
الظاهر، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما، واختلف الناس في «الكنز» : فقال عكرمة وقتادة كان مالا جسيما، وقال ابن عباس كان علما في صحف مدفونة، وقال عمر مولى غفرة كان لوحا من ذهب قد كتب فيه عجبا للموقن بالرزق كيف يتعب، وعجبا للموقن بالحساب كيف يغفل، وعجبا للموقن بالموت كيف يفرح، وروي نحو هذا مما هو في معناه، قوله وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ظاهر اللفظ والسابق منه أنه والدهما دنيّة، وقيل هو الأب السابع، وقيل العاشر، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته»، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها [الكهف: ٧٩] وفي الثانية فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما وفي الثالثة فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا وإنما انفرد أولا في الإرادة لأنها لفظة عيب، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠]، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى، وأسند المرض إلى لنفسه، إذ هو معنى نقص ومصيبة، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيرا، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ [الصف: ٥]، وتقديم فعل الله تعالى في قوله ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: ١١٨]، وإنما قال الخضر في الثانية فَأَرَدْنا لأنه أمل قد كان رواه هو وأصحابه الصالحون، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين، وتمنى البديل لهما، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى. لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى، وإن كان الخضر قد أراد أيضا ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر، والله أعلم، و «الأشد» كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن، فقيل خمس وثلاثون، وقيل ست وثلاثون، وقيل أربعون، وقيل غير هذا مما فيه ضعف، وقول الخضر وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي يقتضي أن الخضر نبي، وقد اختلف الناس فيه: فقيل هو نبي، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم، وتقول فرقة إنه حي، لأنه شرب من عين الحياة، وهو باق في الأرض، وأنه يحج البيت، وغير هذا، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، كلها لا يقوم على ساق، ولو كان الخضر عليه السلام حيا يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي ﷺ «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد»، وقوله ذلك تأويل أي مآل، وقرأت فرقة «تستطع»، وقرأ الجمهور «تسطع» قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع» المصحف، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا [الكهف: ٥٨] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي ﷺ في قومه أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله.
قوله عز وجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦)

اختلف فيمن سأله عن هذه القصة، فقيل سألته طائفة من أهل الكتاب، وروى في ذلك عقبة بن عامر حديثا ذكره الطبري وقيل إنما سألته قريش، حين دلتها اليهود على سؤاله عن الروح، والرجل الطواف، وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك، و «ذو القرنين» : هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه، فيقال المقدوني، وذكر ابن إسحاق في كتاب الطبري أنه يوناني، وقال وهب بن منبه هو رومي، وذكر الطبري حديثا عن النبي ﷺ «أن ذا القرنين شاب من الروم» وهو حديث واهي السند، فيه عن شيخين من تجيب، واختلف الناس في وجه تسميته ب ذِي الْقَرْنَيْنِ، فأحسن الأقوال أنه كان ذا ضفرتين من شعر هما قرناه، فسمي بهما، ذكره المهدوي وغيره، والضفائر قرون الرأس، ومنه قول الشاعر: [الكامل]
فلثمت فاها آخذا بقرونها | شرب النزيف لبرد ماء الحشرج |
قال القاضي أبو محمد: وهذا كله بعيد، وقال علي بن أبي طالب: إنما سمي «ذا القرنين» لأنه ضرب على قرن رأسه فمات. ثم حيي ثم ضرب على قرن رأسه الآخر فمات، فسمي بذلك لأنه جرح على قرني رأسه جرحين عظيمين في يومين عظيمين من أيام حربه فسمي بذلك، وهذا قريب، والتمكين له في الأرض أنه ملك الدنيا، ودانت له الملوك كلها، فروي أن جميع من ملك الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران، والمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران نمرود وبخت نصر، وقوله وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً معناه علما في كل أمر، وأقيسة يتوصل بها إلى معرفة الأشياء، وقوله كُلِّ شَيْءٍ عموم، معناه الخصوص في كل ما يمكن أن يعلمه ويحتاج إليه، وثم لا محالة أشياء لم يؤت منها سببا يعلمها به، واختلف في ذِي الْقَرْنَيْنِ فقيل هو نبي، وهذا ضعيف. وقيل هو ملك بفتح اللام، وروي عن علي بن أبي طالب أنه سمع رجلا يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة. وروي عن النبي ﷺ أنه سئل عنه فقال «ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب». وقيل هو عبد ملك بكسر اللام صالح، نصح لله فأيده، قاله علي بن أبي طالب، وقال فيكم اليوم مثله، وعنى بذلك نفسه، والله أعلم. وقوله فَأَتْبَعَ سَبَباً الآية، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو «فاتّبع» صفحة رقم 538

بشد التاء، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي «فأتبع» بسكون التاء على وزن أفعل، قال بعض اللغويين هما بمعنى واحد، وكذلك تبع، وقالت فرقة «أتبع» بقطع الألف: هي عبارة عن المجد المسرع الحثيث الطلب، و «اتبع» إنما يتضمن معنى الاقتفاء دون هذه القرائن، قاله أبو زيد وغيره.
قال القاضي أبو محمد: واستقرأ هذا القائل هذه المقالة من القرآن كقوله عز وجل فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: ١٠]، وكقوله فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ [يونس: ٩٠] [طه: ٧٨]، وكقوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ [الأعراف: ١٧٥]، وهذا قول حكاه النقاش عن يونس بن حبيب، وإذا تأملت «اتّبع» بشد التاء لم تربط لك هذا المعنى ولا بد. و «السبب» في هذه الآية، الطريق المسلوكة، لأنها سبب الوصول إلى المقصد، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم «في عين حمئة»، على وزن فعلة، أي ذات حماة، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، والباقون في «عين حامية»، أي حارة، وقد اختلف في ذلك قراءة معاوية وابن عباس فقال ابن عباس «حمئة»، وقال معاوية «حامية»، فبعثا إلى كعب الأحبار ليخبرهم بالأمر كيف هو في التوراة، فقال لهما أما العربية فأنتما أعلم بها مني، ولكني أجد في التوراة أنها تغرب في عين ثاط، والثاط الطين. فلما انفصلا قال رجل لابن عباس: لوددت أني حضرت يا أبا العباس، فكنت أنجدك بشعر تبع الذي يقول فيه في ذكر ذي القرنين: [الكامل]
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا تدين له الملوك ويحشد |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب أمر من حكيم مرشد |
فرأى مغار الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثاط حرمد |
قال القاضي أبو محمد: وظاهر هذه الأقوال تخيل والله أعلم، قال أبو حاتم: وقد يمكن أن تكون «حاميئة» مهموزة، بمعنى ذات حمأة، فتكون القراءتان بمعنى واحد، واستدل بعض الناس عل أن ذا القرنين نبي، بقوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ومن قال إنه ليس بنبي، قال كانت هذه المقالة من الله له بإلهام، وإِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل على الكفر وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً أي بالإجمال على الإيمان، واتباع الهدى، فكأنه قيل له هذه لا تعطيها إلا إحدى خطتين: إما أن تكفر فتعذبها، وإما أن تؤمن فتحسن صفحة رقم 539