آيات من القرآن الكريم

وَمَنْ كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا
ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ

فيها العقل، وقد ركب الله في بني آدم الشهوة ووضع فيهم العقل، فمن غلب عقله على شهوته فقد التحق بالملائكة وصار أكرم منهم، ومن غلبت شهوته على عقله التحق بالبهائم وصار أخس منهم وأشر، وقد خلق الله تعالى كل ما في الكون السفلي والعلوي لبني آدم، وخلق بني آدم لنفسه المقدسة ليعبدوه، قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية ٥٦ من سورة الذاريات في ج ٢ وجاء عن جابر يرفعه قال لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، فقال تعالى لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان. هذا وقالت المعتزلة: إن البشر أفضل من جميع الخلق إلا الملائكة وقال الكلبي البشر أفضل من جميع الخلق عدا طائفة من الملائكة مثل جبريل واسرافيل وميكائيل وعزرائيل وحملة العرش وخازن الجنة والنار وشبههم، استدلالا بقوله تعالى (كَثِيرٍ) ولو كان التفضيل على الكل لما جاء لفظ (كثير) والأول الذي جرينا عليه هو ما عليه الجمهور، راجع الآية الأولى من هذه السورة، وقد ذكرنا أن كثيرا أتت في القرآن بمعنى الكل قولا واحدا فيها قال في الكشاف إن المراد بالأكثر في قوله تعالى (وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا) الآية ٣٧ من سورة يونس في ج ٢ (الجميع) والقرآن يفسّر بعضه بعضا والآيتان المتقدمتان والحديثان كل منها يؤيد هذا، وعليه ابو حنيفة وكثير من الشافعية والأشعرية رضي الله عنهم، ولهذا مثبتا على أن الأكثر بمعنى الكلّ، وإن البشر أفضل من جميع الخلق، والمراد الجنس الصادق بالواحد والمتعدد
قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) بنبيهم ومقدمهم فيقال يا أتباع فلان، ويا قوم فلان، وقيل بكتابهم لأن الإمام بمعنى الكتاب، فيقال يا أهل كتاب الخير، ويا أهل كتاب الشر، أو يا آل القرآن، يا آل التوراة يا آل الإنجيل، ويا أهل دين الإسلام، يا أهل دين اليهود، يا أهل دين النصارى، والأوّل أولى وأوفق، فيأتون أفواجا أفواجا ومعنى الإمام المتبع والمقتدى به عاقلا كان أو غيره في اللغة، وأما شرعا وعرفا فالإمام هو الخليفة ومن يصلي بالناس بأمره جمعة وجماعة، أخرج ابن مردويه عن

صفحة رقم 534

علي كرم الله وجهه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الآية يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربّهم وسنة نبيهم. وأخرج بن أبي شيبة وابن المنذر عن ابن عباس أنه قال إمام هدى وإمام ضلالة، وأخرج ابن جرير عن طريق الصوفي عن ابن عباس أيضا قال بإمامهم بكتاب أعمالهم وأخرج بن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال هو نبيهم الذي بعث إليهم. وما قيل إن إمام جمع أم كخفاف جمع خفّ لأن الناس يدعون بأمهاتهم رعاية لحق عيسى عليه السلام، وشرفا للحسنين رضي الله عنهما، وشرا لأولاد الزنى لا وجه له ولا مزيّه، لان جمع أمّ أمهات ولم يسمع كونه جمع إمام والغلط المشهور خير من الصحيح المهجور، على أنه ليس بغلط بل بصحيح مشهور، ولأن عيسى عليه السلام من كرامته على ربه خلقه من غير أب، فهو آية في نفسه من آيات الله العظام، ووالد الحسنين خير من أمهما مهما كانت مفضلة على غيرها لان آل البيت كحلقة مقرغة وفضيحة أولاد الزنى حاصلة لا محالة سواء دعي باسم أمه أولا، لأن الله تعالى يحاسب الزاني والزانية، وفي ذلك تظهر الفضائح وتنشر القبائح، وإن ابن الزنى لا ذنب عليه لأنه لم يقترف شيئا، قال تعالى (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) الآية ٣٨ من سورة والنجم المارة، ويوشك أن يثيبه الله تعالى على تحمله ألفاظ القذف من الناس وأقوال التحقير والاستهزاء ما لا يثيب به غيره، وقد يكون غالبا من أهل التحمل، وجبارا أيضا وواطيا بآن واحد، راجع الآية ٣٢ من سورة مريم المارة «فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» في ذلك اليوم المهول «فَأُولئِكَ» إشارة إلى من باعتبار معناها «يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ» فرحين مسرورين متلذذين بما فيه من الخيرات والحسنات والطاعات التي فعلوها بالدنيا، ويقرأون ما فيه ولو لم يكونوا قارئين قبلا، وكذلك الأعمى يقرأ كتابه بقوة يعطيه الله إياها، ويعيد له بصره حتى لا يبقى لأحد حجة يحتج بها، نفيا لدعوى الظلم «وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» ٧١ أيها الناس كلكم، فلا ينقص من أجور أعمالكم المرتسمة في كتبكم بمقدار الخيط الرفيع الذي هو في باطن نواة التمر، كما لا يزاد على عقاب أحد بمثل ذلك، وإنما ضرب الله تعالى هذا المثل بالفتيل لما هو متعارف عند العرب إذ يضربون به المثل

صفحة رقم 535

لكل حقير، ولأنه لا أقل منه بنظر المخاطبين، ومثله النقير الذي في ظهرها والقطمير الغشاء الذي عليها بل يؤتونها مضاعفة إن كانت من أعمال الخير، ومثلها إن كانت من الشر، راجع الآية ١٦٠ من سورة الأنعام في ج ٣، أما الذين يؤتون كتبهم بشمالهم فتستولي عليهم الدهشة والذّلة من سوء ما يرونه فيها من كبائر المعاصي وغظائم المناهي، فيرتبكون حتى انهم تأخذهم الرجفة فلا يستطيعون قراءتها كما ينبغي لشدة ما يعتريهم من الخوف، لقبح ما هو مدون فيها. أخرج الفضيلي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل، وأول خط فيها (اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)
الآية ١٤ المارة. وأخرج الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها قالت: قلت يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة، قال أما عند ثلاث فلا، إلى أن قال وعند تطاير الكتب، والثاني والله أعلم عند النفخة الثانية، والثالث عند الفزع الأكبر في موقف الحساب. وجاء عن عائشة أيضا أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته، ويقرأ الناس حسناته، ثم يحول الصحيفة فيحول الله تعالى حسناته فيقرأها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
قال تعالى «وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ» الدنيا «أَعْمى» قلبه عن الاعتراف بقدرتنا والتصديق لأنبيائنا من المدعوين المذكورين «فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ» المعبر عنها بيوم ندعو في الآية المتقدمة فكذلك يكون «أَعْمى» بأشد من عمى الدنيا فلا يهتدي إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه نفعا «وَأَضَلُّ سَبِيلًا» من سبل الدنيا لأنه فيها قد يعرف بعض الطرق المؤدية لأهله مثلا، أما في الآخرة فلا يعرف شيئا البتة، لذلك لا يمكنه تدارك ما فاته فيها، أي أنه إذا اعترف إذ ذاك بالتوحيد وبالنبوة والكتب والبعث لا ينفعه، وإذا تاب لا تقبل توبته، وإلا لآمن الكل لأن الله تعالى حدد التوبة حدا وهو كونها في الدنيا وفي غير حالتي اليأس والبأس، وقبل طلوع الشمس من مغربها، والدابة من محلها، راجع الآية ٨٢ من سورة النمل المارة. وهذا الأعمى هو الذي يؤتى كتابه بشماله بدلالة ما سبق ولمقابلته به إذ لا يجوز أن يفسر الأعمى هنا بأعمى العين الباصرة لمخالفته لقوله تعالى (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)

صفحة رقم 536

الآية ٢٢ من سورة ق المارة، لأن الله تعالى يعطي الأعمى قوة النظر يوم القيامة ويعيد الأجزاء الناقصة من الإنسان حتى القلفة، لأن الناس يحشرون كاملي الخلقة لا تزى فيهم أعمى ولا أعور ولا أقطع ولا أعرج ولا ولا، قال تعالى (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الآية ٥٠ من الأعراف المارة، راجع الآية ١٢٥ من سورة طه المارة لاستيفاء هذا البحث، وهذه الآيات المدنيات الأخيرة من هذه السورة، قال تعالى «وَإِنْ كادُوا» قاربوا وأوشكوا «لَيَفْتِنُونَكَ» يخدعونك وإن هذه مخففة من الثقيلة واللام في ليفتنونك تسمى اللام الفارقة بين إن هذه وإن النافية، واسمها ضمير الشان، مقدر دائما، أي أن شأنهم المقاربة لإيقاعك في الفتنة وصرفك «عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد في هذا القرآن «لِتَفْتَرِيَ» تختلق وتتقول «عَلَيْنا غَيْرَهُ» من تلقاء نفسك أو مما اقترحوه عليك.
مطلب تهديد الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلم:
«وَإِذاً» إذا اتبعت أهواءهم وهممت أن تفعل ما أرادوه منك «لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا» ٧٣ لهم مصافيا مواليا ولا تبعوك فيما تأمرهم وتنهاهم مع أنهم أعدائي وصداقتهم تقتضي الانقطاع عن ولايتي، وقيل في المعنى:

إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وقال الشافعي رحمه الله: إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك، لأن من الوفاء للصديق عدم مصادقة عدوه. قال ابن عباس قدم وفد ثقيف بعد فتح مكة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا نبايعك على ثلاث خصال: لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها بل لنأخذ هداياها، فقال صلّى الله عليه وسلم: لا خير في دين لا ركوع ولا سجود فيه، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم، وأما الطاغية (يعني اللات) فإني غير ممتعكم بها، قالوا يا رسول الله، إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرنا، فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل أمرني الله بذلك، فسكت النبي صلّى الله عليه وسلم غضبا مما قالوا فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم سؤلهم لظنهم أنه راق له ذلك وفي رواية فقام النبي صلّى الله عليه وسلم فقال عمر رضي الله عنه ما بالكم آذيتم رسول الله إنه

صفحة رقم 537

لا يدع الأصنام في أرض العرب، فما زالوا به حتى أنزل الله هذه الآية وقد ادخرها الله تعالى هي وما بعدها إلى حد (زهوقا) الآتية لهذه الحادثة وهي كالمعترضة بالنسبة لما قبلها وما بعدها شأن الآيات المتأخر نزولها عن سورها، فإنك تراها معترضة لا علاقة لها بما قبلها ولا صلة بما بعدها. هذا، وما قيل إن قريشا قالت لحضرة الرسول اجعل لنا آية رحمة بدل آية عذاب وآية عذاب بدل آية رحمة حتى نؤمن بك، أو أنهم قالوا لا تمس الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا، أو كلفوه أن يذكر آلهتهم ليسلموا ويتبعوه، أو أنهم قالوا له إن الذين اتبعوك من سقاط الناس ومواليهم فاطردهم حتى نتبعك لأنا نستحي أن نكون وإياهم سواء في المجلس، وأن حضرة الرسول حدث نفسه بما لفظه (ما علي أن أفعل ذلك والله يعلم أني لها كاره) وغيره من الترهات التي نقلها بعض المفسرين، دون ترو من صحتها لا يصح شيء من ذلك أبدا ولا يجوز أن ينسب لحضرة الرسول شيء منه أصلا، لأنه مما لا يقبل التأويل، وإن اختلاف الروايات تدل دلالة كافية على وضعه، وكون الآية مدنية تبرهن على كذبه وعزم النبي صلّى الله عليه وسلم وحرصه على ما أمره به ربه يحيل وقوعه، لأن تلك الأقوال الواهية على فرض صحتها جدلا فإنها كانت في مكة، ولم يكن يلتفت إليها حضرة الرسول مع ما كان عليه وأصحابه من الضعف لقلة المسلمين فيها، أما وقد حفظه الله من كيدهم وقواه وأيده وأعلى كلمته وأظهر دينه في المدينة وكسر شوكة أعدائه فلا يتصور صحة شيء منها البتة، قال تعالى «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ» على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا إياك من الميل لأقوالهم هذه «لَقَدْ كِدْتَ» قاربت في نفسك وأوشكت «تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ» بما قالوه وطلبوه لقوة خداعهم وشدة احتيالهم ونملقهم «شَيْئاً قَلِيلًا» ٧٤ يسيرا جدا قد يستدل به إلى ميلك القلبي لهم بسبب سكوتك وقيامك عنهم، دون أن تزجرهم وتظهر غضبك عليهم، وما كان ينبغي لك أن تتصور ذلك أو تردده في خلدك حتى يتخيلوا ميلك لإجابتهم ويطمعون في موافقتك لهم. هذا، واعلم أن ظاهر الآية تدل صراحة على أن حضرة الرسول لم يهم فعلا بإجابتهم، ولم يكد أيضا وهو لا شك معصوم عن العزم بما هو من ذلك القبيل وحديث النفس معفو عنه شرعا،

صفحة رقم 538

وإن كان محاسبا عليه والحساب غير العقاب والعتاب. قال تعالى (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) الآية ٢٨٤ من البقرة في ج ٣، وقدمنا نبذة فيما يتعلق في هذا البحث في الآية ٨٦ من سورة القصص المارة وله صلة واسعة في آية البقرة المذكورة آنفا فراجعها. وقد استدل بهذه الآية على أن العصمة بتوفيق الله وعنايته، وركن بفتح الكاف مضارعها يركن بكسرها وتأتي بضم الكاف ومضارعها بفتحه كما في الآية، قال تعالى «إِذاً» لو قاربت الركون إليهم بأدنى شيء «لَأَذَقْناكَ» بسبب تلك الركنة القليلة «ضِعْفَ الْحَياةِ» في الدنيا عذابا مضاعفا «وَ» أذقناك «ضِعْفَ الْمَماتِ» في الآخرة عذابا مضاعفا أيضا، والمراد ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى، والحذف في فصيح اللغة جائز ومرغوب، وهذا يشمل عذاب القبر
والبعث وما بعده أيضا، وحاصل المعنى يقول الله تعالى لحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلم وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لو أجبتهم إلى بعض طلبهم لضاعفت عليك عذاب الدنيا والآخرة، وذلك أن الأبرار لو فعلوا ما يستوجب عذابا ما يكون ضعف عذاب الأشرار وأكثر، لأنه لا يتوقع منهم الانحراف عن منهج الرشد أصلا بدليل قوله تعالى «ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» ٧٥ يدفع عنك عذابنا أو يرفعه، ففيها من التهديد والوعيد ما يتقيض له من يتقيض ولا يخفى أن الأنبياء لا نصير لهم إلا الذي قربهم وشرفهم بنبوته بادىء أمرهم، وإن ما يقع من نصرتهم من بعض خلقه بتسخيره لهم، فكيف يجدون نصيرا لهم من غيره؟ كلا لا نصير له غير ربه. روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وإن كادوا إلى هنا، قال صلّى الله عليه وسلم: أللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين. فينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجئو على ركبتيه ويتدبر معناها ويستشعر خشية الله تعالى ويزداد تصلبا في دينه، ويقول ما قاله نبيه صلّى الله عليه وسلم تقربا إلى الله، لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله إذا سأله بخلاف العبيد فإنه يكون أقرب ما يكون إليهم إذا لم يسألهم، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم ازهد بما في أيدي الناس تحبك الناس. وقال العارف:

صفحة رقم 539

وفي هذه الآية إجلال عظيم لحضرة الرسول من قبل ربه عز وجل، وتنبيه على أن الأقرب من الله يكون أشد خطرا عنده كما يكون أشد خوفا منه.
قال تعالى: (إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) الآية ٢٨ من سورة فاطر المارة، فإذا كان الله تعالى أوعد حضرة حبيبه على ما خطر يباله ولم يفعله بضعف ما أوعد به العصاة من العذاب المدخر لهم، فكيف بنا أيها الناس؟ أللهم لا حول ولا قوة إلا بك، فنسألك الهداية إلى سواء السبيل، والعصمة من خطرات نفوسنا ومن وساوس الشيطان ودسائسه ومن شرار خلقك بفضلك يا رحمن. قال تعالى «وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ» يستخفونك ويزعجونك ويخرجونك «مِنَ الْأَرْضِ» التي ولدت فيها ونشأت عليها وبعثت إليهم فيها بسبب عداوتهم ومكرهم يريد أهل مكة حين ما كان صلّى الله عليه وسلم فيها بين أظهرهم قبل أن يهاجر عنهم. وهذه حادثه مكية يذكر الله تعالى بها نبيه في المدينة بعد ما فشا أمره وعلت كلمته في أرض مكة وما حولها وكان استفزازهم ذلك «لِيُخْرِجُوكَ» قسرا «مِنْها وَإِذاً» لو فعلوا ذلك وكان خروجك قهرا «لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ» أي بعدك وعليه قوله:

لا تسألن ابن آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب
الله يغضب إن تركت سؤاله وابن آدم حين يسأل يغضب
عفت الديار خلافهم فكأنها بسط الشواطب بينهن حصيرا
أي بعدهم، والشواطب اللائي يقدّون الأديم بعد ما يخلقنه «إِلَّا قَلِيلًا» ٧٦ لبثا يسيرا جدا، إذ جرت عادة الله تعالى أن كل أمة أخرجت نبيها جبرا فإنه يهلكها استئصالا، والمعنى أنهم لو أخرجوك كما أرادوا لأهلكوا عن بكرة أبيهم، وهم أرادوا هذا وعرفوا وصمموا عليه، ولكن الله لم يرده والله الغالب على أمره.
هذا، ولما لم يقع المقدّم وهو الخروج لم يقع الثاني وهو الهلاك، إذ خرج حضرة الرسول من مكة مهاجرا بعد أن أذن الله له بالهجرة، وهذا من جملة رحمات الله بقريش إرادة استبقائها. وإن ما جاء في قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) الآية ١١ من سورة محمد صلّى الله عليه وسلم في ج ٣ لا يناقض معنى هذه الآية المفسرة، لأن غاية ما فيها الاخبار عن انتصار الله تعالى لأنبيائه السابقين من أممهم المعاندين. وقصارى ما دلت عليه الآية المفسرة هو قرب الاستفزاز منهم تسببا إلى إخراجه ولم يكن حاصلا ولا واقعا ومعنى أخرجتك في الآية المستشهد

صفحة رقم 540

بها عزمهم على اخراجك واجماع كلمتهم عليها، وهم كأنهم أخرجوك على زعمهم، ولكن الله تعالى أبى ذلك، فكان خروجك من بين أظهرهم خروجا لا إخراجا كما سيأتي تفصيله في حادثة الهجرة عند تفسير الآية ٢٧ من العنكبوت في ج ٢، وكيفية اجتماعهم في دار الندوة وماهية قرارهم المتخذ بهذا وصورة تنفيذه وتحقق قول ورقة بن نوفل رحمه الله حينما قص عليه مبادئ نزول الوحي فقال له: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك. وقوله صلّى الله عليه وسلم أو مخرجي هم كما أوضحناه في المقدمة في بحث نزول الوحي وإذ كانت هذه الآية المفسرة مدنية مستثناة من سورتها فيتجه فيها ما أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنيم قال إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام، فلما بلغ تبوك أنزل الله هذه الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث. وعلى هذا يكون المراد بالأرض أرض المدينة لا مكة والله أعلم. إذ انها صالحة للقولين قال تعالى «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا» أي أن إهلاك كل قوم أخرجوا رسولهم قسرا هو سنة مطّردة من الإلهية التي لا تنخرم، كما أنها من سننها المدونة في الأزل أن لا تعذب أمة ما دام نبيها فيها حتى إذا أراد إهلاكها أشار اليه ان يبتعد عنها. قال تعالى (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) الآية ٣٤ من الأنفال في ج ٣ «وَلا تَجِدُ» أنت ولا غيرك ممن تقدمك أو تأخر عنك «لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا» ٧٧ عن مجراها الطبيعي ولا يتمكن أحد على تغييرها، و؟؟؟ أسراء هذه العادة المتبعة التي لا يقدر أحد على تبديلها هو من كمال الحكمة، والمراد من نفي الوجدان هو نفي الوجود، ودليل نفي وجود من يغير عادة الله أظهر من الشمس في رابعة النهار، هذا ومن قال إن هاتين الآيتين مكيّتان تبعا لسورتهما قال في سبب نزولها اجتماع قريش في دار الندوة واتفاقهم على إخراجه من مكة، والحال أنهم اتفقوا على إخراجه من وجه البسيطة لأنهم أجمعوا أن يقتلوه ويشتركوا جميعا في قتله كما هو مبين في الحادثة المشار إليها أعلاه، وانه بعد خروجه من مكة بثمانية عشر شهرا وقعت حادثة بدر وهي دليل على عدم لبثهم فيها من بعده إلا قليلا، وهذا الزمن قليل نسبة وان

صفحة رقم 541

قوله تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ) الآية المارة الذكر آنفا تؤيد ذلك، إلا أن هذا لا يستقيم، إذ جرت عادة الله التي لا تبدل بعذاب الاستئصال العام كما تشير اليه الآيتان المفسرتان، وإن واقعة بدر وقعت على قليل منهم ولم تكن عقب خروجه كما فعل الله بقوم صالح، إذ لم يتأخر عنهم العذاب إلا ثلاثة ايام، وكذلك الأمم قبله وبعده فلم يتأخر عذابهم ولم يقع على بعضهم، وسبب تعجل العذاب على أثر خروج النبي هو إذا وقع متأخرا يظن المعذبون أنه طارئ عادي ليس لإغضابهم أنبيائهم، تدبر، لهذا فان المرضي الذي لا غبار عليه ولا طعن فيه هو ما ذكرناه اولا من أن الآيتين مدنيتان، والسبب في نزولهما هو تذكير الله نبيه ما أراد به قومه وهو في مكة، وما ذكر عن اليهود الذين قالوا له إن كنت نبيا فاذهب إلى الشام، وذلك لأن جميع الأنبياء إما من أرض الشام او هاجروا إليها، ولهذا توجه لتبوك عند سماعه قولهم ذلك. قال قتادة إن هذه السورة مكيّة إلا ثماني آيات وهي من قوله (وإن كادوا) إلى (زهوقا) فهن مدنيات وان كان الخفاجي لا يرضى هذا فقد خولف بكثير من أمثاله، والله أعلم.
مطلب مأخذ الصلوات الخمس والجمع بينها:
قال تعالى «أَقِمِ الصَّلاةَ» التي فرضناها عليك وعلى أمتك ليلة الإسراء هذه «لِدُلُوكِ الشَّمْسِ» أي ميلانها إلى الزوال فتتناول هذه الجملة صلاتي الظهر والعصر، ويرجح هذا القول بأن كل صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلم وأمه بها جبريل عليه السلام هي صلاة الظهر حين علّمه كيفية الصلاة في يومين، كما أشرنا اليه آخر قصة المعراج المارة، وما قيل إن المراد غروبها ينافيه قوله تعالى «إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ» ظلمته لأن هذه الجملة تتناول أيضا المغرب والعشاء، فال النّضر بن شميل غسق الليل دخول أوله قال الشاعر:

إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
ويطلق على ظلمة الليل قال زهير بن أبي سلمى:

صفحة رقم 542

وما استدل به بعضهم على أن الدلوك بمعنى غياب الشمس من قول ذي الرمة:

ظلّت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الاظلام والغسق
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالاملاك الدوالك
لا يكون نصا في معنى الغياب لأنه يكون بمعنى الميل والنجوم تميل بسيرها، لأن أصل مادة ذلك تدل على الانتقال وفي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها، وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها بحسب مانراه، وكذلك الدلك المعروف هو انتقال اليد من محل إلى آخر، وليعلم أن كل كلمة أولها دال ولام مع قطع النظر عن آخرها تدل على ذلك مثل دلج من الدلجة وهو سير الليل ومنه دلج الدلو إذا مشى بها من رأس البئر إلى المصب ودلج بالماء إذا مشى به مشيا ثقيلا ودلع إذا أخرج لسانه ودلف إذا مشى مشية المقيد ودلق إذا أخرج المائع من مقره ودله إذا ذهب عقله «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» صلاته لأنها لا تجوز بلا قراءة «إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً» ٧٨ من ملائكة الليل والنهار لأنه آخر الليل وأول النهار، ولهذا فضل بعضهم صلاة الغلس على صلاة الأسفار، وان الصلاة في وقتها أفضل، وهذه الآية الكريمة هي مأخذ الصلوات الخمس التي فرضها الله تعالى على حضرة الرسول وأمته في هذه السورة في ليلة المعراج الشريف، ونظير هذه الآية الآية ١٣٠ من سورة طه المارة والآية ١٨ من سورة الروم في ج ٢ هذا ومما يؤيد فرضية الصلاة في نزول هذه الآية وكونها في السنة العاشرة، كما قال الزهري أنها في السنة الخامسة لا كما قدمنا البحث فيه في قصة المعراج المارة، وإن مما يقدح في قوله أن خديجة رضي الله عنها لم تصل الصلوات الخمس وأن أبا طالب لم يدرك الإسراء ولم يبلغه شيء عنه ولو كان حيا لرجع اليه قومه حين أنكروه على النبي صلّى الله عليه وسلم وأنّبوه ورموه بما رموه من أجله لأنه توفي في ١٥ شوال سنة ١٠ من البعثة التي أولها شهر رمضان وقد وقع الإسراء في ٢٧ رجب سنة ١٠ وتلته خديجة بعد ثلاثة أيام كما ذكرناه قبل، تنبه. روى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا، وتجتمع ملائكة الليل والنهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة اقرأوا إن شئتم (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) الآية وليعلم

صفحة رقم 543

أن ليس المراد باقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين، أي دلوك الشمس وغسق الليل على وجه الاستمرار، بل إقامة كل صلاة في وقتها المعين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة، كما أن اعداد ركعات كل صلاة موكول إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، وقدمنا ما يتعلق بهذا البحث أيضا آخر قصة المعراج المارة أول هذه السورة، وقد استدل بعضهم في هذه الآية على جواز جمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، وبقاء الصبح وحدها لانفصالها بالآية وذكرها وحدها بلا عذر، وهو خطأ إذ لا خبر صحيح بجواز ذلك، وإذا لم يضمّ إلى هذه الآية بشيء يفسرها من أقوال حضرة الرسول على صحة ما قاله ذلك البعض لا يصلح الأخذ به، لأن الاستدلال بظاهرها ومفردها على جواز الأربعة جميعها، لأنها عبارة عن جملة واحدة أولى من الاستدلال على جمع اثنتين اثنتين، ولا قائل بجمع الأربع البتة، وان حديث ابن عباس المثبت في صحيح مسلم من أنه صلّى الله عليه وسلم صلّى الظهر والعصر جمعا بالمدينة، وفي رواية أنه صلّى ثمانيا جمعا وسبعا جمعا من غير خوف ولا سفر هو صحيح لا غبار عليه، إلا أنه لم ينف المرض والمطر، لأن الجمع فيهما جائز تقديما وتأخيرا على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وتقديما فقط في الجديد بسبب المرض أو المطر ليس إلا، ولا يليق أن يؤول الحديث المذكور بخلاف هذا، وما جاء عنه أيضا في صحيح مسلم في رواية أخرى من غير خوف ولا مطر أي لا مطر كثير يمنع من المشي إلى الجامع بسهولة، يدل على هذا قوله صلّى الله عليه وسلم إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال، فإذا كان المطر لم يبلغ ذلك فلا يمنع ولا يصح الجمع، ولم ينف هذا الحديث أيضا المرض تدبّر، بما يدل على أن جمعه ذلك الوارد في حديث مسلم كان بسبب المرض، إذ لا قائل بالجمع دون سبب أصلا. على أن الجمع لم يقل به ابو حنيفة مطلقا فيما عدا عرفات ومزدلفة لضيق الوقت
في ذلك الازدحام الذي يعرفه من شاهده ليس إلا، لعدم تثبته رضي الله عنه من صحة ما ورد فيه، وأن الجمع المروي عنه صلّى الله عليه وسلم حال العذر عبارة عن تأخير الأولى لآخر وقتها فصلاها فيه، ولما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت هذه الصورة صورة جمع، ويحمل عليه قول من رآه صلّى ثمانيا

صفحة رقم 544

أو سبعا، أو أنه جمع بين الوقتين، ولهذا قال الترمذي في آخر كتابه ليس في كتاب حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، أي أنه لم يبين فيه المرض ولا قلة المطر غير المانع من المشي بسهولة، وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، ولا يقال لمثل هذا الحكيم الترمذي إن قوله ناشىء من عدم تتبعه بل هو ناشىء من شدة تتبعه، ولذلك قال ابن الهمام إن حديث ابن عباس معارض بما في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى الله عليه وسلم قال ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى. مما يدل على أن حديث ابن عباس فيه مقال، وإن كان في صحيح مسلم، كما أن حديث شريك بن نمر الذي رواه عن أنس بن مالك في قضية الإسراء فيه مقال، حتى قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك الذي أشرنا إليه في الآية ١٨ من سورة والنجم المارة والآية ١٠ من سورة الجن أيضا، وفي مطلع هذه السورة في بحث الإسراء. وقال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين قد زاد شريك فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. هذا، وهو في مسلم والبخاري وعن أنس أيضا، فلا يبعد أن يكون ما رواه مسلم عن ابن عباس زيد فيه أيضا ما زيد. ومن قال إنه تأويل (قرآن الفجر) بصلاته خلاف ظاهر الآية ولا يجوز الصرف عن الظاهر إلا بدليل، فيقال له إن الدليل موجود وهو قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ) وقرآن الفجر معطوف عليها ولم يشتهر أقم القراءة بل أقم الصلاة.
مطلب في التهجد والمقام المحمود وما نسب لإبراهيم وصلاة التراويح:
وما احتج به من ضمير (به) في قوله عز قوله «وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ» يجوز رجوعه إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى، ويجوز رجوعه إلى الصلاة أيضا المعبر عنها بالقرآن، لأنها ركن من أركانها كما عبر عنها بالركوع والسجود، وعود الضمير من (به) إلى الصلاة أولى لأن التهجد هو الصلاة بعد النوم، ولا تسمى الصلاة تهجدا إلا إذا كانت بعد النوم وفي الليل ت (٣٥)

صفحة رقم 545

خاصة «نافِلَةً لَكَ» زائدة على سائر الصلوات. روي عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: ثلاث هي عليّ فريضة وهي سنة لكم:
الوتر والسواك وقيام الليل. وروي عن الحجاج بن عمر والمازني أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد، إنما التهجد الصلاة بعد الرّقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» ٧٩ من قبل أهل السموات والأرض. واعلم أن عسى هنا وفي كل موضع من القرآن إذا كانت من الله تكون بمعنى الإيجاب التفضّلي، لأن معناها الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه منه كان عارا عليه، والله أكرم من أن يطمع أحدا بشيء ثم لا يعطيه إياه، والمقام المحمود وهو مقام الشفاعة العظمى العامة الذي اختصه الله تعالى به يحمده عليه الأولون والآخرون، وناهيك أن الله تعالى سماه محمودا.
أخرج البخاري ومسلم عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك، ثم موسى فيقول كذلك، ثم محمد فيشفع فيقضي الله بين الخلائق، فيمشي حتى يأخذ بخلقه باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم.
وأخرج الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لواني، وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر، فيفزع الناس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك، فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحا، فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقول كما جاء في عبارة الترمذي إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله أي (ناضل ودافع) وهي من باب المعاريض لأن الأولى قوله (إِنِّي سَقِيمٌ) الآية ١٩ من سورة الصافات في ج ٢، ومعناها مريض القلب من تماديكم على الكفر وعدم التفاتكم إلى خالقكم، والثانية قوله

صفحة رقم 546

(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) الآية ٦٢ من سورة الأنبياء في ج ٢، وذلك على طريق الاستهزاء بهم والسخرية من عقيدتهم بالأوثان، والثالثة قوله للجبار حينما سأله عن زوجته سارة هذه أختي يريد أنها أخته في الخلقة والدين، وعلى هذا فلا شيء يعد منها كذبا صراحة. وقالوا في المعاريض مندوحة عن الكذب، ولكنه إذ كان من أهل العزم المطلوب منهم التصريح بما لا يحتمل التأويل فيعد مثل هذا منهم ذنبّا على حد (حسنات الأبرار سيئات المقربين) ولكن ائتوا موسى، فيأتون موسى فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى، فيأتونه فيقول إني عبدت من دون الله تعالى ولكن ائتوا محمدا، فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها، فيقال من هذا؟ فأقول محمد، فيفتحون لي ويقولون مرحبا، فأخرّ ساجدا لله، فيلهمني تعالى من الثناء والحمد والمجد، فيقال إرفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك، فهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) الآية. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله، من مات لا يشرك بالله شيئا. وروى مسلم عن جابر بن عبد الله قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال من قال حين يسمع النداء أللهم ربّ هذه الدعوة النامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة. وتقدم في سورة والضحى ما يتعلق في هذا البحث فراجعه، وفي الآية ١٧ من سورة المزمل المارة تقدم ما يتعلق في قيام الليل بصورة مفصلة، وسنذكر هنا بعض الأحاديث الواردة فيه. روى البخاري ومسلم عن المغيرة بن شعبة قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم حتى انتفخت قدماه، فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال أفلا أكون عبدا شكورا. ولفظ أبي داود في رواية مسلم عن زيد بن خالد الجهني قال:
لأرمقنّ صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم الليلة، فتوسدت عتبته أو فسطاطه، فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلّى ركعتين طويلتين كررها ثلاثا، ثم صلّى ركعتين، دون التي قبلها كررها ثلاثا أيضا، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة. وروى

صفحة رقم 547

البخاري ومسلم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في رمضان؟ قالت ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهنّ وطولهنّ، ثم يصلي أربعا فلا تسل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. قالت عائشة فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ فقال يا عائشة إن عينيّ تنامان ولا ينام قلبي. ورويا عنها أيضا قالت كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم بين كل ركعتين وبوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن بالإقامة. ومن هنا أخذ الشافعي رحمه الله الضجعة بين سنة الفجر وفرضه، وسماها بعضهم ضجعة القبر، أي أنها تذكره بها، ومن هنا أخذت أيضا صلاة التراويح في رمضان التي يسميها بعضهم سنة عمر رضي الله عنه وإنما هي سنة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإن عمر رضي الله عنه أخذها عنه إلا أنه صلاها جماعة في رمضان، وكان النبي يصليها وحده، لهذا سموها سنة عمر نور الله قبره كما نور مساجدنا بذلك. وأخرج أبو داود والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ، ثم ركع بقدر قيامه يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه، ثم قال في سجوده مثل ذلك، ثم قام فقرأ بآل عمران، ثم قرأ سورة النساء.
وأخرج الترمذي عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة يكررها.
وروى البخاري ومسلم عن الأسود قال: سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله من الليل؟ قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج. وأخرج النسائي عن أنس قال: ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الليل مصليا إلا رأيناه، ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه. أي أنه كان لا يوقّت وقتا لنومه

صفحة رقم 548

وصلاته، وزاد في رواية غيره، كان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا، ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا. فهذا حال رسول الله أيها الناس وهو على ما هو عليه من الرفعة والأمن من اليوم الآخر، فكيف أنتم هل أديتم بعض حقوق الله وهل قمتم ببعض واجباته أو واجبات خلقه أو أتيتم ما فرضه عليكم؟
كلا بل لا زلتم على ما أنتم عليه من الضعة غافلين عما يراد بكم في ذلك اليوم العظيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. قال تعالى «وَقُلْ رَبِّ» حذف منه ياء النداء أي يا محمد قل في دعائك إذا دعوتني يا رب «أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ» في كل مكان أدخل فيه وكل زمان أصير إليه وكل أمر ألج فيه من أمور الدنيا والآخرة، وقرىء هنا وفيما بعد مدخل بفتح الميم إذ يجوز أن يكونا اسمى مكان وانتصابهما على الظرفية ويجوز أن يكونا مصدرين منصوبين بفعل من نوعهما «وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ» كذلك على العمومية في الجملتين، لأن جعلهما عامتين أوفق لظاهر الآية لفظا، وقد خصهما بعض المفسرين في القبر أو في مكة أو المدينة أو الجنة أو في تعاطي المأمورات واجتناب المنهيات وغير ذلك دون استناد لدليل يفيد التخصيص، مع أن سابق اللفظ ولا حقه مما تقدم عن هاتين الجملتين أو تأخر لا يختصان بمكان أو زمان دون زمان ومكان آخرين، والمعنى يا رب أدخلني إدخالا مرضيّا على طهارة وزكاة في كل أموري، وأخرجني إخراجا مرضيّا ملقى بالكرامة آمنّا من الملامة في جميع أحوالي، ويؤيد معنى العموم قوله جل قوله «وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً» ٨٠ على من خالفني ولم يؤازرني وارزقني حجة قوية على من يحاججني وبرهانا مؤزرا على من يخاصمني في أمرك، ودليلا قاطعا على من يجادلني في دينك. هذا، وما قيل إن هذه الآية نزلت حينما أمر حضرة الرسول بالهجرة وطلب إخراجه من مكة آمنا من أذى قومه الذين كلفوه بالخروج، أو حينما خرج من الغار سالما قال وأدخلني المدينة آمنا أو وأدخلني مكة فاتحا أو غير ذلك، فقيل لا مستند له واحتمال المعنى لهذا لا يعني أنها نزلت فيه، وقد دعا صلّى الله عليه وسلم وأجاب الله دعاءه بقوله (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية ٦٧ من المائدة، وقوله تعالى (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
الآية الأخيرة من سورة

صفحة رقم 549
بيان المعاني
عرض الكتاب
المؤلف
عبد القادر بن ملّا حويش السيد محمود آل غازي العاني
الناشر
مطبعة الترقي - دمشق
الطبعة
الأولى، 1382 ه - 1965 م
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية