الصخرة وذهب الحوت.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انطلقا وأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال" (١). ولم يجد النَّصَب حتى جاوز حيث أمره الله تعالى ﴿قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا﴾ الآية. ونحو هذا قال ابن عباس وجميع المفسرين: (إنه لم ينْصَب حتى جاوز الموضع الذي يريده، فلما خرج من حد الموضع نصب فدعا بالطعام ليأكل) (٢). والغداء: الطعام الذي يؤكل بالغداة. كالعشاء: الطعام الذي يؤكل بالعشي. والنَّصب: التعب والوهن الذي يكون عن الكلال (٣).
قال الليث: (النَّصب الإعياء من العناء، والفعل نَصِبَ يَنْصَب، وأنْصَبَنِي هذا الأمر) (٤).
٦٣ - قال المفسرون: فلما قال له موسى ذلك تذكر قصة الحوت؛ لأنه كان من عنده عذابهما، فقال: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ [الكهف: ٦٣] الآية.
قال صاحب النظم: (الأمر عند الناس قوله: أرأيت من رؤية البصر، وليس كذلك، إنما هي كلمة وضعت لتنبيه المسؤول (٥) عنه وبعثه على
(٢) "جامع البيان" ١٥/ ٢٧٨، "معالم التنزيل" ٥/ ١٨٦، "الكشاف" ٢/ ٣٩٦، "لجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٣.
(٣) انظر: "تهذيب اللغة" (نصب) ٤/ ٣٥٨١، "مقاييس اللغة" (نصب) ٥/ ٤٣٤، "القاموس المحيط" (نصب) ١/ ١٣٨.
(٤) "تهذيب اللغة" (نصب) ٤/ ٣٥٨١.
(٥) في نسخة (ص): (على ما يسأل عنه).
التفهم والإجابة كما قال -عز وجل -: ﴿أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى﴾ [العلق: ١١]، والدليل على ذلك أن الفاء في قوله: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ يدل على أنه جواب لمعنى يقتضي الفاء، والتأويل: إن شاء الله أرأيت. أي: اسمع وتفهم فإني نسيت الحوت) (١). ونحو هذا قال أبو علي الفارسي: (وأما ما جاء أرأيت فيه بمعنى انتبه فقوله: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ كأن المعنى: انتبه فإني نسيت الحوت، ولذلك دخلت الفاء كما تدخل في جواب الجزاء. ومثله: ﴿أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ﴾ [الملك: ٣٠]، كأنه انتبهوا فمن يأتيكم) (٢).
وقوله تعالى: ﴿إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ﴾ يعني: حين نزلا هناك ووضع يوشع المكتل الذي فيه الحوت عند الصخرة.
وقوله تعالى: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ﴾ قال ابن عباس في حديث أبي بن كعب مرفوعًا: (فإني نسيت الحوت أن أحدثكه) (٣). وعلى هذا المعنى نسيت قصة الحوت وأمره على ما ذكرنا. ثم اعتذر فقال: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ﴾ وذلك؛ لأنه لو ذكر لموسى قصة الحوت عند الصخرة ما جاوزها موسى، وما ناله النصب الذي شكاه في قوله: ﴿لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ فاعتذر فتاه من ذلك بأن أنساه الشيطان إياه. قال أهل المعاني: (معناه شغل قلبي بوسوسته حتى نسيته؛ لأن الشيطان لا يقدر على فعل النسيان وإنما عرضه له) (٤).
(٢) ذكر نحوه في "الحجة للقراء السبعة" ٣/ ٣٠٩.
(٣) سبق تخريج الحديث في أول القصة.
(٤) "النكت والعيون" ٣/ ٣٢٤، "التفسير الكبير" ٢١/ ١٤٧.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ قال أبو إسحاق: (﴿أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ بدل من الهاء لاشتمال الذكر على الهاء في المعنى، وما أنساني أن أذكره إلا الشيطان) (١). قال ابن عباس: (يريد أن أحدث بقصة الحوت) (٢). وهذه الآية تدل على صحة قول المفسرين في قوله: ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ قال ابن عباس في رواية سعيد بن جبير: (اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا) (٣). ونحو هذا قال قتادة، ومجاهد، وابن زيد (٤). وقد ذكرنا: أن مسلك الحوت لم يلتئم فدخل موسى ذلك المسلك. وينتصب ﴿عَجَبًا﴾ على هذا بوقوعه موقع الحال، كأنه قيل: واتخذ موسى سبيل الحوت عاجبًا من ذلك الأمر (٥).
قال مجاهد: (تعجب موسى من أثر الحوت في البحر ودورانه التي غاب فيها) (٦).
وقال ابن زيد: (أي شيء أعجب من حوت كان دهرًا من الدهور يؤكل منه، ثم صار حيًا حتى مشى في البحر) (٧). وهذا القول اختيار الفراء
(٢) ذكرته كتب التفسير بدون نسبة. انظر: "جامع البيان" ١٥/ ٢٧٨، "الكشف والبيان" ٣/ ٣٩١ أ، "بحر العلوم" ٢/ ٣٠٥، "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٧١، "المحرر الوجيز" ٩/ ٣٥٤ - ٣٥٥، "النكت والعيون" ٣/ ٣٢٤.
(٣) "جامع البيان" ١٥/ ٢٧٥.
(٤) "جامع البيان" ١٥/ ٢٧٥، "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٤٧٢.
(٥) "إملاء ما من به الرحمن" ص ٤٠٢، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤٤٥، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٨٤.
(٦) "جامع البيان" ١٥/ ٢٧٦، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٨٤.
(٧) "جامع البيان" ١٥/ ٢٧٥،"معالم التنزيل" ٥/ ١٨٧.
فقد قال: (واتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا) (١). ويجوز أن ينتصب عجبا بأنه نعتُ محذوفٍ؛ كأنه قيل: سبيلاً عجبًا. ذكره ابن قتيبة (٢). وهذا القول الذي ذكرنا عن هؤلاء بعيدة لأن اتخاذ موسى سبيل الحوت مسلكًا كان بعد أن ارتدا على آثارهما قصصًا، إلا أن تحمل النظم على التقديم والتأخير، ولكن التقريب أن يجعل قوله: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا﴾ من قول يوشع [إخبارًا عن الحوت أنه فعل ذلك. ذهب إلى هذا طائفة من المفسرين فقالوا: (هذا من قول يوشع] (٣) يقول: اتخذ الحوت سبيله في البحر سبيلاً عجبًا) (٤). وذكر الزجاج هذا القول (٥).
وذكر كثير من أهل العلم: (أن الكلام قد تمَّ عند قوله: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ﴾ ويحسن الوقف هاهنا ثم تقول (٦): ﴿عَجَبًا﴾) (٧). ووجه هذا ما قاله أبو إسحاق: (وهو أن يكون قال يوشع: ﴿وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ﴾ فأجابه موسى فقال: ﴿عَجَبًا﴾ كأنه قال: أعْجَبُ عَجَبًا) (٨).
(٢) "تفسير غريب القرآن" ١/ ٢٦٨.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من نسخة (ص).
(٤) "معالم التنزيل" ٥/ ١٨٧، "المحرر الوجيز" ٩/ ٣٥٥، "الكشاف" ٢/ ٣٩٦، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٠٠.
(٦) قوله: (تقول)، ساقط من (ص).
(٧) "المحرر الوجيز" ٩/ ٣٥٥، "الجامع لأحكام القرآن" ١١/ ١٤، "البحر المحيط" ٦/ ١٤٦، "المكتفى في الوقف والابتداء" ص ٣٧٠، "الإيضاح" ٢/ ٢٥٩، "القطع والإئتناف" ص ٤٤٨.
(٨) "معالم التنزيل" ٥/ ١٨٧، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٠٠.