
[المجلد الرابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة مريمهذه السورة مكية بإجماع إلا السجدة منها فقالت فرقة هي مكية وقالت فرقة هي مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦)
اختلف الناس في الحروف التي في أوائل السور على قولين فقالت فرقة: هو سر الله في القرآن لا ينبغي أن يعرض له، يؤمن بظاهره ويترك باطنه. وقال الجمهور بل ينبغي أن يتكلم فيها وتطلب معانيها فإن العرب قد تأتي بالحرف الواحد دالا على كلمة وليس في كتاب الله ما لا يفهم، ثم اختلف هذا الجمهور على أقوال قد استوفينا ذكرها في سورة البقرة، ونذكر الآن ما يختص بهذه السورة. قال ابن عباس وابن جبير والضحاك هذه حروف دالة على أسماء من أسماء الله تعالى الكاف من «كبير»، وقال ابن جبير أيضا الكاف من «كاف»، وقال أيضا هي من «كريم» فمقتضى أقواله أنها دالة على كل اسم فيه كاف من أسمائه تعالى. قالوا والهاء من «هاد»، والياء من «علي» وقيل من «حكيم»، وقال الربيع بن أنس هي من «يأمن» لا يجير ولا يجار عليه. قال ابن عباس والعين من «عزيز» وقيل من «عليم» وقيل من «عدل»، والصاد من «صادق» وقال قتادة بل كهيعص بجملته اسم للسورة، وقالت فرقة بل هي اسم من أسماء الله تعالى.
وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يقول يا كهيعص اغفر لي، فهذا يحتمل أن تكون الجملة من أسماء الله تعالى ويحتمل أن يريد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن ينادي الله تعالى بجميع الأسماء التي تضمنها كهيعص، كأنه أراد أن يقول «يا كريم يا هادي يا علي يا عزيز يا صادق» اغفر، فجمع هذا كله باختصار في قوله يا كهيعص. وقال ابن المستنير وغيره كهيعص عبارة عن حروف المعجم، ونسبه الزجاج إلى أكثر أهل اللغة، أي هذه الحروف منها ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا وعلى هذا يتركب قول من يقول ارتفع ذِكْرُ بأنه خبر عن كهيعص، وهي حروف تهج يوقف عليها بالسكون. وقرأ الجميع كاف بإثبات الألف والفاء. وقرأ نافع الهاء والياء وبين الكسر والفتح ولا يدغم الدال صفحة رقم 3

في الذال، وقرأ ابن كثير ونافع أيضا بفتح الهاء والياء، وقرأ الحسن بن أبي الحسن بضم الهاء وفتح الياء، وروي عنه ضم الياء، وروي عنه أنه قرأ كاف بضم الفاء.
قال أبو عمرو الداني: معنى الضم في الهاء والياء إشباع التفخيم وليس بالضم الخالص الذي يوجب القلب، وقرأ أبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء، وقرأ عاصم بكسرها، وقرأت فرقة بإظهار النون من عين وهي قراءة حفص عن عاصم وهو القياس إذ هي حروف منفصلة، وقرأ الجميع غيره بإخفاء النون جعلوها في حكم الاتصال، وقرأ الأكثر بإظهار الدال من صاد، وقرأ أبو عمرو بإدغامه في الذال من قوله ذِكْرُ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع بإظهار هذه الحروف كلها وتخليص بعضها من بعض. وارتفع قوله ذِكْرُ فيما قالت فرقة بقوله كهيعص وقد تقدم وجه ذلك، وقالت فرقة: ارتفع على خبر ابتداء تقديره «هذا ذكر»، وقالت فرقة: ارتفع بالابتداء والخبر مقدر تقديره فيما أوحي إليك ذكر، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وابن يعمر «ذكر رحمة ربك» بفتح الذال والكاف والراء على معنى هذا المتلو ذكر «رحمة» بالنصب، هذه حكاية أبي الفتح. وحكى أبو عمرو الداني عن ابن يعمر أنه قرأ «ذكّر رحمة» بفتح الذال وكسر الكاف المشددة ونصب الرحمة و «عبده» نصب ب «الرحمة» التقدير ذكر أن رحم ربك عبده»، ومن قال في الكلام تقديم وتأخير فقد تعسف. وقرأ الجمهور «زكرياء» بالمد، وقرأ الأعمش ويحيى وطلحة «زكريا» بالقصر وهما لغتان وفيه لغات غيرهما. وقوله نادى معناه بالدعاء والرغبة. واختلف في معنى «إخفائه» هذا النداء، فقال ابن جريج ذلك لأن الأعمال الخفية أفضل وأبعد من الرياء، ومنه قول النبي عليه السلام «خير الذكر الخفي» وقال غيره يستحب الإخفاء بين العبد ومولاه في الأعمال التي يزكو بها البشر. وفي «الدعاء» الذي هو في معنى العفو والمغفرة لأنه يدل من الإنسان على أنه خير فإخفاؤه أبعد من الرياء وأما دعاء زَكَرِيَّا وطلبه فكان في أمر دنياوي وهو طلب الولد فإنما إخفاؤه لئلا يلومه الناس في ذلك، وليكون على أول أمره إن أجيب نال بغيته وإن لم يجب لم يعرف أحد بذلك، ويقال وصف بالخفاء لأنه كان في جوف الليل. ووَهَنَ معناه ضعف، والوهن في الشخص أو الأمر الضعف وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء وَاشْتَعَلَ مستعارة للشيب من اشتعال النار على التشبيه به.
وشَيْباً نصب على المصدر في قول من رأى اشْتَعَلَ بمعنى شاب، وعلى التمييز في قول من لا يرى ذلك بل رآه فعلا آخر، فالأمر عنده كقولهم: تفقأت شحما وامتلأت غيظا. وقوله وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا شكر لله تعالى على سالف أياديه عنده معناه أي قد أحسنت إلي فيما سلف وسعدت بدعائي إياك فالإنعام يقتضي أن يشفع آخره أوله. وقوله تعالى: وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ الآية، اختلف الناس في المعنى الذي من أجله خاف الْمَوالِيَ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق من ذلك، وروى قتادة والحسن عن النبي ﷺ أنه قال «يرحم الله أخي زكرياء ما كان عليه ممن يرث ماله». وقالت فرقة إنما كان مواليه مهملين للدين، فخاف بموته أن يضيع الدين، فطلب وَلِيًّا يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج وفيه أنه لا يجوز أن يسأل «زكريا» من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق بن عطية رضي الله عنه: وهذا يؤيد قول النبي عليه السلام «إنا