آيات من القرآن الكريم

قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﰿ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊ ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ ﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟ ﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕ

ثم أبان أن هذا إمهال لا إهمال فقال:
(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) أي بل لهم موعد ليس لهم منه محيص ولا ملجأ يلجئون إليه من عذابه.
ثم ذكر ما هو كالدليل على ما سلف فقال:
(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) أي وتلك القرى من عاد وثمود وأصحاب الأيكة أهلكناهم لما ظلموا فكفروا بآياتنا، وجعلنا لهلا كهم ميقاتا وأجلا حين بلغوه جاءهم عذابنا فأهلكناهم به، وهكذا جعلنا لهؤلاء المشركين من قومك الذين لا يؤمنون بك موعدا لهلاكهم إذا جاء أهلكناهم كما هى سنتنا فى الذين خلوا من قبلهم من أضرابهم من سالفى الأمم.
قصة موسى والخضر
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٧٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)

صفحة رقم 170

مقدمات تشرح هذا القصص
(١) من موسى؟
أكثر العلماء على أن موسى الذي ذكر فى هذه الآية هو موسى بن عمران نبىّ بنى إسرائيل صاحب المعجزات الظاهرة والشريعة الباهرة، ولهم على ذلك أدلة:
(ا) إنه ما ذكر الله موسى فى كتابه إلا أراد صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان شخصا آخر سمّى بهذا الاسم لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز وتزيل الشبهة.
(ب) ما أخرجه البخاري ومسلم فى جماعة آخرين عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس رضى الله عنهما: إن نوفا البكالي بن فضالة ابن امرأة كعب من أصحاب أمير المؤمنين على كرم الله وجهه، يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى صاحب بنى إسرائيل، فقال كذب عدو الله.
وذهب أهل الكتاب وتبعهم بعض المحدّثين والمؤرخين أن موسى هنا هو موسى بن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبيا قبل موسى بن عمران ولهم على ذلك أدلة:

صفحة رقم 171

(ا) إن موسى بعد أن أنزلت عليه التوراة وكلمه الله بلا واسطة، وحجّ خصمه بالمعجزات العظيمة التي لم يتفق مثلها لأكثر الأنبياء- يبعد أن يبعثه الله بعد ذلك ليستفيد علما من غيره- وردّ هذا بأنه لا يبعد بأن العالم الكامل فى أكثر العلوم يجهل بعد أشياء، فيحتاج فى تعلمها إلى من دونه، وهذا مشاهد معلوم.
(ب) إن موسى عليه السلام بعد خروجه من مصر وذهابه إلى التيه توفّى ولم يخرج قومه منه إلا بعد وفاته، ولو كانت هذه القصة معه لا قتضت خروجه من التيه، لأنها لم تكن وهو فى مصر بالاتفاق.
(ح) إنها لو كانت معه لا قتضت غيبته أياما، ولو كان كذلك لعلمها الكثير من بنى إسرائيل الذين كانوا معه ونقلت لتوافر الدواعي على نقلها، ولم يكن شىء من ذلك، فإذا لم تكن معه- وردّ هذا بأنه قد يكون موسى عليه السلام خرج وغاب أياما، لكن لم يعلموا أنه ذهب لهذا الغرض، بل ذهب ليناجى ربه، ولم يقفهم على حقيقة غيبته بعد أن رجع، لعلمه بقصور فهمهم، فخاف من حط قدره عندهم، فأوصى فتاه بكتمان ذلك.
وعلى الجملة فإنكارهم لا يؤبه به، وهو جائز عقلا وقد أخبر به سبحانه رسوله (٢) من فتاه؟
فتى موسى- هو يوشع بن نون بن إفرائيم بن يوسف عليه السلام، وقد كان يخدمه ويتعلم منه، والعرب تسمى الخادم فتى، لأن الخدم أكثر ما يكونون فى سن الفتوّة كما يطلقون على العبد فتى،
وفى الحديث الصحيح «ليقل أحدكم فتاى وفتاتى، ولا يقل عبدى وأمتى»
وهذا من محاسن الآداب الشرعية.
(٣) من الخضر؟
الخضر (بفتح الخاء وكسرها وكسر الضاد وسكونها) لقب لصاحب موسى، واسمه بليا (بفتح الباء وسكون اللام) ابن ملكان، والأكثرون على أنه كان نبيا، ولهم على ذلك أدلة:

صفحة رقم 172

(ا) قوله: «آتيناه رحمة من عندنا» والرحمة: النبوة بدليل قوله:
«أهم يقسمون رحمة ربّك».
(ب) قوله «وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً» وهذا يقتضى أنه علّمه بلا واسطة معلم ولا إرشاد مرشد، وكل من كان كذلك كان نبيا.
(ح) إنه قال له موسى: «هل أتبعك على أن تعلّمن» والنبي لا يتعلم من غير النبي.
(د) إنه قال: «وما فعلته عن أمرى» أي بل قد فعلته بوحي من الله وهذا دليل النبوة.
(٤) أين كان مجمع البحرين؟
مجمع البحرين- هو المكان الذي يجتمع فيه البحران ويصيران بحرا واحدا، وفيه رأيان:
(ا) إنه ملتقى بحرى فارس والروم (ملتقى المحيط الهندي والبحر الأحمر عند باب المندب).
(ب) إنه ملتقى بحر الروم والمحيط الأطلنطى عند طنجة قاله محمد بن كعب القرظي (البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسى عند مضيق جبل طارق أمام طنجة).
وسيأتى رأى آخر للبقاعى.
وليس فى الكتاب الكريم ما يدل على تعيين هذين البحرين، فإن جاء فى الخبر الصحيح شىء فذاك، وإلا فيجمل السكوت عنه.
تفسير المفردات
لا أبرح: أي لا أزال سائرا، والحقب (بضمتين وبضم فسكون) الدهر، وقيل ثمانون سنة، وعن الحسن سبعون، مجمع بينهما، أي مكان اجتماعهما، سربا:

صفحة رقم 173

أي مسلكا كالسرب: وهو النفق فصار الماء عليه كالقنطرة، والغداء: الطعام الذي يؤكل أول النهار والمراد به هنا الحوت، نصبا: أي تعبا وإعياء، أوينا: أي التجأنا نبغى: نطلب، ارتد: رجع، على آثارهما: أي على طريقهما الذي جاءا منه، قصصا:
أي اتباعا من قولهم أثره إذا اتبعه، رحمة: هى النبوة هنا، الرشد (بضم فسكون وبفتحتين) إصابة الخير، والإحاطة بالشيء: معرفته معرفة تامة، والخبر: المعرفة، وذكرا: أي بيانا، إمرا: (بكسر الهمزة) أي منكرا: من أمر الأمر بمعنى كثر، والعرب تصف الدواهي بالكثرة، لا ترهقنى: أي لا تحملني، والعسر: ضد اليسر وهو المشقة، زكية: أي طاهرة من الذنوب، بغير نفس: أي بغير حق قصاص لك عليها، والنكر: المنكر الذي تنكره العقول وتنفر منه النفوس.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه قصص المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأنصار، وامتنعوا عن حضور مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم، لئلا يشتركوا مع أولئك الصعاليك فى مجلس واحد، ولئلا يؤذوهم بمناظرهم البشعة، وروائحهم المستقذرة- قفّى على ذلك بذكر قصص موسى عليه السلام مع الخضر، ليبيّن بها أن موسى مع كونه نبيا صادقا أرسله الله إلى بنى إسرائيل بشيرا ونذيرا وهو كليم الله- أمر أن يذهب إلى الخضر ليتعلم منه مالم يعلمه، وفى ذلك دليل على أن التواضع خير من التكبر.
روى البخاري ما خلاصته- إن موسى عليه السلام قام فى بنى إسرائيل خطيبا فسئل: أىّ الناس أعلم؟ فقال أنا، فعتب عليه ربه، إذ لم يردّ العلم إليه تعالى فأوحى إليه: إن لى عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، وأمره أن يأخذ حوتا فى مكتل، فحيثما فقد الحوت فهو ثمّة، ففعل ذلك، وسافر مع فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا صخرة فناما فاضطرب الحوت وسقط فى البحر- فاتخذ سبيله فى البحر

صفحة رقم 174

سربا- وصار الماء كالطاق عليه وهو يجرى، فلما استيقظ موسى نسى صاحبه أن يخبره بالحوت، وانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كان الغد طلب موسى الغداء ووجد النّصب، ولم ذلك إلا بعد أن جاوزا المكان الذي أمره الله به، فقال فتاه: إنى نسيت الحوت وذكر ما كان من أمره عند الصخرة، فارتدا على آثارهما قصصا، حتى انتهيا إلى الصخرة فوجدا رجلا مسجّى بثوب أبيض، وكان من أمر هما ما سترى من مسألة السفينة والغلام والجدار.
الإيضاح
(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) أي واذكر أيها الرسول حين قال موسى بن عمران لفتاه يوشع: لا أزال أمشى حتى أبلغ مكان اجتماع البحرين أو أسير دهرا.
وسبب قوله هذا: أن الله أوحى إليه أن عبدا من عبادى بمجمع البحرين عنده من العلم مالم تحط به، فأحبّ أن يرحل إليه.
وخلاصة ذلك- إن الله أعلم موسى حال هذا العالم وما أعامه موضعه بعينه، فقال لا أزل أمشى حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضى دهرا طويلا حتى أجده.
ومجمل الأمر أنه وطن نفسه على تحمل التعب الشديد والعناء العظيم فى السفر مهما طال به الزمان.
(فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) أي فانطلقا يمشيان، فلما بلغا مجمع بينهما وهو المكان الذي وعده الله بلقائه عنده- نسيا حوتهما فاتخذ الحوت طريقه فى البحر مسلكا وصار الماء كالقنطرة عليه، فكان ذلك للحوت سربا، ولموسى وفتاه عجبا.
ولا شك أن حياة الحوت بعد موته كانت لموسى معجزة، وأما كون ماء البحر

صفحة رقم 175

صار كالقنطرة عليه أو كأى وضع آخر، فليس بالواجب علينا أن نعتقده إلا إذا ثبت بالنص القاطع.
روى أن موسى عليه السلام أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له: متى فقدت الحوت فهو ثمة، فأخذ حوتا وجعله فى مكتل (قفة) ثم انطلق ومعه فتاه حتى إذا أتيا الصخرة وكانت عند مجمع البحرين ناما واضطرب الحوت فى المكتل وخرج منه وسقط فى البحر.
روى البخاري ومسلم أن الله تعالى قال لموسى: خذ نونا (حوتا) ميتا فهو حيث ينفخ فيه الروح، فأخذ ذلك فجعله فى مكتل، وقال لفتاه: لا أكلفك إلا أن تخبرني بحيث يفارقك الحوت، قال: ما كلفت كثيرا، فبينما هما فى ظل صخرة إذ تسرّب الحوت حتى دخل البحر وموسى نائم فقال فتاه: لا أوقظه، حتى إذا استيقظ نسى أن يخبره.
وأخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن ابن عباس: جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا ييس حتى يكون صخرة.
وحدث محمد بن إسحاق عن الزهري عن ابن عباس عن أبىّ بن كعب قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم حين ذكر حديث ذلك: «ما انجاب ماء منذ كان الناس غير مسير الحوت الذي فيه، فانجاب كالكوّة حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه، فقال ذلك ما كنا نبغ».
(فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) أي فلما جاوزا ذلك المكان المقصود من مجمع البحرين، وسارا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان الغد وارتفع النهار أحس موسى بالجوع، حينئذ قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا تعبا ونصبا من ذلك السفر.
وقد كان من الحكمة فى حصول الجوع والتعب له حين جاوز المكان أن يطلب الغداء فيذكر الحوت فيرجع إلى حيث يجتمع بمن يريد.

صفحة رقم 176

(قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ، وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً) أي قال له فتاه: أرأيت ما حدث لى حين التجأنا إلى الصخرة التي بمجمع البحرين؟ إنى نسيت أن أخبرك بما حدث من الحوت، إنه حىّ واضطرب ووقع فى البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا. وذاك أن مسلكه كان كالطاق والسّرب- وما أنسانى ذكره إلا الشيطان.
(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ) أي قال موسى: ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت ما كنا نطلبه من حيث إنه أمارة للفوز بما هو المقصود بالذات.
(فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي فرجعا فى الطريق الذي جاءا فيه يتبعان أثرهما اتباعا حتى أتيا الصخرة.
قال البقاعي- إن هذا يدل على أن الأرض كانت رملا لا علامة فيها، فالظاهر والله أعلم أنها مجمع النيل والملح عند دمياط أو رشيد من بلاد مصر، ويؤيده نقر العصفور فى البحر الذي ركب فيه سفينته للتعدية كما ورد فى الحديث، فإن الطير لا يشرب من الماء الملح اه.
وخلاصة ما تقدم- إنه تعالى بيّن لموسى عليه السلام أن موضع هذا العالم مجمع البحرين، وأن علامة وجوده فى المكان المعين انقلاب الحوت الميت الذي فى المكتل حيا، فلما بلغا مجمع بينهما اضطرب الحوت فيه ووثب فى الماء وقد أمسك الله إجراء الماء على البحر وجعله كالطاق أو الكوّة حتى سرى الحوت فيه، فلما جاوز موسى وفتاه المكان المعين وهو الصخرة بسبب النسيان، وسارا كثيرا وتعبا وجاعا قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، قال الفتى: أرأيت ما وقع لى من الحوت حين لجأنا إلى الصخرة فاتخذ سبيله فى البحر اتخاذا عجبا إذا انقلب من المكتل وصار حيا وألقى نفسه فى البحر على غفلة منى، وإنى نسيت أن أبلغك خبره، وما أنسانى ذكره إلا الشيطان، قال موسى ذلك الذي كنا نطلبه، لأنه أمارة الظفر

صفحة رقم 177

بالمطلوب وهو لقاء الخضر، فرجعا فى طريقهما الأولى، إذ علما أنهما تجاوزا الموضع الذي يقيم فيه ذلك العالم.
(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً؟) أي فوجد موسى وفتاه عند الصخرة حين رجعا إليها عبدا من عبادنا وهو الخضر مسجى بثوب أبيض، فسلم عليه موسى فقال الخضر: وأنّى بأرضك السلام؟ فقال أنا موسى. قال موسى بنى إسرائيل؟ قال نعم. قال هل أصحبك لتعلمنى مما علمك الله شيئا أسترشد به فى أمرى من علم نافع وعمل صالح؟.
(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) يا موسى، فإنى على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله، علّمكه لا أعلمه.
ثم أكد ذلك مشيرا إلى علة عدم الاستطاعة فقال:
(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً؟) أي وكيف تصبر وأنت نبى على ما أتولى من أمور ظواهرها منكرة، وبواطنها مجهولة، والرجل الصالح لا يتمالك أن يصبر إذا رأى ذلك، بل يبادر بالإنكار.
(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً) معك غير منكر عليك.
(وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) تأمرنى به غير مخالف لظاهر أمر الله.
(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أي قال له الخضر: إن سرت معى فلا تفاتحنى فى شىء أنكرته علىّ حتى أبتدى بذكره فأبين لك وجه صوابه، فإنى لا أقدم على شىء إلا وهو صواب جائز فى نفس الأمر وإن كان ظاهره غير ذلك، فقبل موسى شرطه رعاية لأدب المتعلم مع العالم.
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها) أي فانطلقا يمشيان على الساحل يطلبان سفينة فوجداها، فعرف أهلها الخصر من بينهم فحملوهم بغير أجر، حتى إذا ركبا فى السفينة خرقها حين توسطوا لجّة البحر، إذ أخذ الخضر فأسا فخرق لوحا من ألواح السفينة.

صفحة رقم 178

(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً؟) أي قال موسى للخضر: لقد جئت عظيما منكرا، ثم أخذ موسى ثوبه فحشا به الخرق.
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) أي قال الخضر: ألم أقل لك يا موسى إنك لن تستطيع صبرا معى فيما ترى مما أفعل.
(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) أي قال موسى للخضر لا تؤاخذني بما غفلت عن التسليم لك وترك الإنكار عليك، ولا تكلفنى مشقة، ولا تضيق علىّ أمرى، ولا تعسّر علىّ متابعتك، بل يسرها بالإغضاء وترك المناقشة.
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) أي فانطلقا بعد نزولهما من السفينة وسلامتهما من الغرق والعطب، يمشيان على الساحل فأبصر الخضر غلاما يلعب مع لداته وأترابه فقتله، ولم يبين القرآن كيف قتله: أحزّ رأسه أم ضرب رأسه بالجدار، أم بطريق آخر؟ وعلينا ألا نهتم بذلك، إذ لو علم الله فيه خيرا لنا لذكره.
(قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟) أي قال موسى عليه السلام للخضر:
أتقتل نفسا طاهرة من الذنوب بغير قتل نفس محرمة؟ وخص هذا من بين مبيحات القتل كالكفر بعد الإيمان، والزنا بعد الإحصان، لأنه أقرب إلى الوقوع نظرا إلى حال الغلام.
(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي لقد جئت شيئا تنكره العقول وتنفر منه النفوس.
وأتى هنا بقوله (نكرا) وهناك بقوله (إمرا) لأن قتل الغلام أقبح من خرق السفينة، لأن هذا لم يكن إهلاكا لنفس، إذ ربما لا يحصل الغرق، وفى هذا إتلاف النفس قطعا، فكان أنكر.
وإلى هنا تم تفسير الجزء الخامس عشر فى الليلة السادسة عشرة من شعبان المعظم سنة ثلاث وستين وثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بمدينة حلوان من أرباض القاهرة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

صفحة رقم 179

فهرس أهم المباحث العامة التي فى هذا الجزء
الصفحة المبحث ٥ آراء العلماء فى الإسراء ٨ إلمامة فى المعراج ٩ عظة وذكرى فيما يستخلص من الإسراء والمعراج ١٥ سلط الفرس على بنى إسرائيل مرتين ١٧ صفات القرآن ٢٣ لكل امرئ كتاب يلقاه منشورا يوم القيامة ٢٥ الناس بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم أصناف ثلاثة ٣٣ شعائر الإيمان ٣٦ ما جاء فى بر الوالدين من الأحاديث ٤٠ «ما عال من اقتصد» ٤٢ مفاسد الزنا ٤٣ الحكمة فى تحريم قتل النفس ٤٦ فى الحديث: «أعوذ بك من شر سمعى وشر بصرى وشر قلبى وشر منى» ٥٤ إنكار المشركين للبعث وشبهاتهم على ذلك ٥٧ ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا فى القبر ولا فى الحشر ٥٩ «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة» ٦٣ فى الحديث «سلوا الله لى الوسيلة» ٦٦ كان الإسراء فتنة للناس واختبارا لإيمانهم

صفحة رقم 180

الصفحة المبحث ٧١ الشيطان يغرى الناس بأن لا ضرر من فعل المعاصي ٧٤ المشركون يدعون الله حين الشدة، ويعرضون عنه حين الرخاء ٧٧ المعول عليه يوم القيامة الأعمال لا الأنساب ٨١ أمره صلى الله عليه وسلّم بإقامة الصلاة لأوقاتها ٨٣ «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار» ٨٤ المقام المحمود للنبى صلى الله عليه وسلّم ٨٤ الهداة تشرق قلوبهم حين توجههم إلى الله فى أوقات الصلاة ٨٥ طلب الرسول صلى الله عليه وسلّم من ربه التسلط بالحجة والملك ٨٦ القرآن شفاء ورحمة ٨٨ آراء العلماء فى الروح ٩٠ تحذير الهداة من تركهم العمل بالقرآن مرضاة للرؤساء والعامة ٩١ لو اجتمع الإنس والجن لم يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن ٩٣ اقتراح المشركين على الرسول صلى الله عليه وسلّم إنزال الآيات الكونية ٩٧ لو أرسل الله تعالى ملكا لجعله بشرا ٩٧ جاء جبريل فى صورة دحية الكلبي ٩٨ الكفار يحشرون على وجوههم عميا وبكما وصما.
١٠٠ الدليل على إثبات البعث ١٠١ «يد الله ملأى لا تغيضها نفقة» ١٠٣ آيات موسى التسع ١٠٥ سكنى بنى إسرائيل أرض الشام ١٠٧ محمد صلى الله عليه وسلّم مبشر ونذير

صفحة رقم 181

الصفحة المبحث ١٠٨ أهل الكتاب يخرون للأذقان سجدا إذا سمعوا القرآن ١١٠ ما وصف به سبحانه نفسه من صفات الكمال ١١١ تنزيه الله سبحانه على ضروب ١١٥ الذين قالوا: اتخذ الله ولدا ثلاث طوائف ١١٨ قصص أهل الكهف كما أثر عن العرب ١٢٠ إجمال القرآن لقصص أهل الكهف ١٢٣ تفصيل قصص أهل الكهف وبسطه ١٢٥ فى أي زمن كان حادث أهل الكهف؟
١٣٤ نهينا عن اتخاذ القبور مساجد ١٣٥ عدد أهل الكهف ١٣٧ أمرنا أن نقدم المشيئة إذا عزمنا على فعل شىء ١٣٨ الثلاثمائة السنة الأفرنجية هى الثلاثمائة والتسع العربية ١٤٢ كان صناديد قريش يأبون أن يجلسوا مع الفقراء فى مجلس النبي صلى الله عليه وسلّم ١٤٥ ما أعد الله لأهل الجنة من النعيم ١٤٨ مثل الجنتين ١٥٠ حوار بين المؤمن والكافر ١٥٢ ندم الكافر على ما فعل ١٥٣ مثل الحياة الدنيا ١٥٤ المال والبنون زينة الحياة الدنيا ١٥٦ أحوال يوم القيامة ١٥٦ كيفية عرض الخلائق يوم القيامة

صفحة رقم 182

الصفحة المبحث ١٥٨ المجرمون يشفقون مما فى كتابهم ١٦٢ هل إبليس من الجن أو الملائكة؟
١٦٣ تدعى الأصنام للشفاعة فلا تستجيب ١٦٥ فى القرآن من الأمثال ما فيه مقنع لمن تذكر وتدبر ١٦٨ قال المشركون القرآن أساطير الأولين ١٧٠ قصص موسى والخضر ١٧١ من موسى؟ ومن الخضر؟
١٧٣ أين كان مجمع البحرين؟

صفحة رقم 183
تفسير المراغي
عرض الكتاب
المؤلف
أحمد بن مصطفى المراغي
الناشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر
الطبعة
الأولى، 1365 ه - 1946 م
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية