
وقطعية، ومما ورد عنه تفصيل في أحاديث وردت في كتب الأحاديث الصحيحة أيضا ولو لم تدرك أمرهم العقول العادية، مع الوقوف عند ما وقف عنده القرآن، والثابت من الأحاديث النبوية ومع الإيمان بأنه لا بد من أن يكون لذكرهم بالأسلوب الذي ذكروا به حكمة. ومع ملاحظة أن ذكرهما ورد في أسفار العهد القديم والعهد الجديد التي كانت متداولة بين اليهود والنصارى في زمن النبي ﷺ بما فيه تشابه من بعض النواحي لما ورد عنهم في الأحاديث النبوية، وأن صفات وأخبار هذين القبيلين لم تكن نتيجة لذلك مجهولة في بيئة النبي ﷺ وعصره، ومع ملاحظة أن ذكرهم جاء في سورة الأنبياء كنذير من نذر الله بقرب القيامة وأهوالها.
وجاء في سورة الكهف مع قصة من أهدافها العظة والتدعيم والله تعالى أعلم.
ولم يدع مفسرو غلاة الشيعة هذه القصة دون لمس حيث قالوا في مدى آية:
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) إنها تعني أنه يرد إلى أمير المؤمنين فيعذبه عذابا نكرا حتى يقول يا ليتني كنت ترابا أي من شيعة أبي تراب «١» !. ومؤدى القول أن عليا رضي الله عنه هو الربّ الذي يرجع إليه الناس ليعذبهم.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٨]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
. (١) ضلّ سعيهم: حبط عملهم وضاع وذهب هباء.

(٢) الفردوس: قيل إنها معرّبة من الرومية وأنها تعني البستان الذي يجتمع فيه التمر والزهر. أو الذي يجمع محاسن كل بستان، أو أواسط الجنات وأفضلها مكانا، وعلى كل حال فالكلمة كانت معرّبة ومندمجة في اللغة الفصحى ومفهومة الدلالة قبل نزول القرآن.
(٣) حولا: تحولا.
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يظل ثابتا مستمرا عليها لأنه يرجو بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [١٠٣] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوة النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريج أن المقصود بكلمة عِبادِي في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة

كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية:
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (١٠٣) أحدهما أنهم أهل الصوامع وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين لأنه رضي بالتحكيم وقالوا لا حكم إلّا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال: «سألت أبي عن هذه الآية: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أهم الحرورية؟ قال: لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذّبوا محمّدا وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسمّيهم الفاسقين» «١». وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال إن الآية عامة الشمول وهو حقّ. ومن العجيب أن تقال وفي الآية [١٠٥] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال: «أخبرنا رسول الله ﷺ أنّ الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها». وحديث عن معاذ بن جبل قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس». وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من

فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما». وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرّحمن تبارك وتعالى ومنه تفجر أنهار الجنة». وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله ﷺ قال: «في الجنة مئة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجّر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس» «١».
والفردوس في أصلها معرّبة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله ﷺ منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً حديثا عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة ثم قرأ: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً». وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال: «يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً». وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال: «كنّا عند رسول الله ﷺ فأقبل رجل من قريش يخطر في حلّة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بريدة هذا ممّن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا». والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان