آيات من القرآن الكريم

وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا
ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ

تَقَدَّمَ فِي طَالِعِ هَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ بِالِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ، وَصِيغَةِ الْحَصْرِ الْمُقْتَضِيَةِ قَصْرَ نَفْسِهِ عَلَى الْبَشَرِيَّةِ وَالرِّسَالَةِ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ لَسْتُ رَبًّا مُتَصَرِّفًا أَخْلُقُ مَا يُطْلَبُ مِنِّي، فَكَيْفَ آتِي بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَكَيْفَ أَخْلُقُ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ يُخْلَقْ فِيهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قُلْ بِصِيغَةِ فِعْلِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ قَالَ بِأَلْفٍ بَعْدَ الْقَافِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي- عَلَى أَنَّهُ حِكَايَةٌ لجواب الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات.
[٩٤، ٩٥]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : الْآيَات ٩٤ إِلَى ٩٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
بَعْدَ أَنْ عُدَّتْ أَشْكَالُ عِنَادِهِمْ وَمَظَاهِرُ تَكْذِيبِهِمْ أُعْقِبَتْ بِبَيَانِ الْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْجُحُودِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهِيَ تَوَهُّمُهُمُ اسْتِحَالَةَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ لِلنَّاسِ بِرِسَالَةٍ بَشَرًا مِثْلَهُمْ. فَذَلِكَ التَّوَهُّمُ هُوَ مَثَارُ مَا يَأْتُونَهُ مِنَ الْمَعَاذِيرِ، فَالَّذِينَ هَذَا أَصْلُ مُعْتَقَدِهِمْ لَا يُرْجَى مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ، وَمَا قَصْدُهُمْ مِنْ مُخْتَلَفِ الْمُقْتَرَحَاتِ إِلَّا إِرْضَاءُ أَوْهَامِهِمْ بِالتَّنَصُّلِ مِنَ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ، فَلَوْ أَتَاهُمُ الرَّسُولُ بِمَا سَأَلُوهُ لَانْتَقَلُوا فَقَالُوا: إِنَّ ذَلِكَ سِحْرٌ، أَوْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وَمَعَ مَا فِي هَذَا مِنْ بَيَانِ أَصْلِ كُفْرِهِمْ هُوَ أَيْضًا رَدٌّ بِالْخُصُوصِ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٩٢] وَرَدٌّ لِقَوْلِهِمْ: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ [الْإِسْرَاء: ٩٣] إِلَى آخِرِهِ.

صفحة رقم 211

وَقَوْلُهُ: إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا يَقْتَضِي بِصَرِيحِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مَا قَالُوهُ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ أَنْ يُؤْمِنُوا لِأَنَّ اعْتِقَادَ قَائِلِيهِ يَمْنَعُ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِضِدِّهِ وَنُطْقَهُمْ بِمَا يَعْتَقِدُونَهُ يَمْنَعُ مَنْ يَسْمَعُونَهُمْ مِنْ مُتَّبِعِي دِينِهِمْ.
وَإِلْقَاءُ هَذَا الْكَلَامِ بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَأَدَاةِ الْعُمُومِ جَعَلَهُ تَذْيِيلًا لِمَا مَضَى مِنْ حِكَايَةِ تَفَنُّنِهِمْ فِي أَسَالِيبِ التَّكْذِيبِ وَالتَّهَكُّمِ.
فَالظَّاهِرُ حَمْلُ التَّعْرِيفِ فِي النَّاسَ عَلَى الِاسْتِغْرَاقِ. أَيْ مَا مَنَعَ جَمِيعَ النَّاسِ أَنْ
يُؤْمِنُوا إِلَّا ذَلِكَ التَّوَهُّمُ الْبَاطِلُ لِأَنَّ اللَّهَ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أُمَّةٍ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا فَقَالَ حِكَايَةً عَنْ قَوْمِ نُوحٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤]. وَحُكِيَ مِثْلُهُ عَنْ هُودٍ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٣٣- ٣٤]، وَعَنْ قَوْمِ صَالِحٍ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [سُورَة الشُّعَرَاء: ١٥٤]، وَعَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا [الشُّعَرَاء: ١٨٦]، وَحُكِيَ عَنْ قوم فِرْعَوْن فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا
[الْمُؤْمِنُونَ: ٤٧]. وَقَالَ فِي قوم مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ [ق: ٢].
وَإِذ شَمِلَ الْعُمُومُ كَفَّارَ قُرَيْشٍ أَمَرَ الرَّسُولُ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ بِقَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ الْآيَةَ، فَاخْتَصَّ اللَّهُ رَسُوله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاجْتِثَاثِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ مِنْ أَصْلِهَا اخْتِصَاصًا لَمْ يُلَقِّنْهُ مَنْ سَبَقَ مِنَ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ تَلَقَّوْا تِلْكَ الشُّبْهَةَ بِاسْتِنْصَارِ اللَّهِ تَعَالَى على أقوامهم فَقَالَ عَنْ نُوحٍ قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعَرَاء: ١١٨].

صفحة رقم 212
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية