
الصفات، ونصبه على الحال، أي نافرين، وقوله أَنْ يَفْقَهُوهُ أَنْ نصب على المفعول أي «كراهة أن»، أو «منع أن»، والضمير في يَفْقَهُوهُ عائد على الْقُرْآنِ، وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت:
إنما عنى بقوله: وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً الشياطين وأنهم يفرون من قراءة القرآن، يريد أن المعنى يدل عليهم وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ، وهذا نظير قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا نودي بالصلاة أدبر الشيطان له خصاص». وقوله نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ الآية، هذا كما تقول فلان يستمع بحرص وإقبال، أو بإعراض وتغافل واستخفاف، فالضمير في بِهِ عائد على «ما»، وهي بمعنى الذي، والمراد بالذي ما ذكرناه من الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف والاستهزاء الذي يستمعون به، أي هو ملازمهم، ففضح الله بهذه الآية سرهم، والعامل في إِذْ الأولى وفي المعطوفة عليها يَسْتَمِعُونَ الأول، وقوله وَإِذْ هُمْ نَجْوى وصفهم بالمصدر، كما قالوا: قوم رضى وعدل، وقيل المراد بقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى اجتماعهم في دار الندوة ثم انتشرت عنهم، وقوله مَسْحُوراً الظاهر فيه أن يكون من السحر، فشبهوا الخبال الذي عنده بزعمهم، وأقواله الوخيمة برأيهم، بما يكون من المسحور الذي قد خبل السحر عقله وأفسد كلامه، وتكون الآية على هذا شبيهة بقول بعضهم بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون: ٢٥] ونحو هذا، وقال أبو عبيدة: مَسْحُوراً معناه ذا سحر، وهي الرية يقال لها سحر وسحر بضم السين، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله ﷺ بين سحري ونحري.
ومنه قولهم للجبان: انتفخ سحره، لأن الفازع تنتفخ ريته، فكأن مقصد الكفار بهذا التنبيه على أنه بشر أي ذا رية، قال: ومن هذا يقال لكل من يأكل ويشرب من آدمي وغيره: مسحور ومسحر، ومنه قول امرئ القيس: [الوافر] ونسحر بالطعام وبالشراب وقول لبيد: [الطويل]
فإن تسألينا فيم نحن فإننا | عصافير من هذا الأنام المسحّر |
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
ضرب المثل له هو قولهم مسحور، ساحر، مجنون، متكهن، لأنه لم يكن عندهم متيقنا بأحد هذه، صفحة رقم 461

فإنما كانت منهم على جهة التشبيه، ثم رأى الوليد بن المغيرة أن أقرب هذه الأمور على تخيل الطارين عليهم هو أنه ساحر، ثم حكم الله عليهم بالضلال، وقوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا يحتمل معنيين: أحدهما لا يستطيعون سبيلا إلى الهدى والنظر المؤدي إلى الإيمان، فتجري الآية مجرى قوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً [الإسراء: ٤٦] [الأنعام: ٢٥] ونحو هذا، والآخر: لا يستطيعون سبيلا إلى فساد أمرك وإطفاء نور الله فيك بضربهم الأمثال لك واتباعهم كل حيلة في جهتك، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأصحابه، وقوله إِذا كُنَّا عِظاماً الآية، هذه الآية في إنكارهم البعث، وهذا منهم تعجب وإنكار واستبعاد، و «الرفات» من الأشياء: ما مر عليه الزمن حتى بلغ به غاية البلى، وقربه من حالة التراب، يقال: رفت رفتا فهو مرفوت، وفعال: بناء لهذا المعنى، كالحطام، والفتات، والرصاص، والرضاض، والدقاق، ونحوه، وقال ابن عباس: رُفاتاً غبارا، وقال مجاهد: ترابا، واختلف القراء في هذين الاستفهامين: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو «أيذا كنا ترابا أينا» جميعا بالاستفهام، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة، ثم يأتي بالياء ساكنة، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مدة، وقرأ نافع الأولى مثل أبي عمرو، واختلف عنه في المد، وقرأ الثانية «إنا» مكسورة على الخبر، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول من الثاني، غير أنه كان يهمز همزتين، وقرأ عاصم وحمزة: «أإذا أإنا» بهمزتين فيهما، وقرأ ابن عامر «إذا كنا»، مكسورة الألف من غير استفهام «ء إنا» يهمز، ثم يمد، ثم يهمز. ويروى عنه مثل قراءة حمزة، وفي سورة الرعد توجيه هذه القراءات، وجَدِيداً صفة لما قرب حدوثه من الأشياء، وهكذا يوصف به المذكر والمؤنث، فيقال ملحفة جديد وقولهم جديدة، لغة ضعيفة، كذا قال سيبويه، وقوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً الآية، المعنى: قل لهم يا محمد كونوا إن استطعتم هذه الأشياء الصعبة الممتنعة التأتي، لا بد من بعثكم، وقوله كُونُوا هو الذي يسميه المتكلمون التعجيز من أنواع لفظة افعل، وبهذه الآية مثل بعضهم، وفي هذا عندي نظر: وإنما التعجيز حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب، كقوله تعالى: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ [آل عمران: ١٦٨]، ونحوه، وأما هذه الآية، فمعناها: كونوا بالتوهم والتقدير كذا وكذا، الذي فطركم كذلك، هو يعيدكم، وقال مجاهد أراد ب «الخلق»، الذي يكبر في الصدور: السماوات والأرض والجبال، وقال ابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو والحسن وابن جبير والضحاك: أراد الموت، وقال قتادة ومجاهد: بل أحال على فكرتهم عموما، ورجحه الطبري، وهذا هو الأصح، لأنه بدأ بشيء صلب، ثم تدرج القول إلى أقوى منه، ثم أحال على فكرهم، إن شاؤوا في أشد من الحديد، فلا وجه لتخصيص شيء دون شيء، ثم احتج عليهم عز وجل في الإعادة بالفطرة الأولى، من حيث خلقهم، واخترعهم من تراب، فكذلك يعيدهم إذا شاء، لا رب غيره، وقوله فَسَيُنْغِضُونَ معناه:
يرفعون ويخفضون يريد على جهة التكذيب، قال ابن عباس: والاستهزاء. قال الزجاج: تحريك من يبطل الشيء ويستبطئه، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أنغض نحوي رأسه وأقنعا | كأنما أبصر شيئا أطمعا |
ظعائن لم يسكن أكناف قرية | بسيف ولم تنغض بهن القناطر |