آيات من القرآن الكريم

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا
ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇ ﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜ ﮞﮟﮠﮡﮢﮣ ﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ

- ٣- نبوة عيسى ونطقه وهو طفل في المهد
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٢٧ الى ٣٣]
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١)
وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
الإعراب:
تَحْمِلُهُ جملة حالية.
يا أُخْتَ التاء هنا بدل عن واو، وليست للتأنيث لأنها تكتب بالتاء لا بالهاء نحو قائمة وذاهبة، مثل تاء: بنت.
بَغِيًّا على وزن فعول لا فعيل لأنه هنا بمعنى فاعل، وأتى بغير تاء. وهو صفة للمؤنث. كقولهم: امرأة صبور وشكور. وقد يأتي فعول بغير هاء إذا كان بمعنى مفعول، مثل فَمِنْها رَكُوبُهُمْ [يس ٣٦/ ٧٢].
مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ كان: إما بمعنى (حدث ووقع) فيكون صَبِيًّا حال من ضمير كانَ، وإما بمعنى (صار) فيكون صَبِيًّا خبر (صار) وإما كانَ زائدة.
وصَبِيًّا حال، وعامله فِي الْمَهْدِ. ولا يجوز جعل كانَ هنا ناقصة: لأنه لا اختصاص لعيسى بكونه في المهد، فهذا وصف لكل صبي، وإنما تعجبوا من كلام من صار في حال الصّبا في المهد.

صفحة رقم 80

ما دُمْتُ حَيًّا ما مصدرية ظرفية زمانية، أي مدة دوامي حيا، وحَيًّا خبر ما دُمْتُ، والجملة منصوبة على الظرف، وعامله أَوْصانِي.
وَبَرًّا بِوالِدَتِي معطوف على قوله مُبارَكاً ومُبارَكاً مفعول ثان لجعل. ومن قرأ وبر عطفه على (الصلاة) أي أوصاني بالصلاة وببرّ بوالدتي.
المفردات اللغوية:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ أتت مع ولدها قومها راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس حاملة إياه. فَرِيًّا عظيما منكرا خارقا للعادة، حيث أتيت بولد من غير أب. يا أُخْتَ هارُونَ هو أخو موسى عليه السلام، وكان بينهما ألف سنة، أو رجل صالح من بني إسرائيل، أي يا شبيهته في العفة، وشبهوها به تهكما. امْرَأَ سَوْءٍ أي زانيا. وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي زانية، فمن أين لك هذا الولد؟! وفيه تنبيه على أن الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ أشارت لهم إلى عيسى أن كلموه ليجيبكم. قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ أي وجد فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي لم نعهد صبيا في المهد كلمه عاقل. والْمَهْدِ فراش الصبي الرضيع الموطّأ له، جمع مهود.
آتانِيَ الْكِتابَ أي الإنجيل مُبارَكاً نفّاعا للناس، معلما للخير. والتعبير بالماضي:
إما باعتبار ما سبق في قضاء الله، فهو إخبار ما كتب له، أو بجعل المحقق وقوعه كالواقع.
وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ أمرني بهما أو كلفني. جَبَّاراً
متعاظما لا يرى لأحد حقا عليه.
شَقِيًّا عاصيا لربه. وَالسَّلامُ عَلَيَّ أي والأمان علي يوم الولادة ويوم الموت ويوم البعث حيا، كما هو على يحيى عليه السلام، والتعريف هنا في السلام على الأظهر للجنس.
التفسير والبيان:
لما اطمأنت مريم عليها السلام بما رأت من الآيات، وسلمت لأمر الله عز وجل، واستسلمت لقضائه أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها، كما قال تعالى:
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا: يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا أي لما برئت مريم من نفاسها، جاءت به قومها تحمله من المكان القصي، فلما رأوا الولد معها، حزنوا وأعظموا الأمر واستنكروه جدا، وقالوا منكرين: يا مريم، لقد فعلت أمرا عجيبا عظيما منكرا خارجا عن المألوف وهو الولادة بلا أب، وكانوا

صفحة رقم 81

أهل بيت صالحين: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [آل عمران ٣/ ٣٣- ٣٤].
يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ، وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أي يا شبيهة هارون في العبادة، أو يا من أنت من نسل هارون أخي موسى، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الوقت، أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة، فكيف تأتين بمثل هذا؟
ما كان أبوك بالفاجر، وما كانت أمك بالزانية البغي، فمن أين يأتيك السوء، ومن أين لك هذا الولد؟!!
أخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن المغيرة بن شعبة قال: «بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل نجران، فقالوا: أرأيت ما تقرؤون:
يا أخت هرون وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم»
.
وهذا يرشد إلى أن هارون هو رجل صالح في زمان مريم وعيسى عليهما السلام. ويستفاد من هذا جواز التسمية بأسماء الأنبياء.
فَأَشارَتْ إِلَيْهِ، قالُوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي فأشارت مريم إلى عيسى أن يكلمهم، وقد اكتفت بالإشارة ولم تأمره بالنطق، لأنها نذرت للرحمن صوما عن الكلام، فقالوا لها متهكمين بها، ظانين أنها تزدري بهم تهزأ:
كيف نكلم طفلا ما يزال في المهد، أي فراش الرضيع؟
وهنا ظهرت المعجزة الكبرى بنطق الرضيع ووصف نفسه بتسع صفات هي:
١- قالَ: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ قال عيسى: إني عبد تام العبودية لله الكامل الصفات، الذي لا أعبد غيره، فكان أول ما نطق به الاعتراف بالعبودية لربه،

صفحة رقم 82

وتبرئته عن الولد، تنبيها للنصارى على خطئهم فيما ادعوه له من الربوبية.
٢- آتانِيَ الْكِتابَ سينزل علي الإنجيل، وقدّر لي وحكم في الأزل أن أكون نبيا ذا كتاب، وقضى أنه يؤتيني الكتاب فيما قضى، وإن لم يكن الكتاب منزّلا في الحال.
٣- وَجَعَلَنِي نَبِيًّا أي قدّر لي أن أكون نبيا، وفي هذا تبرئة لأمه مما نسبت إليه من الفاحشة، لأن الله تعالى لا يجعل الأنبياء أولاد زنى، وإنما هم نخبة عالية من الطهر وصفاء السلالة والمعدن.
٤- وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ أي صيرني الله نفّاعا للعباد، معلما للخير، هاديا إلى الرشاد في أي مكان وجدت. وعبر تعالى عن هذه الصفات بصيغة الماضي إشارة إلى تحققها وحدوثها فعلا في المستقبل.
٥- وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وأمرني ربي بالصلاة التي تربط العبد بربه وتطهر النفس، وتمنعه عن اقتراف الفاحشة، وأمرني أيضا بزكاة المال التي هي طهرة للمال، وعون للفقير والمسكين، ما دمت على قيد الحياة في الدنيا.
٦- وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي وجعلني بارا بوالدتي مريم، وأمرني ببرها وطاعتها والإحسان إليها بعد طاعة ربي، لأن الله كثيرا ما يقرن بين الأمر بعبادته وطاعة الوالدين. وهذا أيضا دليل على نفي الزنى عنها، إذ لو كانت زانية، لما كان الرسول المعصوم مأمورا بتعظيمها.
٧- ٨: وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا أي ولم يجعلني متعظما عاصيا مستكبرا عن عبادة ربي وطاعته وبر والدتي، فأشقى بذلك.
٩- وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا أي

صفحة رقم 83

والسلامة علي من كل سوء يوم الميلاد، فلم يضرني الشيطان في ذلك الوقت، ولا أغواني عند الموت، ولا عند البعث، فأنا في أمان لا يقدر أحد على ضري في هذه الأوقات الثلاثة. وهذا إثبات منه لعبوديته لله عز وجل، وأنه مخلوق من خلق الله الذي يحيى ويموت ويبعث كسائر الخلائق، ولكن له السلامة في هذه الأحوال التي هي أشق ما يكون على العباد.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- جاءت مريم المؤمنة الواثقة بتأييد الله لها قومها مع ولدها، لما اطمأنت بما رأت من الآيات، وعلمت أن الله تعالى سيبين عذرها.
٢- يتأثر الناس عادة بظواهر الأمور ويتعجلون بالحكم عليها، فاتهموا مريم بأنها جاءت شيئا فريا، أي أمرا عظيما كالآتي بالشيء يفتريه، وأنكروا عليها بما عرفوا عنها من سيرة حميدة قضت شبابها في التبتل والعبادة، وبما علموا من استقامة أبويها.
فقالوا لها: يا أخت هارون، بمعنى: يا من كنا نظنّها مثل هارون في العبادة تأتي بمثل هذا؟ فهي كانت من ولد أو سلالة هارون أخي موسى، وإن كان بين موسى وهارون وبين عيسى زمان مديد قدّر بألف سنة فأكثر، فنسبت إليه بالأخوة، لأنها من ولده، كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللعربي: يا أخا العرب.
وقيل: هارون هذا رجل صالح في ذلك الزمان، تبع جنازته يوم مات أربعون ألفا، كلهم اسمه هارون. ويؤيد ذلك الحديث الثابت المتقدم.
٣- من معجزات عيسى عليه السلام نطقه وهو صغير في المهد، ونحن

صفحة رقم 84

المسلمون نعتقد بهذا اعتقادا جازما، لإثباته بنص القرآن القاطع، وأما اليهود والنصارى فينكرون أنه تكلم في المهد. وكان نطقه إظهارا لبراءة أمه، ثم انقطع كلامه في المهد حتى بلغ مبلغ الغلمان.
٤- وصف عيسى عليه السلام نفسه في كلامه المبين وهو طفل رضيع بصفات تسع، جمعت بين إثبات النبوة وإنزال الإنجيل عليه في المستقبل، وتبرئة أمه من تهمة الزنى، وإثبات عبوديته لله عز وجل، فهو عبد لله لا ربّ ولا إله، كما يعتقد النصارى، واتصافه بالبركات ومنافع الدين والدعوة إليه، واستقامة سلوكه وأخلاقه، فهو برّ بوالدته، ليس متعظما متكبرا، ولا عاصيا خائبا من الخير، ملتزما تشريع الله في العبادة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بعد بلوغه من التكليف.
٥- قوله تعالى: وَبَرًّا بِوالِدَتِي أي جعلني برا بوالدتي يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، لأن الآية تدل على أن كونه برا، إنما حصل بجعل الله وخلقه.
٦- قال مالك بن أنس رحمه الله تعالى في هذه الآية: ما أشدها على أهل القدر «١» ! أخبر عيسى عليه السلام بما قضي من أمره، وبما هو كائن إلى أن يموت.
٧- الإشارة بمنزلة الكلام وتدل على ما يدل عليه ويحدث بها الإفهام والفهم، كيف لا، وقد أخبر الله تعالى عن مريم، فقال: فَأَشارَتْ إِلَيْهِ وفهم منها القوم مقصودها وغرضها فقالوا: كَيْفَ نُكَلِّمُ. وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس «بعثت أنا والساعة كهاتين». وإجماع العقلاء على أن العيان أقوى من الخبر، دليل على أن الإشارة

(١) هم القدرية الذين يقولون: إن العبد يخلق أفعال نفسه، والمعاصي لا يريدها الله تعالى.

صفحة رقم 85
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية