ولما تبين بذلك الذي لا مرية فيه أنهم خسروا خسارة لا ربح معها، وخاب ما كانوا يؤملون، أمره أن ينبههم على ذلك فقال: ﴿قل هل ننبئكم﴾ أي نخبركم أنا وكل عبد لله ليست عينه في غطاء عن الذكر، ولا في سمعه عجز عن الوعي، إخباراً عظيماً أيها التاركون من لا خالق ولا رازق لهم سواه، والمقبلون على من ليس بيده شيء من خلق ولا رزق ولا غيره ﴿بالأخسرين﴾ ولما كانت أعمالهم مختلفة، فمنهم من يعبد الملائكة، ومنهم من يعبد النجوم، ومنهم من يعبد بعض الأنبياء، ومنهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يكفر بغير ذلك، جمع المميز فقال: ﴿أعمالاً *﴾ ثم وصفهم بضد ما يدعونه لأنفسهم من نجاح السعي وإحسان الصنع فقال: ﴿الذين ضل سعيهم﴾ أي حاد عن القصد فبطل ﴿في الحياة الدنيا﴾ بالإعراض عمن لا ينفعهم ولا يضرهم إلا هو، والإقبال على ما لا نفع فيه ولا ضر ﴿وهم﴾ أي والحال أنهم مع ظهور ذلك كالشمس ﴿يحسبون﴾ لضعف عقولهم ﴿أنهم يحسنون صنعاً *﴾ أي فعلاً هو في غاية الإحكام وهم في غاية الدربة به؛ وروى البخاري في
صفحة رقم 147
التفسير عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن الأخسرين اليهود والنصارى، قال: أما اليهود فكفروا بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شرب - انتهى. قلت: وكذا قال اليهود لأن الفريقين أنكروا الحشر الجسماني وخصوه بالروحاني.
ولما كانوا ينكرون أنهم على ذلك، لملازمتهم لكثير من محاسن الأعمال، البعيدة عن الضلال، بين لهم السبب في بطلان سعيهم بقوله: ﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء ﴿الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الستر والتغطية لما من حقه أن يظهر ويشهر، مستهينين ﴿بأيات ربهم﴾ من كلامه وأفعاله، وبين سبب هذا الكفر بقوله: ﴿ولقائه﴾ أي فصاروا لا يخافون فلا يردهم شيء عن أهوائهم ﴿فحبطت﴾ أي سقطت وبطلت وفسدت بسبب جحدهم للدلائل ﴿أعمالهم﴾ لعدم بنائها على أساس الإيمان ﴿فلا﴾ أي فتسبب عن سقوطها أنا لا ﴿نقيم لهم﴾ ما لنا من الكبرياء والعظمة المانعين من اعتراض أحد علينا أو شفاعته بغير إذننا لدينا ﴿يوم القيامة وزناً *﴾ أي لا نعتبرهم لكونهم جهلوا أمرنا الذي لا شيء أظهر منه، وآمنوا مكرنا ولا شيء أخطر منه.
ولما كان هذا السياق في الدلالة على أن لهم جهنم أوضح من الشمس قال: ﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم الذي بيناه من وعيدهم ﴿جزاؤهم﴾ لكن لما كان حاكماً بضلالهم وغباوتهم، بين الجزاء بقوله: ﴿جهنم﴾ وصرح بالسببية بقوله: ﴿بما كفروا﴾ أي وقعوا التغطية للدلائل ﴿واتخذوا ءاياتي﴾ التي هي مع إنارتها أجد الجد وأبعد شيء عن الهزل ﴿ورسلي﴾ المؤيدين بباهر أفعالي مع ما لهم من الشهامة والفضل ﴿هزواً *﴾ فلم يكتفوا بالكفر الذي هو طعن في الإلهية حتى ضموا إليه الهزء الذي هو أعظم احتقار.
ولما بين ما لأحد قسمي أهل الجمع تنفيراً عنهم، بين ما للآخر على تقدير الجواب لسؤال تقتضيه الحال ترغيباً في اتباعهم والاقتداء بهم، فقال: ﴿إن الذين ءامنوا﴾ أي باشروا الإيمان ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من الخصال ﴿كانت لهم﴾ لبناء أعمالهم على الأساس ﴿جنات﴾ أي بساتين ﴿الفردوس﴾ أي أعلى الجنة، وأصله البستان الذي هو الجنة بالحقيقة لانخفاض ما دونه عنه، وستر من يدخله بكثرة أشجاره ﴿نزلاً *﴾ كما كان السعير والأغلال لأولئك نزلاً، يعد لهم حين الدخول ﴿خالدين فيها﴾ بعد دخولهم ﴿لا يبغون﴾ أي يريدون أدنى إرادة
﴿عنها حولاً *﴾ أي تحولاً لأنه مزيد عليها، دفعاً لما قد يتوهم من أن الأمر كما في الدنيا من أن كل أحد في أيّ نعيم كان يشتهي ما هو أعلى منه لأن طول الإقامة قد يورث السآمة، بل هم في غاية الرضى بها، لما فيها من أنواع الملاذ التي لا حصر لها ولا انقضاء، لا يشتهي أحد منهم غير ما عنده سواء كان في الفردوس أو فيما دونه، وهو تعريض بالكفرة في أنهم يصطرخون في النار ﴿ربنا أخرجنا منها﴾ [المؤمنون: ١٠٧] وذلك عكس ما كان في الدنيا من ركون الكفار إليها، ومحبتهم في طول البقاء فيها، وعزوف المؤمنين عنها، وشوقهم إلى ربهم بمفارقتها.
ولما تم الجواب عن أسئلتهم على أحسن الوجوه مخللاً بما تراه من الحجج البينة والنفائس الملزمة لهم بفصل النزاع، وأتبع ذلك بقص الأمر الذي بإغفاله تجرؤوا على الكفر، وهو أمر البعث إلى أن ختمه بما يقتضي أن معلوماته لا تحد، لأن مقدوراته في تنعيم أهل الجنة لا آخر لها فلا تعد، وكان اليهود قد اعترضوا على قوله في أولها ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾ [الإسراء: ٨٥] بأنهم أوتوا التوراة، وكان لكل ما سألوا عنه من الفصول الطويلة الذيول أمور تهول، وكان ربما قال قائل: ما له لا يزيد ذلك شرحاً؟ قال تعالى آمراً
بالجواب عن ذلك كله، معلماً لهم بأنهم لا يمكنهم الوقوف على تمام شرح شيء من معلوماته، وآخر استفصال شيء من مقدوراته، قطعاً لهم عن السؤال، وتقريباً إلى أفهامهم بضرب من المثال: ﴿قل﴾ أي يا أشرف الخلق لهم: ﴿لو كان البحر﴾ أي ماؤه على عظمته عندكم ﴿مداداً﴾ وهو اسم لما يمد به الدواة من الحبر ﴿لكلمات﴾ أي لكتب كلمات ﴿ربي﴾ أي المحسن إليّ في وصف ذكر وغيره مما تعنتموه في السؤال عما سألتم عنه أو غير ذلك ﴿لنفد﴾ أي فني مع الضعف فناء لا تدارك له ﴿البحر﴾ لأنه جسم متناه.
ولما كانت المخلوقات - لكونها ممكنة - ليس لها من ذاتها إلا العدم، وكانت الكلمات من صفات الله، وصفات الله واجبة الوجود، فكان نفادها محالاً، فكان نفاد الممكن من البحر وما يمده بالنسبة إليها مستغرقاً للأزمنة كلها، جرد الظرف من حرف الجر فقال: ﴿قبل أن تنفد﴾ أي تفنى وتفرغ ﴿كلمات ربي﴾ لأنها لا تتناهى لأن معلوماته ومقدوراته لا تتناهى، وكل منها له شرح طويل، وخطب جليل؛ ولما لم يكن أحد غيره يقدر على إمداد البحر قال: ﴿ولو جئنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا تكون لغيرنا ﴿بمثله مدداً *﴾ أي له يكتب منه لنفد أيضاً، وهذا كله كناية عن عدم النفاد، لأنه تعليق
على محال عادة كقولهم: لا تزال على كذا ما بل بحر صوفة وما دجى الليل، ونحو هذا، ولعله عبر بجمع السلامة إشارة إلى أن قليلها بهذه الكثرة فكيف بما هو أكثر منه، وذلك أمر لا يدخل تحت وصف، وعبر بالقبل دون أن يقال «ولم تنفد» ونحوه، لأن ذلك كاف في قطعهم عن الاستقصاء في السؤال ولأن التعبير بمثل ذلك ربما فتح باباً من التعنت وهو أن يجعلوا الواو للحال فيجعلوا النفاد مقيداً بذلك، وأما سورة لقمان فاقتضى سياقها في تأسيس ما فيها على ﴿الغني الحميد﴾ [لقمان: ٢٦] ومقصودها أن يكون التعبير فيها بغير ما ههنا، فما في كل سورة أبلغ بالنسبة إلى سياقه، مع أنه ليس في إفصاح واحدة منهما ما يدل على نفاد الكلمات ولا عدمه، وفي إفهام كل منهما بتدبر القرائن في السياق وغيره ما يقطع بعدم نفاذها، ولا تخالف بين الآيتين وإن كان التعبير في هذه السورة أدخل في التشابه، ويجاب عنه بما قالوا في مثل قول الشاعر «على لاحب لا يهتدى بمناره» من أن ما في حيز السلب لا يقتضي الوجود، ولعل التعبير بمثل ذلك من الفتن المميزة بين من في قلبه مرض وبين الراسخ الذي يرد المتشابه إلى المحكم، وهو ما دل عليه البرهان القاطع من أن الله تعالى لا نهاية لذاته، ولا لشيء من
صفحة رقم 152
صفاته، بل هو الأول والآخر الباقي بلا زوال - والله أعلم.
ولما كانوا ربما قالوا: ما لك لا تحدثنا من هذه الكلمات بكل ما نسألك عنه حيثما سألناك؟ وكانوا قد استنكروا كون النبي بشراً، وجوزوا كون الإله حجراً، وغيوا إيمانهم به بأمور سألوه في الإتيان بها كما تقدم بعد أول مسائلهم، وهي الروح آخر سبحان، وكان قد ثبت بإجابتهم عن المسائل على هذا الوجه أنه رسول، أمره سبحانه أن يجيبهم عن ذلك كله بما يرد عليهم غلطهم، ويفضح شبههم، إرشاداً لهم إلى أهم ما يعنيهم من الحرف الذي النزاع كله دائر عليه وهو التوحيد فقال: ﴿قل إنما أنا﴾ أي في الاستمداد بالقدرة على إيجاد المعدوم والإخبار بالمغيب ﴿بشر مثلكم﴾ أي لا أمر لي ولا قدرة إلا على ما يقدرني عليه ربي، ولا استبعاد لرسالتي من الله فإن ذلك سنته فيمن قبلي ﴿يوحى إليّ﴾ أي من الله الذي خصني بالرسالة كما أوحى إلى الرسل قبلي ما لا غنى لأحد عن علمه واعتقاده ﴿أنما إلهكم﴾
وأشار إلى أن إلهيته بالإطلاق لا بالنظر إلى جعل جاعل ولا غير ذلك فقال: ﴿إله واحد﴾ أي لا ينقسم بمجانسة ولا غيرها، قادر على ما يريد، لا منازع له، لم يؤخر جواب ما سألتموني عنه من عجز ولا جهل ولا هوان بي عليه - هذا هو الذي يعني كلَ أحد علمه، وأما ما سألتم عنه من أمر الروح والقصتين تعنتاً فأمر لو جهلتموه ما ضركم جهله، وإن اتبعتموني علمتموه الآن وما دل عليه من أمر الساعة إيماناً بالغيب علم اليقين، وعلمتموه بعد الموت بالمشاهدة عين اليقين، وبالمباشرة حق اليقين، وإن لم تتبعوني لم ينفعكم علمه ﴿فمن﴾ أي فتسبب عن وحدته المستلزمة لقدرته أنه من ﴿كان يرجوا﴾ أي يؤمن بمجازاته له على أعماله في الآخرة برؤيته وغيرها، وإنما قال: ﴿لقاء ربه﴾ تنبيهاً على أنه هو المحسن إلى كل أحد بالتفرد بخلقه ورزقه، لا شريك له في شيء من ذلك على قياس ما نعلمه من أنه لا مالك إلا وهو قاهر لمملوكه على لقائه، مصرف له في أوامره في صباحه ومسائه.
