
وليس الصمت عن الكلام من شريعة الإسلام، فقد روى أن أبا بكر دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم، فقال: إن الإسلام قد هدم هذا فتكلمى، وروى ابن أبى حاتم عن ابن مسعود أنه جاءه رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر ثم جلسا، فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلّم؟ قال إنه نذر صوما، لا يكلم اليوم إنسيا، فقال له ابن مسعود: بئس ما قلت، إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج إلا زنا- فتكلّم، وأمر بالمعروف، وأنه عن المنكر، فإنه خير لك.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
تفسير المفردات
فريّا: أي عظيما خارقا للعادة، وهى الولادة بلا أب، من فرى الجلد أي قطعه على وجه الإفساد أو الإصلاح، ومنه فى وصف عمر «فلم أر عبقريا يفرى فريّه» وفى المثل:
جاء يفرى الفرىّ، وهارون هو أخو موسى عليه السلام، وقيل هو رجل صالح من بنى إسرائيل، والأخت على هذا بمعنى المشابهة، وشبهوها به تهكما، أو لما رأوا من

قبل من صلاحها، والمهد: الموضع يهيّأ للصبى ويوطّأ له والجمع مهود، والكتاب:
الإنجيل، مباركا: نفّاعا للناس، أو ثابتا فى دين الله، الجبار: المتعظم الذي لا يرى لأحد عليه حقا، والشقي: العاصي لربه.
الإيضاح
(فأتت به قومها تحمله قالوا: يا مريم لقد جئت شيئا فريا) أي إن مريم حين أمرت أن تصوم يومها، ولا تكلم أحدا من البشر، وأنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها- سلمت أمرها إلى الله، واستسلمت لقضائه، فأخذت ولدها وأتت به قومها تحمله، فلما رأوها كذلك أعظموا ما رأوا، واستنكروا وقالوا يا مريم، لقد جئت أمرا عظيما منكرا.
ثم زادوا تأكيدا فى توبيخها وتعييرها فقالوا:
(يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء، وما كانت أمك بغيا) أي يا من أنت من نسل هارون أخى موسى، كما يقال للتميمى يا أخا تميم، وللمصرى يا أخا مصر، أو يا من أنت شبيهة بذلك الرجل المسمى بهذا الاسم الذي كنت تتأسّين به فى العبادة والزهد- ما كان أبوك بالفاجر وما كانت أمك بالبغىّ، فمن أين لك هذا الولد؟!.
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وعبد بن حميد وابن أبى شيبة وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون (يا أخت هارون) وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، قال فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ألا أخبرتم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم»
وهذا التفسير النبوي يغنى عن سائر ما روى عن السلف فى ذلك.
(فأشارت إليه) أي فأشارت إلى عيسى أن كلّموه، وإنما اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، أو اقتصرت على ذلك

للمبالغة فى إظهار الآية العظيمة، وأن هذا المولود يفهم الإشارة، ويقدر على العبارة.
(قالوا كيف نكلم من كان فى المهد صبيا) أي قالوا لها، متهكمين بها، ظانين أنها تزدرى بهم وتهزأ: كيف نكلم من هو صبى فى المهد، ولم يعهد فى مثله وهو لم يدرج بعد من حجر أمه أن يكلم أحدا؟.
روى أن عيسى لما سمع كلامهم أقبل عليهم وترك الرضاع وأشار بيمينه، ثم بدأ يتكلم فوصف نفسه بجملة صفات:
(١) (قال إنى عبد الله) أي إنى عبد الله الذي له صفات الكمال لا أعبد غيره، وفى هذا إيماء إلى أن من كان لا يتخذ إلها من دونه، ولا يستعبده شيطان ولا هوى.
(٢) (آتانى الكتاب) أي سينزل علىّ الإنجيل.
(٣) (وجعلنى نبيا) أي وسيجعلنى نبيا، وفى هذا براءة لأمه، لأن الله لا يصطفى لنبوته أولاد سفاح.
(٤) (وجعلنى مباركا أين ما كنت) أي سيجعلنى نفاعا للناس هاديا لهم إلى سبيل الرشاد فى أىّ مكان كنت، وقد جعل هذه الصفات كأنها حدثت له فعلا وهى لم تحصل بعد، من قبل أنها لما كانت واقعة حتما نزّلت منزلة ما قد حصل.
(٥) (وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا) أي وأمرنى بالصلاة، إذ فى إقامتها وإدامتها على الوجه الذي سنه الدين- تطهير النفوس من الأرجاس ومنع لها عن ارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأمرنى بالزكاة بإعطاء جزء من المال للبائس والمحتاج، لما في ذلك من تطهير المال- ما دمت حيا فى الدنيا.
(٦) (وبرا بوالدتى) أي وجعلنى برا بوالدتي، مطيعا لها محسنا، وفى هذا رمز إلى نفى الريبة عنها، إذ لو لم تكن كذلك لما أمر الرسول المعصوم بتعظيمها.