
لهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم «١».
وعند ابن ماجه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اتلوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا»
وعن صالح المرّي قال: قرأت القرآن عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، فقال لي: يا صالح، هذه القراءة، فأين البكاء؟ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: «إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود، حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه» «٢».
والذي يستنبط من هذه الآية كما فهم منها: أن جميع الأنبياء هم القدوة الصالحة والأسوة الحسنة للبشرية في سلامة العقيدة، وكثرة العبادة، وصحة الدين، ونقاوة الأصل، وطهارة النسب والمعدن. واستقامة المنهج والطريق، ورفعة الشأن والخلق.
صفات خلف الأنبياء وجزاؤهم وصفات التائبين ومستحقي الجنة
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥٩ الى ٦٣]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
(٢) تفسير الرازي: ٢١/ ٢٣٤.

الإعراب:
جَنَّاتِ عَدْنٍ جَنَّاتِ بدل منصوب من قوله: يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ أي يدخلون جنات عدن، وهو بدل الشيء من نفسه لأن الألف واللام في الجنة للجنس.
إِلَّا سَلاماً إما منصوب لأنه استثناء منقطع، أو منصوب على البدل من (لغو).
بِالْغَيْبِ حال.
نُورِثُ مِنْ عِبادِنا نُورِثُ مضارع أورث، وهو يتعدى إلى مفعولين، الأول منهما محذوف، وهو الهاء عائد الموصول، أي نورثها، والمفعول الثاني مَنْ كانَ تَقِيًّا. ومِنْ عِبادِنا متعلق بنورث، أي تلك الجنة التي نورثها من كان تقيا من عبادنا.
البلاغة:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ جناس ناقص لتغير الحركات والشكل.
بُكْرَةً وَعَشِيًّا بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
فَخَلَفَ بسكون اللام: عقب السوء، وبفتح اللام: عقب الخير. أَضاعُوا الصَّلاةَ تركوها بتاتا، أو أخروها عن وقتها. وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ انهمكوا في المعاصي واللذات.
غَيًّا أي شرا أو واديا في جهنم، والمعنى: يقعون في نار جهنم، ويلقون جزاءهم فيها. إِلَّا بمعنى لكن، وهو يدل على أن الآية في الكفرة. وَلا يُظْلَمُونَ ينقصون. شَيْئاً من ثوابهم وجزاء أعمالهم.
جَنَّاتِ عَدْنٍ جنات إقامة، وهذا وصف لها بالدوام بِالْغَيْبِ أي وهي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها. إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ موعوده. مَأْتِيًّا بمعنى آتيا لا محالة. أو أن موعوده الذي هو الجنة يأتيه أهله الذين وعدوا به.
لَغْواً فضولا من الكلام لا يفيد. إِلَّا سَلاماً أي لكن يسمعون سلاما من الله أو من الملائكة عليهم، أو من بعضهم على بعض. بُكْرَةً وَعَشِيًّا على عادة المتنعمين، والتوسط، وفي قدر وقتهما في الدنيا، علما بأنه ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدا.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى أولئك الأنبياء وأتباعهم بصفات الثناء والمدح من

اتباع أوامر الدين وترك نواهيه، ترغيبا في التأسي بطريقتهم، ذكر صفات الخلف الذين أتوا بعدهم ممن أضاعوا واجبات الدين، وانتهبوا اللذات والشهوات، ثم ذكر ما ينالهم من العقاب في الآخرة، إلا من تاب، فإن الله يقبل توبته، ويورثه جنات النعيم التي لا يرثها إلا الأتقياء.
قال الرازي: وظاهر الكلام. أن المراد من بعد هؤلاء الأنبياء خلف من أولادهم.
وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في قوم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق، كما تراكب الأنعام، لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.
أخرج أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتلا هذه الآية، قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة، أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا، ثم يكون خلف يقرءون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر».
التفسير والبيان:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ، فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا أي فجاء خلف سوء من بعد أولئك السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام وأتباعهم القائمون بحدود الله وأوامره، المؤدون فرائض الله، التاركون لزواجره.
أولئك الخلف يدّعون الإيمان واتباع الأنبياء، ولكنهم مخالفون مقصرون كاليهود والنصارى وفسّاق المسلمين الذين تركوا الصلاة المفروضة عليهم، وآثروا شهواتهم من المحرّمات على طاعة الله، فاقترفوا الزنى، وشربوا الخمور، وشهدوا شهادة الزور، ولعبوا الميسر، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، فهؤلاء جزاؤهم أنهم سيلقون غيا، أي شرا وخيبة وخسارا يوم القيامة، لارتكابهم المعاصي، وإهمال الواجبات.

والمراد بإضاعة الصلاة في الأظهر تركها بالكلام، وعدم فعلها أصلا، وجحود وجوبها. ويرى بعضهم كالشوكاني أن من أخر الصلاة عن وقتها، أو ترك فرضا من فروضها، أو شرطا من شروطها، أو ركنا من أركانها، فقد أضاعها.
لذا ذهب جماعة من السلف والخلف والأئمة، كما الذي رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي وهو المشهور عن الإمام أحمد وقول عن الشافعي إلى تكفير تارك الصلاة
للحديث: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة»
والحديث الآخر الذي رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن بريدة: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر».
ثم استثنى الله تعالى من الجزاء المتقدم التائبين، فقال:
إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أي لكن من تاب مما فرط منه من ترك الصلوات، واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملا صالحا، فأولئك يدخلهم ربهم الجنة، ويغفر لهم ذنوبهم لأن
«التوبة تجب ما قبلها» في حديث ذكره الفقهاء
، وفي
الحديث الآخر الذي رواه ابن ماجه عن ابن مسعود: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»
وأولئك أيضا لا ينقص من أجورهم شيء، وإن كان العمل قليلا لأن أعمالهم السابقة ذهبت هدرا، وصارت منسية، تفضلا ورحمة من الله الكريم اللطيف الحليم.
وهذا الاستثناء كقوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ، وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَلا يَزْنُونَ.. ثم قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٦٨- ٧٠].

ثم وصف الله تعالى الجنات التي يدخلها التائبون من ذنوبهم وهي أوصاف ثلاثة:
١- جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي هي جنات إقامة دائمة، وعد الرحمن بها عباده الأبرار بظهر الغيب، فآمنوا بها ولم يروها لقوة إيمانهم، ولأن وعد الله آت لا يخلف، ومنها الجنة، يأتيها أهلها لا محالة. وقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أي آتيا: تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله، كقوله: كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل ٧٣/ ١٨] أي كائنا لا محالة.
٢- لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً أي لا يسمع الأبرار أهل الجنة فيها كلاما ساقطا، أو تافها لا معنى له، أو هذرا لا طائل تحته، كما قد يوجد في الدنيا، ولكن يسمعون سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم، بما يشعرهم بالأمان والطمأنينة، وهما منتهى الراحة والسعادة.
وقوله: إِلَّا سَلاماً استثناء منقطع كقوله تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا: سَلاماً سَلاماً [الواقعة ٥٦/ ٢٥- ٢٦].
٣- وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أي يأتيهم ما يشتهون من الطعام والشراب قدر وقت البكرة والعشي، أي وقت الغداء صباحا، والعشاء مساء إذ ليس هناك ليل ولا نهار، وإنما بمقدار طرفي النهار في الدنيا، وفي أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنهار، كما
أخرج الإمام أحمد والشيخان في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أول زمرة تلج الجنة، صورهم على صورة القمر ليلة البدر، لا يبصقون فيها، ولا يتمخّطون فيها، ولا يتغوّطون، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة، ومجامرهم الألوّة «١»، ورشحهم

المسك، ولكل واحد منهم زوجتان، يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن، لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم على قلب رجل واحد، يسبحون الله بكرة وعشيا».
وهذا وقت طعام أهل الاعتدال، أما النهم فيأكل متى شاء. وأسباب استحقاق الجنان هي:
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا أي هذه الجنة التي وصفناها بتلك الأوصاف الرائعة هي التي نورثها عبادنا المتقين، وهم المطيعون لله عز وجل في السرّاء والضرّاء، أي نجعلها حقا خالصا لهم كملك الميراث، كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى أن قال:
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ، هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون ٢٣/ ١- ١١].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- جاء بعد الأنبياء وأتباعهم الأتقياء خلف سوء وأولاد شر.
أ- تركوا أداء الصلوات المفروضة، وهذا دليل على أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يعذب بها صاحبها.
روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضّبّي أنه أتى المدينة، فلقي أبا هريرة، فقال له: يا فتى، ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به قلت: بلى، قال: «إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة، فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته- وهو أعلم-:
انظروا في صلاة عبدي، أتمها أم نقصها، فإن كانت تامة، كتبت له تامة، وإن كان انتقص منها شيئا قال: انظروا هل لعبدي من تطوع، فإن كان له تطوع قال: أكملوا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذلك».

وأخرجه النسائي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر..» الحديث.
ب- واتبعوا شهواتهم وهي عبارة عما يوافق الإنسان ويشتهيه ويلائمه ولا يتقيه.
جاء في الصحيح: الذي رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أنس «حفّت الجنة بالمكاره، وحفّت النار بالشهوات».
٢- إن جزاء خلف السوء الغي، أي الهلاك والضلال في جهنم، أو أن الغي: واد في جهنم أبعدها قعرا، وأشدها حرا، فيه بئر يسمى البهيم، كلما خبت فتح الله تعالى تلك البئر، فتسعّر بها جهنم. قال ابن عباس: «غيّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حره، أعد الله تعالى ذلك الوادي للزاني المصرّ على الزنى، ولشارب الخمر المدمن عليه، ولآكل الربا الذي لا ينزع عنه، ولأهل العقوق، ولشاهد الزور، ولا مرأة أدخلت على زوجها ولدا ليس منه» أي كانت زانية به.
٣- يقبل الله توبة من تاب من عباده، من تضييع الصلوات واتباع الشهوات، فرجع إلى طاعة الله، وآمن به، وعمل صالح الأعمال، فهؤلاء يدخلون الجنة مع الأبرار، ولا ينقص من أعمالهم الصالحة شيء بسبب تقصيرهم الماضي، لكن يكتب لهم بكل حسنة عشر إلى سبع مائة.
٤- تلك هي جنات عدن، أي إقامة دائمة، وهي التي وعد بها الرحمن عباده، فآمنوا بها غيبيا، وإن لم يشاهدوها، ووعد الله آت لا ريب فيه، وإن الله لا يخلف الميعاد.
٥- خصائص الجنة وأوصافها: هي:
أولا- أن الوعد بها آت لا محالة، كما ذكر.