
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (١٣) ﴾
يقول تعالى ذكره: فولد لزكريا يحيى، فلما ولد، قال الله له: يا يحيى، خذ هذا الكتاب بقوة، يعني كتاب الله الذي أنزله على موسى، وهو التوراة بقوّة، يقول: بجدّ.
كما حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: بجدّ.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: بجدّ.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ) قال: القوّة: أن يعمل ما أمره الله به، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه.
قال أبو جعفر: وقد بيَّنت معنى ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا، في سورة آل عمران، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
وقوله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) يقول تعالى ذكره: وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال.
وقد حدثنا أحمد بن منيع، قال: ثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرني معمر، ولم يذكره عن أحد في هذه الآية (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) قال: بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى: اذهب بنا نلعب، فقال: ما للعب خُلقتُ، فأنزل الله (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).
وقوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول تعالى ذكره: ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا.

وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان، فقال بعضهم: معناه: الرحمة، ووَجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا علي، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: ورحمة من عندنا.
حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرمة، في هذه الآية (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: رحمة.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: رحمة من عندنا.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: رحمة من عندنا لا يملك عطاءها غيرنا.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: رحمة من عندنا، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ورحمة من عندنا لزكريا، آتيناه الحكم صبيا، وفعلنا به الذي فعلنا.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) يقول: رحمة من عندنا.
وقال آخرون: معنى ذلك: وتعطفا من عندنا عليه، فعلنا ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى ; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: تعطفا من ربه عليه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

وقال آخرون: بل معنى الحنان: المحبة. ووجهوا معنى الكلام إلى: ومحبة من عندنا فعلنا ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن يحيى بن سعيد، عن عكرمة (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: محبة عليه.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَحَنانا) قال: أما الحنان فالمحبة.
وقال آخرون معناه تعظيما منا له.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عطاء بن أبي رباح (وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا) قال: تعظيما من لدنا. وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا أدري ما الحنان.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: والله ما أدري ما حنانا.
وللعرب في حَنَانَك لغتان: حَنَانَك يا ربنا، وحَنانَيك; كما قال طَرَفة بن العبد في حنانيك:
أبا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا | حَنانَيْكَ بعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِن بعضِ (١) |

ويَمْنَحُها بَنُو شَمَجَى بن جَرْمٍ | مَعِيزَهُمُ حَنانَكَ ذَا الحَنانِ (١) |
ضَرْبا هَذَا ذَيْكَ وطَعْنا وَخْضًا (٢)
وقد سوّى بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية، في أن كل ذلك تثنية. وأصل ذلك أعني الحنان، من قول القائل: حنّ فلان إلى كذا وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق، ثم يقال: تحنَّنَ فلان على فلان، إذا وصف بالتعطُّف عليه والرقة به، والرحمة له، كما قال الشاعر:
تَحَنّنْ عَليَّ هَدَاكَ المَلِيكُ | فإنَّ لِكُلّ مَقامٍ مَقالا (٣) |
(٢) البيت في (اللسان: هذذ) غير منسوب. قال: الهذ والهذذ: سرعة القطع وسرعة القراءة. قال: ضربا هذا ذيك: أي هذا بعد هذ، يعني قطعا بعد قطع. وعلى هذا استشهد به المؤلف.. والوخض: قال الأصمعي: إذا خالطت الطعنة الجوف ولم تنفذ، فذلك الوخض والوخط أه. يقال: وخضه بالرمح وخضا.
(٣) البيت للحطيئة (لسان العرب: حنن). قال: وتحنن عليه: ترحم، وأنشد ابن بر الحطيئة: تحنن علي... البيت.

وَلَيْلَةٍ ذَاتِ دُجًى سَرَيْتُ | ولَمْ تَضِرْنِي حَنَّةٌ وَبيْتُ (١) |
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله (وَزَكاةً) قال: الزكاة: العمل الصالح الزكيّ.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول: في قوله (وَزَكاةً) يعني العمل الصالح الزاكي.
وقوله (وكانَ تَقِيًّا) يقول تعالى ذكره: وكان لله خائفا مؤدّيا فرائضه، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته.
كما: حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال: طهر فلم يعمل بذنب.
حدثني يونس، قال: خبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله (وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا) قال: أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس.
(اللسان: حنن). وقد استشهد بالبيتين الأولين منهما صاحب اللسان في (ليت). واستشهد بهما المؤلف في الجزء الخامس عشر عند تفسير قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده) وموضع الشاهد هنا في البيت الثالث وهو قوله: " حنة ". قال: وحنة الرجل: امرأته، قال أبو محمد الفقعسي: " وليلة ".... إلخ. الأبيات الثلاثة. قال: وهي طلته وكنيته ونهضته وحاصنته وحاضنته.