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَظْهَرُ هُوَ الْأَوَّلَ وَأَمَّا اتِّبَاعُ الشَّهَوَاتِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هُمُ الْيَهُودُ تَرَكُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ وَاسْتَحَلُّوا نِكَاحَ الْأُخْتِ مِنَ الْأَبِ وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ كَافِرٌ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَا فِي أَنَّ الْإِيمَانَ غَيْرُ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَطَفَ الْعَمَلَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْمَعْطُوفُ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، أَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّهُ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ التَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةُ مِنَ الْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَكُونُ مِنَ الْإِيمَانِ وَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الْجَوَابُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ عَطْفَ الْإِيمَانِ عَلَى التَّوْبَةِ يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ التَّوْبَةَ عَزْمٌ عَلَى التَّرْكِ وَالْإِيمَانَ إِقْرَارٌ بِاللَّهِ تَعَالَى وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ، فَكَذَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ يَلْقَوْنَ غَيًّا وَذَكَرُوا فِي الْغَيِّ وُجُوهًا: أَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ شَرٍّ عِنْدَ الْعَرَبِ غَيٌّ وَكُلَّ خَيْرٍ رَشَادٌ، قَالَ الشَّاعِرُ:
فَمَنْ يَلَقْ خَيْرًا يَحْمَدِ النَّاسُ أَمْرَهُ | وَمَنْ يَغْوَ لَا يَعْدَمْ عَلَى الْغَيِّ لَائِمَا |
السُّؤَالُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً هَذَا إِنَّمَا يَصِحُّ لَوْ كَانَ الثَّوَابُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْعَمَلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْكُلُّ بِالتَّفَضُّلِ لَاسْتَحَالَ حُصُولُ الظُّلْمِ لَكِنَّ مِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لِلْعَبْدِ بِعَمَلِهِ إِلَّا بِالْوَعْدِ. الْجَوَابُ: أنه لما أشبهه أجرى على حكمه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦١ الى ٦٣]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ فِي التَّائِبِ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَصَفَ الْجَنَّةَ بِأُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ وَالْعَدْنُ الْإِقَامَةُ وَصَفَهَا بِالدَّوَامِ عَلَى خِلَافِ حَالِ الْجِنَانِ فِي الدُّنْيَا الَّتِي لَا تَدُومُ وَلِذَلِكَ فَإِنَّ حَالَهَا لَا يَتَغَيَّرُ فِي مَنَاظِرِهَا فَلَيْسَتْ كَجِنَانِ الدُّنْيَا الَّتِي حَالُهَا يَخْتَلِفُ فِي خُضْرَةِ الْوَرَقِ وَظُهُورِ النَّوْرِ وَالثَّمَرِ وَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا: وَعْدُ الرَّحْمَنِ لِعِبَادِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُ: بِالْغَيْبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَ [هُمْ إِيَّا] هَا وَهِيَ غَائِبَةٌ عَنْهُمْ غَيْرُ حَاضِرَةٍ أَوْ هُمْ غَائِبُونَ عَنْهَا لَا يُشَاهِدُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ وَعْدُ الرَّحْمَنِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِبَادًا بِالْغَيْبِ أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ فِي السِّرِّ بِخِلَافِ الْمُنَافِقِينَ فَإِنَّهُمْ يَعْبُدُونَهُ فِي الظَّاهِرِ وَلَا يَعْبُدُونَهُ فِي السِّرِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَقْوَى لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ الْوَعْدَ مِنْهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ بِأَمْرٍ غَائِبٍ فَهُوَ كَأَنَّهُ صفحة رقم 552

مُشَاهَدٌ حَاصِلٌ، لِذَلِكَ قَالَ بَعْدَهُ: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أَمَّا قَوْلُهُ: مَأْتِيًّا فَقِيلَ إِنَّهُ مَفْعُولٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ وَالْوَجْهُ أَنَّ الْوَعْدَ هُوَ الْجَنَّةُ وَهُمْ يَأْتُونَهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ مَا وَصَلَ إِلَيْكَ فَقَدْ وَصَلْتَ إِلَيْهِ وَمَا أَتَاكَ فَقَدْ أَتَيْتَهُ وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا بَيَانٌ أَنَّ الْوَعْدَ مِنْهُ تَعَالَى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وَحَاصِلٌ/ وَالْمُرَادُ تَقْرِيرُ ذَلِكَ فِي الْقُلُوبِ. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ: لَا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم: ٦٢] وَاللَّغْوُ مِنَ الْكَلَامِ مَا سَبِيلُهُ أَنْ يُلْغَى وَيُطْرَحَ وَهُوَ الْمُنْكَرُ مِنَ الْقَوْلِ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: لَا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الْغَاشِيَةِ: ١١] وَفِيهِ تَنْبِيهٌ ظَاهِرٌ عَلَى وُجُوبِ تَجَنُّبِ اللَّغْوِ حَيْثُ نَزَّهَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الدَّارَ الَّتِي لَا تَكْلِيفَ فِيهَا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَهُ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفُرْقَانِ: ٧٢]، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [الْقَصَصِ: ٥٥] أَمَّا قَوْلُهُ: إِلَّا سَلاماً فَفِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهِ إِشْكَالًا وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ اللَّغْوِ فَكَيْفَ اسْتَثْنَى السَّلَامَ مِنَ اللَّغْوِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَى السَّلَامِ هُوَ الدُّعَاءُ بِالسَّلَامَةِ وَأَهْلُ الْجَنَّةِ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى هَذَا الدُّعَاءِ فَكَانَ ظَاهِرُهُ مِنْ بَابِ اللَّغْوِ وَفُضُولِ الْحَدِيثِ لَوْلَا مَا فِيهِ مِنْ فَائِدَةِ الْإِكْرَامِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ يَكُونَ هَذَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ | بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ |
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَفِيهِ سُؤَالَانِ: السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَصْفُ الْجَنَّةِ بِأَحْوَالٍ مُسْتَعْظَمَةٍ وَوُصُولُ الرِّزْقِ إِلَيْهِمْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا لَيْسَ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَعْظَمَةِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الْأَوَّلُ: قَالَ الْحَسَنُ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُرَغِّبَ كُلَّ قَوْمٍ بِمَا أَحَبُّوهُ فِي الدُّنْيَا وَلِذَلِكَ ذَكَرَ أَسَاوِرَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلُبْسَ الْحَرِيرِ الَّتِي كَانَتْ عَادَةَ الْعَجَمِ وَالْأَرَائِكَ الَّتِي هِيَ الْحِجَالُ الْمَضْرُوبَةُ عَلَى الْأَسِرَّةِ وَكَانَتْ مِنْ عَادَةِ أَشْرَافِ الْعَرَبِ فِي الْيَمَنِ وَلَا شَيْءَ كَانَ أَحَبَّ إِلَى الْعَرَبِ مِنَ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَوَعَدَهُمْ بِذَلِكَ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ دَوَامُ الرِّزْقِ كَمَا تَقُولُ أَنَا عِنْدَ فُلَانٍ صَبَاحًا وَمَسَاءً وَبُكْرَةً وَعَشِيًّا تُرِيدُ الدَّوَامَ وَلَا تَقْصِدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَعْلُومَيْنِ. السُّؤَالُ الثَّانِي: قَالَ تَعَالَى: لَا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الْإِنْسَانِ: ١٣]
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا صَبَاحَ عِنْدَ رَبِّكَ وَلَا مَسَاءَ»
وَالْبُكْرَةُ وَالْعَشِيُّ لَا يُوجَدَانِ إِلَّا عِنْدَ وُجُودِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ. وَالْجَوَابُ: الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يَأْكُلُونَ عِنْدَ مِقْدَارِ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ غُدْوَةٌ وَعَشِيٌّ إِذْ لَا لَيْلَ فِيهَا وَيَحْتَمِلُ مَا قِيلَ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ لِقَدْرِ الْيَوْمِ عَلَامَةً يَعْرِفُونَ بِهَا مَقَادِيرَ الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَهُمْ رِزْقُهُمْ مَتَى شَاءُوا كَمَا جَرَتِ الْعَادَةُ فِي الْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وَفِيهِ أَبْحَاثٌ: الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ:
تِلْكَ الْجَنَّةُ هَذِهِ الْإِشَارَةُ إِنَّمَا صَحَّتْ لِأَنَّ الْجَنَّةَ غَائِبَةٌ. وَثَانِيهَا: ذَكَرُوا فِي نُورِثُ وُجُوهًا الْأَوَّلُ: نُورِثُ اسْتِعَارَةٌ أَيْ نُبْقِي عَلَيْهِ الْجَنَّةَ كَمَا نُبْقِي عَلَى الْوَارِثِ مَالَ الْمُورِثِ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّا نَنْقُلُ تِلْكَ الْمَنَازِلَ مِمَّنْ لَوْ أَطَاعَ لَكَانَتْ لَهُ إِلَى عِبَادِنَا الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ فَجُعِلَ هَذَا النَّقْلُ إِرْثًا قَالَهُ الْحَسَنُ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَتْقِيَاءَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدِ انْقَضَتْ أَعْمَالُهُمْ وَثَمَرَاتُهَا بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْجَنَّةُ فَإِذَا أَدْخَلَهُمُ/ الْجَنَّةَ فَقَدْ أَوْرَثَهُمْ مِنْ تَقْوَاهُمْ كما يرث صفحة رقم 553