ولما كان الجزاء من جنس العمل، كان الواجب على العبد الإخلاص في عمله، كما كان عمل ربه في تربيته بالإيجاد وما بعده، فقال: ﴿فليعمل﴾ وأكده للإعلام بأنه لا بد مع التصديق من الإقرار فقال: ﴿عملاً﴾ أي ولو كان قليلاً ﴿صالحاً﴾ وهو ما يأمره به
من أصول الدين وفروعه من التوحيد وغيره من أعمال القلب والبدن والمال ليسلم من عذابه ﴿ولا يشرك﴾ أي وليكن ذلك العمل مبنياً على الأساس وهو أن لا يشرك ولو بالرياء ﴿بعبادة ربه أحداً *﴾ فإذا عمل ذلك فاز فحاز علوم الدنيا والآخرة، وقد انطبق آخر السورة على أولها بوصف كلمات الله ثم ما يوحى إليه، وكل منهما أعم من الكتاب بالأقومية للدعاء إلى الحال الأسلم، في الطريق الأقوم، وهو التوحيد عن الشريك الأعم من الولد وغيره، والإحسان في العمل، مع البشارة لمن آمن، والنذارة لمن أعرض عن الآيات والذكر، فبان بذلك أن لله تعالى - بوحدانيته وتمام علمه وشمول قدرته صفات - الكمال، فصح أنه المستحق لجميع الحمد - والله الموفق، والحمد لله على إتمام سورة الكهف من كتاب نظم الدرر من تناسب الآي والسور.
صفحة رقم 155مقصودها بيان اتصافه سبحانه بشمول الرحمة بإفاضة النعم على جميع خلقه، المستلزم للدلالة على اتصافه لجميع صفات الكمال، المستلزم لشمول القدرة على إبداع المستغرب، المستلزم لتمام القدرة الموجب للقدرة على البعث والتنزه عن الولد لأنه لا يكون إلا لمحتاج، ولا يكون إلا مثل الوالد، ولا سمي له سبحانه فضلا عن مثيل، وعلى هذا دلت تسميتها بمريم، لأن قصتها أدل ما فيها على تمام القدرة وشمول العلم، لأن أغرب ما في المخلوقات وأجمعه خلقا الآدمي، وأعجب أقسام توليده الأربعة - بعد كونه آدميا - ما كان من أنثى بلا توسط ذكر، لأن أضعف الأقسام، وأغرب ذلك أن يتولد منها على ضعفها أقوى النوع وهو الذكر، ولا سيما إن أوتي قوة الكلام والعلم والكتاب في حال الطفولية، وأن يخبر بسلامته الكاملة فيكون الأمر كذلك، لم يقدر أحد - مع كثرة الأعداء - على أن يسمه بشيء من أذى، هذا إذا جمعته من
صفحة رقم 156إخراج الرطب في غير حينه من يابس الحطب، ومن إنباع الماء في غير موضعه، وعلى مثل ذلك أيضا دلت تسميتها بما في أولها من الحروف، بيان ذلك أن مخرج الكاف من أقصى اللسان مما يلي الحلق ويحاذيه من أسفل الحنك، وهي أدنى من مخرج القاف قليلا إلى مقدم الفم ر، ولها من الصفات الهمس والشدة والانفتاح والاستفال والخفاء، ومخرج الياء من وسط اللسان والحنك الأعلى، ولها من الصفات الجهر والرخاوة والانفتاح والاستفال، وه أغلب صفاتها، ومخرج العين وسط الحلق، ولها من صفات الجهر وبين أصول الثنيتين السفليين، وله من الصفات الهمس والرخاوة والإطباق والاستعلاء والصفير، فالافتتاح بهذه الأحرف هنا إشارة - والله أعلم - إلى أن أهل الله عامة - من ذكر منهم في هذه السورة وغيرهم - يكونأمرهم عند المخالفين أولا - كما تشير إليه الكاف - ضعيفا مع شدة انفتاح كما كان حال النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) أول ما دعا، فإنه اشتهر أمره ولكنه كان ضعيفا بإنكار قومه إلا أنهم لم يبالغوا في الإنكار، ثم يصير الأمر فيا، ائل العراك - كما تشير إلأيه الهاء - إلى استقال،
صفحة رقم 157ثم يزداد بتمالؤ المستكبرين عليهم ضعفا وخفاء، وإلى هذا تشير قراءتها بالإمالة، ولا بد مع ذلك من نوع ظهور - كما يشبر إليه انفتاح الهاء وإليه تشير قراءة الفتح، وهذا كما كان النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حين صرح بسب آلهتهم وتسفيه أحلامهم وتضليل آبائهم فقاموا عليه إلبا واحدا، فهاجر أكثر الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة، وخاف أبو طالب دهماء العرب فقال قصيدته اللامية يفي ذلك، وتمادى الحال حتى ألجاتهم قريش إلأى الشعب، وتكون في وسط أمرهم - كما تشير إليه الياءوقراءتها بالفتح، لهم قوة مع رخاوة واشتهار واستفال، وهو الأغلب عليهم ظاهرا كما تشير إليه قراءة الإمالة، فيكون ذلهم من وراء عز وعزهم في ثوب ذل، يعرف ذلك من عاناه، ونظر إليه بعين الحقيقة واجتلاء، وهذا كما كان عند قيام من قام من قريش يفي نقض الصحيفة الظالمة وإخراجهم من الشعب، ثم عند موت خديجة رضي الله عنها وأبي طالب، وخرج (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) إلى الطائف فردوه - بأبي هو وأمي ونفسي وودلدي وعيني، فلما قرب من مكة المشرفة لم يستطع دخولها بغير جوار، فاختفى في غار حراء وأرسل إلى من يجيره، ثم أرسل حتى أجاره المطعم بن عدي، ولبس السلاح هو من أطاعةى وأدخله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) حتى طاف بالبيت، ثم قضى سبحانه أن قتل المطعم في بدر كافرا، بعد اجتهاد النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في سلامته والإيصاء به أن لا يقتل - ليعلم أنه سبحانه
صفحة رقم 158مختار في عموم رحمته وخصوصها، لئلا ييأس عاص أو يأمن طائع، ثم إذا علا أمرهم عن الوسط صاعدا قوي - كما تشير إليه العين، فصار بين الشدة والرخاوة، وفيه انفتاح بشهرة مع استفال في بعض الأمر كما كان حاله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) عند مبايعة الأنصار رضوان الله عليهم، وأما آخر أمرهم فهو وإن كالن فيه نوع من الضعف، وضرب من الرخاوة واللين كما كان في غزوة حنين والطائف، فإنه تعقبه قوة عظيمة بالإطباق، واستعلاء واشتهار يملأ الآفاق، كما يشير إليه الصغير - هذا في أهل الله عامة المذكورين في هذه السورة وغيرهم، وأما ما يخص عيسى عليه الصلاة والسلام الذي هو صورة سورتها ومطمح إشارتها وسيرتها فجعل الحروف اللسانية من هذه الحروف أغلبها ثلاثة أحرف منها إشارة إللا أن إبراهيم عليه السلام بما أعطى في نفسه وفي ذريته ولسان الصدق المذكور به هو لسان هذا الوجود، وأن دولة آله الذين عيسى عليه السلام من أعيانهم هي وسط هذا الوجود حقيقة وخيارا، فموسى عليه السلام أو أصحاب شرائعهم بمنزلة القاف التي هي من أقصى اللسان وله حظ كبيرمنها، فإنه من أجله قتل أبناء بني إسرائيل وولد في سنةالقتل، وكان سبب هجرته وابتداء سيره إلى الله تعالى قتله القبطي، وقرب نجيا،
