
فقال بعض العلماء بتفضيل المؤمنين على الملائكة، محتجين
بالحديث المتقدم عن عبد الله بن عمرو أو أنس أو زيد بن أسلم، وبما قال أبو هريرة: «المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده».
وقال آخرون بأن الملائكة أفضل من البشر على الإطلاق، عملا بهذه الآية، وهو دليل الخطاب: وهو أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد.
والظاهر هو الرأي الثاني، فإن قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هو ما سوى الملائكة، قال الزمخشري: وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة ذوو المنزلة العالية عند الله «١».
أحوال الناس مع قادتهم يوم القيامة
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
الإعراب:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يَوْمَ: ظرف منصوب متعلق بفعل دل عليه: وَلا يُظْلَمُونَ فكأنه قال: لا يظلمون فتيلا يوم ندعو كل أناس بإمامهم، ولا يجوز أن يعمل فيه نَدْعُوا لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهو المضاف، ولا يجوز أن يعمل فيه «فضلنا» في الآية المتقدمة، لأن الماضي لا يعمل في المستقبل.

وباء بِإِمامِهِمْ متعلقة بندعو لأن كل إنسان يدعى بإمامه يوم القيامة، أو متعلقة بمحذوف في موضع الحال، أي يوم ندعو كل أناس مختلطين بإمامهم.
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى هو من عمى القلب، ولو كان من عمى العين، لقال: فهو في الآخرة أشد عمى لأن عمى العين شيء ثابت كاليد والرجل، فلا يتعجب منه إلا بأشد أو نحوه من الثلاثي. وأفعل: الذي للتفضيل يجري مجرى التعجب.
البلاغة:
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ استعارة، استعار الإمام الذين يتقدم الناس في الصلاة لكتاب الأعمال، لملازمته الإنسان وتقدمه يوم القيامة.
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا استعارة تمثيلية، أي لا ينقصون من ثواب أجورهم ولو بمقدار خيط شق النواة، وهو مثل للقلة.
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى تفصيل بعد إجمال، بعد ذكر كتاب الأعمال.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ نَدْعُوا اذكر يوم ندعو، وهو يوم القيامة. بِإِمامِهِمْ بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا، وكتاب كذا، وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر، كقوله تعالى:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس ٣٦/ ١٢] فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي فمن أوتي منهم كتابه بيمينه، وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا. فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ قيل أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع، وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لشعورهم بالسعادة، فهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ١٩] وأما أصحاب الشمال فكأنهم لا يقرءون كتابهم، لعجزهم عن النطق السوي والقول الصحيح، بسبب ما ينتابهم أمام العقاب من حياء وخجل وانخزال وحبس لسان وتعتعة.
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء، كقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم ١٩/ ٦٠] فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه ١٠/ ١١٢] والفتيل: الخيط المستطيل في شقّ النواة. وهو يضرب به المثل في الشيء الحقير التافة القليل، ومثله: النقير والقطمير.

وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي ومن كان في الدنيا أعمى فليس المراد بالعمى الحقيقة، وإنما المجاز هو عمى البصيرة، فقد أستعير الأعمى لأعمى القلب أو البصيرة عن حجة الله وبيناته، أو من لا يهتدي إلى طريق النجاة، وهو دليل على وقوع المجاز في القرآن. وَأَضَلُّ سَبِيلًا أبعد طريقا عنه.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنواعا من كرامات الإنسان وأفضاله عليه في الدنيا، ذكر من أحوال الآخرة وما فيها من تفاوت شديد بين أهل السعادة وأهل الضلال والانحراف عن معالم الهدى الإلهي وأنه تعالى يحاسب كل أمة بإمامهم، أي بنبيهم فيقال: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد أو بكتابهم الذي أنزل على نبيهم أو بكتبهم التي فيها رصد أعمالهم، وهو الأرجح.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة بإمامهم أي بكتاب أعمالهم، وهو القول الأرجح كما ذكر ابن كثير لقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس ٣٦/ ١٢] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف ١٨/ ٤٩] فالكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرّف أعمالهم.
ويحتمل أن المراد بِإِمامِهِمْ أي بقائدهم الذي يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال تعالى:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص ٢٨/ ٤١]. إلا أن الراجح هو ما ذكر ابن كثير، بدليل قوله تعالى بعده:
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ أي فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه، فأولئك يقرءونه بفرح وسرور بما فيه من العمل

الصالح، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَيَقُولُ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ١٩].
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، والفتيل:
هو الخيط المستطيل في شق النواة، ونحو الآية: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم ١٩/ ٦٠] وآية فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه ٢٠/ ١١٢].
أخرج الترمذي والحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يدعى أحدهم، فيعطى كتابه بيمينه، ويمدّ له في جسمه، ويبيّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون:
اللهم أتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا».
وعاقبة الحساب معروفة في الدنيا قبل الآخرة، فقال سبحانه:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي ومن كان في الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون، فهو يكون كذلك أعمى في الآخرة، لا يجد طريق النجاة، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا. وليس المراد بالأعمى عمى البصر، بل المراد منه عمى القلب.
والأعمى مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه.

فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيتان إلى ما يلي:
١- الحساب بين الخلائق يوم القيامة يكون مدعما بالوثائق والمستندات، فكل إنسان يدعى للحساب بكتابه الذي فيه عمله، كما قال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية ٤٥/ ٢٨].
والدعوة تكون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، خلافا لمن قال كمحمد بن كعب أن الدعوة تكون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم، بدليل
حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» فقوله: «هذه غدرة فلان بن فلان»
دليل على أن الدعوة تكون بأسماء الآباء لا بأسماء الأمهات.
٢- ليس هناك فرحة بعد أهوال الحساب أشد وأغبط للنفس من فرحة تلقي الكتاب باليمين لأنه دليل النجاة والفوز والسعادة الأبدية، فاللهم اجعلنا من أهل اليمين.
٣- إن الأعمى في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق والاستدلال بآيات الله في الكون الدالة على وجوده ووحدانيته هو في الآخرة أعمى، وأضل سبيلا، لا يهتدي إلى طريق النجاة، ولا يجد طريقا إلى الهداية، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه ٢٠/ ١٢٤] وقال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء ١٧/ ٩٧].