
وعاصم الجحدري: «ترئِنَّ» بهمزة مكسورة من غير ياء. أي: إِن رأيتِ من البشر أحداً فقولي وفيه إِضمار تقديره: فسألك عن أمر ولدك. فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فيه قولان:
أحدهما: صمتاً، قاله ابن عباس، وأنس بن مالك، والضحاك. وكذلك قرأ أُبيّ بن كعب وأبو رزين العقيلي: «صمتاً» مكان قوله: «صوماً» وقرأ ابن عباس: صياماً. والثاني: صوماً عن الطعام والشراب والكلام، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان المجتهد من بني إِسرائيل يصوم عن الكلام كما يصوم عن الطعام، إِلا من ذكر الله عزّ وجلّ. قاله السدي: فأذن لها أن تتكلم بهذا القدر ثم تسكت. قال ابن مسعود: أُمِرتْ بالصمت، لأنها لم تكن لها حُجَّة عند الناس، فأُمرتْ بالكفِّ عن الكلام ليكفيَها الكلامَ ولدُها بما يبرئ به ساحتها. وقيل: كانت تُكلِّم الملائكة ولا تكلِّم الإِنس. قال ابن الأنباري: الصوم في لغة العرب على أربعة معانٍ، يقال: صوم لترك الطعام الشراب وصوم للصمت، وصوم لضرب من الشجر، وصوم لذَرْق النعام.
واختلف العلماء في مقدار سنِّ مريم يوم ولادتها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها وَلَدت وهي بنت خمس عشرة سنة، قاله وهب بن منبِّه. والثاني: بنت اثنتي عشرة، قاله زيد بن أسلم. والثالث: بنت ثلاث عشرة سنة، قاله مقاتل.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
قوله تعالى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أتتهم به بعد أربعين يوماً حين طهرت من نفاسها. وقال في رواية الضحاك: انطلق قومها يطلبونها، فلما رأتْهم حملت عيسى فتلقَّتْهم به، فلذلك قوله عزّ وجلّ: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ.
فإن قيل: «أتت به» يغني عن «تحمله» فما فائدة التّكرير؟ فالجواب: أنه لما ظهرت منه آيات، جاز أن يتوهَّم السامع «فأتت به» أن يكون ساعياً على قدميه، فيكون سعية آيةً كنطقه، فقطع ذلك التوهُّمَ، وأعلم أنه كسائر الأطفال، وهذا مِثْل قول العرب: نظرت إِلى فلان بعيني، فنفَوْا بذلك نظر العطف والرحمة، وأثبتوا أنه نظرُ عَيْنٍ. وقال ابن السائب: لما دخلت على قومها بَكَوْا، وكانوا قوماً صالحين وقالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: شيئاً عظيماً، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، قال الفراء: الفريُّ: العظيم، والعرب تقول: تركته يفري الفريَّ، إِذا عمل فأجاد العمل فَفَضَلَ الناس، قيل هذا فيه.
(٩٥٤) قال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: «فما رأيت عبقريّا يفري فري عمر».

والثاني: عَجباً فائقاً، قاله أبو عبيدة. والثالث: شيئاً مصنوعاً، ومنه يقال: فريت الكذب، وافتريته، قاله اليزيدي.
قوله تعالى: يا أُخْتَ هارُونَ في المراد بهارون هذا خمسة أقوال: أحدها: أنه أخ لها من أُمِّها، وكان من أمثل فتى في بني إِسرائيل، قاله أبو صالح عن ابن عباس. وقال الضحاك: كان من أبيها وأُمِّها. والثاني: أنها كانت من بني هارون، قاله الضحاك عن ابن عباس. وقال السدي: كانت من بني هارون أخي موسى عليهما السلام، فنُسبت إِليه، لأنها من ولده. والثالث: أنه رجل صالح كان من بني إِسرائيل، فشبَّهوها به في الصلاح، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً، وقتادة، ويدل عليه ما روى المغيرة بن شعبة قال:
(٩٥٥) بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إِلى أهل نجران، فقالوا: ألستم تقرؤون: «يا أخت هارون» وقد علمتم ما كان بين موسى وعيسى؟ فلم أدرِ ما أُجيبهم، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرتُه، فقال: «ألا أخبرتَهم أنهم كانوا يسمُّون بأنبيائهم والصالحين قبلَهم».
والرابع: أن قوم هارون كان فيهم فُسَّاق وزُنَاةٌ، فنسبوها إِليهم، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أنه رجل من فُسَّاق بني إِسرائيل شبَّهوها به، قاله وهب بن منبِّه.
فعلى هذا يخرج في معنى «الأخت» قولان: أحدهما: أنها الأخت حقيقة. والثاني: المشابهة، لا المناسبة، كقوله تعالى: وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها «١».
قوله تعالى: ما كانَ أَبُوكِ يعنون: عِمران امْرَأَ سَوْءٍ أي: زانياً وَما كانَتْ أُمُّكِ حنّة بَغِيًّا زانية، فمن أين لكِ هذا الولد؟! قوله تعالى: فَأَشارَتْ أي: أومأت إِلَيْهِ أي: إِلى عيسى فتكلَّم، وقيل المعنى: أشارت إِليه أنْ كلِّموه. وكان عيسى قد كلَّمها حين أتت به قومها وقال: يا أُماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه، فلما أشارت أن كلِّموه، تعجَّبوا من ذلك، وقالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها زائدة، فالمعنى: كيف نكلِّم صبياً في المهد؟! والثاني: أنها في معنى: وقع، وحدث. والثالث: أنها في معنى الشرط والجزاء، فالمعنى: من يكن في المهد صبياً، فكيف نكلِّمه؟! حكاها الزجاج واختار الأخير منها، قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: كيف أعظ من كان لا يقبل موعظتي؟! أي: من يكن لا يقبل، والماضي يكون بمعنى المستقبل في الجزاء. والرابع: أن «كان» بمعنى صار، قاله قطرب.
وفي المراد بالمهد قولان: أحدهما: حجرها، قال نوف، وقتادة، والكلبيّ. والثاني: سرير الصّبي
__________
(١) سورة الزخرف: ٤٨.