صفحة رقم 159ومن صفاتها الجهر والشدة والانفتاح، والاستعالاء والقلقلة، وهو عريق يفي كل من خيرات ذلك، وداود عليه السلام ثاني ذوي كتبهم بمنزلة الهمزة التي هي أبعد من مخرج الهاء إحدى هذه الحروف، وهو أول من جمع من بني إسرائيل بين الملك والنبوة، وله حظ من صفاتها: الجهر والشدة والانفتاح، بما كان فيه من الملك والظهور، والنصر على الأعداء وعجائب المقدور، وله حظ من وصفها بالاستفال في أول أمره وفي آخره بما كان من بكائه وتواضعه وإخباته لربه وصلاحه، فالكاف هنا إشارة إلى أن عيسى عليه الصلاة والسلام هو ثاني الشارعين يفي الوجود، والهاء عبارة عن أنه من عقب داود عليه السلام، وكل منهما له حظ من صفات الحرف المشير إليه الدال عليه، والصاد التي هي من طرف اللسان وهي خاتمة هذه الحروف إشارة مما فيها من الإطباق المشير إلى تطبيق الرسالة لجميع الوجوه، ومن الاستعلاء المشير إلى نهاية العطمة، والصفير المشير إلى غاية الانتشار بما فيها من الصفات إلى أن أول أمر عيسى عليه السلام يكون فيه مع الشدة ضعف، ثم تشير أيضا الهاء - التي هي من أقصى الحلق - إلى أن أمره يبطن بعد ذلك الظهور ويخفى بارتفاعه إلى السماء، ويدل الاستفال على أنها قريبة إلى السفلى، وهو
صفحة رقم 160كذلك فإنه في الثانية بدلالة رتبة الكاف والهاء في مخرجيهما، وتشير الياء بجهرها إلى ظهوره بنزوله، وتدل بكونها من وسط اللسان على تمكنه في أموره، وباعتلائها على شيء في ذلك وهو ضعف الاتباع وحصرهم في ذلك الوقت، وتدل بانفتاحها ورخاوتها على ظهوره على الدجال في أولئك القوم الذين قد جهدهم البلاء عند نزوله، ومسهم الضر قبل حلوله، وتليح غلبة الاستفال عليها إلى أمر يأجوج ومأجوج لما يوحيه الله إليه " إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد بهم، فجرز عبادي إلى الطور " وتدل العين بكونها من وسط الحق على انحصارهم، ويجهرها على أنه لا سبيل للعدو عليهم ولا وصول بوجه إليهم، وبما فيها من البينية والاستفال على جهدهم مع حسن العاقبة، وتبشر - بما فيها من الانفتاح - بحصول الفتح الذي ليس وراءه ٩ فتح، وتدل الصاد بمخرجها على القوة الزائدة، وبالهمس والرخاوة على أنها قوة لا بطش فيها، وبالإطباق والاستعلاء على عموم الذين جميع الناس، وبالصفير على أنه ليس وراء ذلك إلا النفخ في الصور لعموم الهلاك لكل موجود مفطور، ثم لبعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور، وكل هذا منترتيب سنته سبحانه في المصطفين من عباده على
صفحة رقم 161
هذا النحو البديع، وترتيب هذه الحروف على هذا النظم الدال عليه دائر على القدرة التامة والعلم الشامل والحكمة الباهرة، رحمهم سبحانه بأن نكبهم طريق الجبارين التي أوصلتهم إلى القسوة، وجنبهم سنن المستكبرين التي تلجئ ولا بد إلأى الشقوة، فجعل نصرهم في لوامع انكسار، وكسرهم في جوامع انتصار، وحماهم من فخامة دائمة تجر إلى بذح وعلو واستكبار، ومن رقة ثابتة تحمل على ذل وسفول وصغار، فلقد انطبق الاسمان على المسمى، واتضحا غاية الاتضاح في أمره ونما، وهذا معنى ما قال الكلبي: هو ثناء أثنى الله به على نفسه.) بسم الله (المنزه عن كل شائبة نقص، القادر على كل ما يريد) الرحمن (الذي عم نواله سائر مخلوقاته) الرحيم (الذي اختص الصالحين من عباده، بما يسعد من مراده.
ولما كان مقصود التي قبلها الدلالة على أنم القرآن قيم لا عوج فيه، وبه تمام الانتظام في نعمة الإبقاء الأول، ودل على ذلك بأنه ساق المؤول عنه من القصص أحسن سوق، وكشف عن مخبأته القناع أبدع كشف - إلى غير ذلك مما خلله به من بدائع الحكم وغرائب
المعاني فاضحة لمن ادعى الله سبحانه ولدا، وختمها بمثل ذلك وصف الكتاب والتوحيد - النافي لقبول التعدد بولد أوغيره بكل اعتبار - والعمل الصالح، ابتدأ هذه بالكشف عن أغرب من تلك القصص، تحقيقا لآية) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) [الكهف: ٩] بسياق غير ما تقدم فيما مضى عن السور، وجزئيات لم تذكر إلا فيها مع عدم المخالفة لما مضى، تأييدا لأن كلماته لا تنفذ، وعجائبه لا تعد ولا تحد، وأنه لو كان من عند غيره لاختلف، مع أن أهلها سادة الموحدين، وقادة المصلحين المتقين الذين عملوا الصالحاتن، ونفوا الشرك وشرعوا ذلك للناس، فرحمهم ربهم سبحانه، وكلهم ممن يعتقده اليهود الآمرون لقريش بالسؤال عن أصحاب الكهف وذي القرنين تعنتا، أمت من عدا عيسى عليه الصلاة والسلام فواضح، وأما عيسى عليه السلام فيعتقدون أنه ما اتى لأأنه سيأتي، ويكون الناس في أيامه على دين واحد تصديقا لوعد التوارة الآتي بيانه، وذلك على وجه مستلزم في أكثرها تنزهه تعالاى عن الوالد، وقدرته على البعث، وبدأها بقصة من خرق له العادة في الولد على وجه مبين أنه لا يحتاجه إلا فإن حسا أو معنى يريد أن يخلفه فيما تعسر عليه فعله أو تعذر، وكان تقديم قصته أولى لأن التبكيت به أعظم لمباشرتهم لقتله وقتل ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، وإشارة إلى أن العمل الصالح المؤسس على التوحيد ضامن لإجابة الدعاء وإن كان فيه خرق العادة، وثنى بأمر من نسبوء إليه وافتروه عليهوقصدوا قتله على
صفحة رقم 163وجه معرب عن شأنه غاية الإعراب، مبين فيه وجه الصواب، متمما لتبكيت اليهود الآمرين لقريش بالتعنت بالسؤال بالإشارة إلى قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام وإعاء صلب المسيح الذي بشرت به التوراة، وهم الآن ينتظرونه ويدعون أنهم أخص الناس به، وقذف أمه - وحاشاها - دالا بذلك على القدرة على البعث، قال في التوراة في آخر السفر الأول: إن يعقوب عليه الصلاة والسلام أخب ربقرب وفاته وقال لبنيه: اجتمعوا إلى فأبين لكم ما هو كائن من أمركم في آخر الأيام، اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب انصتوا لإسرائيل أبيكم ثن قال: يا يهوذا لك يعترف إخوتك بتعالى يدك على رقاب أعدائك، وليسجد لك بنو أبيك، شبل الليث، من ذا يقيمه عن فريسته، لا يزول القضيب من آل يهوذا، لا يعدم سبط يهوذا ملكا مسلطا وأفخاده نبيا مرسلا حتى يأتي الذي له الملك - وفي نسخة: الكل - وإياه تنتظر الشعوب، يربط بالحبلة جحشه عيناه أشد شهولة من الخمر، وأسنانه أشد بياضا من اللبن - هذا نصه، وعند اليهود أنه المسيح، ويسمونه مع ذلك المنتظر والمهدي، وعندهم أنه ينصرهم ويخلصهم
صفحة رقم 164
مما هم فيه من الذل، فقلت لبعضهم: أشهد أنه المسيح ابم مريم الذي أتى وتبعه النصارى وعاديتموه حتى رفعه الله تعالى، فقال الذي في التوارة أنه يكون له الكل، وعيسىة مل كان كذلك، فقلت: إنه يكون له الكل حين ينزل تابعا لديننا من حيث إنه لا يقبل إلا الإسلام، قيطبق أهل الأرض على إتباعهخ عليه، ويسعد به منكم من يتبعه، ويزول عنه الذل، هذا لا يناف كلام التوراة فإنه لم يقيد ذلك بساعة إتيانه. فلم يقبل ذلك، ثم إنه أتى إلي يوما بكتاب من كتبهم في شرح سفر الأنبياء فقال في الكلام على البشائر المتعلقة بالمسيح " ولا يبعد أن يبدو لإسرائيل ثم يختقي ثم يظهر فيكون له الكل " فقلت له: انظر وتبصر هذا عين ما ذكرته لك من قبل فبهت لذلك فقلت: أطعني وأسلم ففكر ثم قال: حتى يريد الله تعالى.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما قال تعالى) أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا (ثم أورد خبرهم وخبر الرجلين وموسى والخضر عليهما السلام وقصة ذي القرنين، أتبع سبحانه ذلك بقصص تضمنت من العجائب ما هو أشد عجبا وأخفى سببا، فافتتح سورة مريم بيحيى بن زكريا وبشارة زكريا به بعد الشيخوخة وقطع الرجاء وعقر الزوج حتى سأل زكريا مستفهما ومتعجبا) أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا) [
مريم: ٨] فأجابه تعالى بأن ذلك عليه هين، وأنه يجعل ذلك آية للناس، وأمر هذا أعجب من القصص المتقدمة، فكانقد قيل: أم حسبت يا محمد أنم أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجيا، نحن نخبرك بخبرهم ونخبرك بما هو أعجب وأغرب وأوضح آية، وهو قصة زكريا في ابنه يحيى عليهما الصلاة والسلام، وقصة عيسى في كيونته بغير أب، ليعلم أن الأسباب في الحقيقة لا يتوقف عليها شيء من مسبباتها إلا بحسب سنة الله، وإنما الفعل له سبحانه لا بسبب، وإلى هذا أشار قوله تعالى لزكريا عليه والسلام) وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (ثم أتبع سبحانه بشارة زكريا بيحيى بإتيانه الحكم صبيا، ثم بذكر وابنها عليهما الصلاة والسلام، وتعلقت الآي بعد إلى انقضاء السورة انتهى.
مريم: (١ - ١٥) كهيعص
) كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً يزَكَرِيَّآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً قَالَ رَبِّ اجْعَل لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً ييَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً (()