
غلبت الاسمية عليها حتى لم يعد يلمح لأصل التفضيل فيها.
وننتهز الفرصة لنورد أبياتا من القصيدة التي منها هذا البيت لأبي نواس لحسنها، ومطلعها:
ساع بكأس إلى ناس على طرب | كلاهما عجب في منظر عجب |
قامت تريني وستر الليل منسدل | صبحا تولد بين الماء والعنب |
كأن تركا صفوفا في جوانبها | تواتر الرمي بالنشاب من كثب |
في كف ساقية ناهيك ساقية | في حسن قدّ وفي ظرف وفي أدب |
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١) صفحة رقم 584

اللغة:
(أَعْتَدْنا) : أعددنا وهيأنا وفي القاموس «عتّد وأعتد الشيء:
هيأه وأعده وعتد الشيء يعتد من باب ظرف وجمل عتادا تهيأ، وتعتد في صنعته تأنّق فيها والعتاد: ما أعد لأمر ما، وكل ما هيء من سلاح وآلة حرب والجمع أعتد وعتد وأعتدة».
(سُرادِقُها) : السرادق بضم السين وكسر الدال: الفسطاط الذي يمد فوق صحن البيت والخيمة والغبار والدخان المرتفع المحيط بالشيء والجمع سرادقات وفي الكشاف: «شبه ما يحيط بهم من النار بالسرادق وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وبيت مسردق ذو سرادق وقيل هو دخان يحيط بالكفار قبل دخول النار وقيل حائط من نار يطيف بهم» وقال الراغب: «السرادق: فارسي معرب وليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا وفي المختار: السرادق مفرد والجمع سرادقات الذي يمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف أي قطن فهو سرادق ويقال بيت مسردق.
قال الجوهري: والسرادق واحد السرادقات وهي التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف فهو سرادق ومنه قول رؤبة:

يا حكم بن المنذر بن جارود | سرادق المجد عليك ممدود |
هو المدخل النعمان بيتا سماؤه | صدور الفيول بعد بيت مسردق |
(المهل) : بضم الميم اسم يجمع معدنيات الجواهر كالفضة والحديد والصفر، ما كان منها ذائبا، القطران الرقيق، الزيت الرقيق، السم، القيح أو صديد الميت خاصة، ما يتحات عن الخبز من الرماد وقيل هو كعكر الزيت أي ما بقي في الإناء منه والخلاصة هو اسم جامع لكل المستقذرات التي تغثى منها النفس وتتألم وتنفر.
(مُرْتَفَقاً) : تقدم ذكر هذه المادة في هذه السورة وهي هنا متكأ من المرفق وهذا لمشاكلة قوله وحسنت مرتفقا الآتي وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء وقد يكون من وادي قوله:
إني أرقت فبت الليل مرتفقا | كأن عيني فيها الصاب مذبوح |
(السندس) : ما رقّ من الديباج.
(الاستبرق) : ما غلظ من الديباج والإستبرق يونانية والسندس صفحة رقم 586

فارسية وقيل هندية وقد تقدم ذكرهما في جدول أحصينا فيه الألفاظ الأعجمية.
الإعراب:
(وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) الحق خبر لمبتدأ محذوف ومن ربكم حال ويجوز أن يكون الحق مبتدأ ومن ربكم خبره، فمن شاء الفاء استئنافية ومن شرطية مبتدأ وشاء فعل ماض في محل جزم فعل الشرط والفاعل مستتر تقديره هو والفاء رابطة للجواب لأن الجملة طلبية واللام لام الأمر ويؤمن مضارع مجزوم بلام الأمر ومن شاء فليكفر عطف على سابقتها. (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) إن واسمها وجملة أعتدنا خبرها وللظالمين متعلقان بأعتدنا ونارا مفعول به وأحاط بهم سرادقها الجملة صفة لنار، وأحاط فعل ماض وبهم متعلقان بأحاط وسرادقها فاعل أحاط.. (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) الواو عاطفة وإن شرطية ويستغيثوا فعل الشرط مجزوم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل ويغاثوا جواب الشرط وبماء متعلقان بيغاثوا وكالمهل صفة لماء وجملة يشوي الوجود صفة ثانية أو حال والوجوه مفعول به. (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) بئس فعل ماض جامد من أفعال الذم، والشراب فاعل والمخصوص بالذم محذوف أي هي وساءت عطف على بئس ومرتفا تمييز محول عن الفاعل أي مرتفقها ولا تلتفت لمن أعربها مصدرا. (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) إن واسمها وجملة آمنوا صلة وعملوا الصالحات عطف على آمنوا، إنا لا نضيع يجوز أن تكون هذه الجملة خبر إن أو يجوز أن تجعلها معترضة وان واسمها وجملة لا نضيع خبرها وفاعل نضيع مستتر تقديره نحن وأجر مفعول

به ومن موصول مضاف اليه وجملة أحسن صلة وعملا تمييز ويجوز أن يكون مفعولا به وفاعل أحسن ضمير هو الرابط إذا جعلت إنا لا نضيع خبر إن الذين أو الرابط هو تكرر الظاهر بمعناه. (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ) الجملة خبر ثان لإن الذين أو خبر إذا جعلت جملة إنا لا نضيع معترضة وأولئك مبتدأ ولهم خبر مقدم وجنات عدن مبتدأ مؤخر والمبتدأ الثاني وخبره خبر أولئك وجملة تجري من تحتهم الأنهار حال من جنات أو صفة لها فصار لهم بذلك نوعان من الثواب من خمسة أنواع والثلاثة الباقية هي:
(يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ) يحلون فعل مضارع مبني للمجهول والواو نائب فاعل وفيها حال أي حال كونهم في الجنة أو متعلقان بيحلون ومن أساور متعلقان بمحذوف صفة لمفعول محذوف أي حليا من ذهب، ومن ذهب صفة لأساور ويلبسون عطف على يحلون والواو فاعل وثيابا مفعول به وخضرا صفة ومن سندس صفة أو حال من ثيابا وإستبرق عطف على سندس ومتكئين حال من أولئك وفيها حال أيضا فهي متداخلة وعلى الأرائك متعلقان بمتكئين فتمت بذلك النعم السوابغ الخمس. (نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) تقدم اعراب نظيرتها فجدد به عهدا.
البلاغة:
في هذه الآيات فنون كثيرة من البلاغة تقدم ذكر معظمها فنكتفي بالاشارة إليها:
١- التهكم:
في قوله تعالى «يغاثوا بماء كالمهل» فقد سمى أعلى أنواع العذاب

إغاثة والإغاثة هي الإنقاذ من العذاب تهكما بهم وتشفيا منهم والتهكم فن طريف من فنونهم من تهكمت البئر إذا تهدمت أو من التهكم بمعنى الغضب الشديد أو الندم على أمر فائت فالبشارة فيه إنذار والوعد معه وعيد والإجلال للمخاطب المتهكم به تحقير وهذه الآية من أحسن شواهده إذ جعل الإغاثة ضد الإغاثة نفسها ففيه الى جانب التهكم مشاكلة أيضا وقد افتتن الشعراء بهذا المعنى وأخذه بعضهم بلفظه فأجاد من جهة وأسف من جهة التركيب وذلك بقوله يهجو بخيلا:
أبات الضيوف على سطحه | فبات يريهم نجوم السماء |
وقد فتت الجوع أكبادهم | وان يستغيثوا يغاثوا بماء |
ارع فيها الموسى فإنك منها | يشهد الله في اثام كبير |
أيما كوسج يراها فيلقى | ربه بعدها صحيح الضمير |
هو أحرى بأن يشك ويغرى | باتهام الحكم في التقدير |
لحية أهملت فسالت وفاضت | فإليها تشير كف المشير |
ما رأتها عين امرئ ما رآها | قط إلا أهلّ بالتكبير |
روعة تستخفه لم يرعها | من رأى وجه منكر ونكير |
فاتق الله ذا الجلال وغيّر | منكرا فيك ممكن التغيير |
أو فقصّر منها فحسبك منها | نصف شبر علامة التذكير |
البحتري ذنوب الوجه تعرفه | وما رأينا ذنوب الوجه ذا أدب |
في قوله تعالى «إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها» فقد شبه النار المحيطة بهم بالسرادق المضروب على من يحتويهم وأضيف السرادق الى النار فذلك هو التشبيه المؤكد وهو أن يضاف المشبه الى المشبه به كقول بعضهم:
والريح تعبث بالغصون وقد جرى | ذهب الأصيل على لجين الماء |
دخلتها وحواشيها زمردة | والشمس فوق لجين الماء عقيان |
٣- المشاكلة:
وذلك في قوله «وساءت مرتفقا» فقد ذكر الارتفاق مشاكلة لقوله فيما بعد في وصف أهل الجنة «وحسنت مرتفقا» لأن ارتفاق صفحة رقم 590

اليد في النار لا يصح بل فيها العذاب والضرر وقد ذكرنا في باب اللغة انه يجوز أن يكون الارتفاق ناشئا عن الهم والعذاب كقول الهذلي المتقدم فلا مشاكلة ومن طريف المشاكلة قول بعضهم وقد دعاه إخوانه الى صبوح وليس لديه ثياب يلبسها فكتب إليهم:
إخواننا قصدوا الصبوح بسحرة | وأتى رسولهم إليّ خصيصا |
قالوا التمس شيئا نجد لك طبخة | قلت اطبخوا لي جبة وقميصا |
٤- الاستتباع:
وهو فن جميل يتقصى الشيء الذي تتصدى للكتابة عنها باستقصاء الأوصاف المحيطة به والملائمة له فلا يكاد المتكلم يذكر معنى من المعاني أو يتناول غرضا من الأغراض حتى يستتبع معنى آخر من جنسه يقتضي زيادة في وصفه فقد ذكر تعالى الجنة جزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات فوصفها بأن الأنهار تجري خلالها من تحتهم ثم ذكر الأساور حلية لهم ونكرها لإبهام أمرها في الحسن وجمع بين السندس والإستبرق وهما ما رقّ وغلظ من ألبسة الحرير على عادة المترفين الذين يعدون ثيابا للصيف تصلح له وللشتاء لباسا أخرى تلائم حالات البرد الشديد وخص الاتكاء بالذكر لأنه هيئة المنعّمين المترفين المسترخين على المقاعد والسرر في الابهاء الممتعة والقصور المنيفة فسبحان قائل هذا الكلام. صفحة رقم 591

ومن الاستتباع في الشعر قول المتنبي:
نهبت من الأعمار ما لو حويته | لهنئت الدنيا بأنك خالد |
الى كم ترد الرسل عما أتوا به | كأنهم فيما وهبت ملام |
أراع كذا؟ كل الملوك همام | وسح له رسل الملوك غمام؟ |
ودانت له الدنيا فأصبح جالسا | وأيامها فيما يريد قيام |