
معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ، وقال أولئك، ولم يقل تلك، كما قال الشاعر:
ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنزلَةِ اللَّوَى | والعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الأيَّامِ (١) |
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا (٣٧) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨) ﴾
يقول تعالى ذكره: ولا تمش في الأرض مختالا مستكبرا (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ) يقول: إنك لن تقطع الأرض باختيالك، كما قال رُؤْبة:
وقاتِمِ الأعماقِ خاوِي المُخْتَرَق (٢)
سَرتِ الهُمومُ فَبِتْنَ غَيرَ نِيامِ | وأخُو الهُمومِ يَرُومُ كلَّ مَرَامِ |
(٢) البيت مطلع أرجوزة مطولة (١٧١ بيتا في ديوان رؤبة طبع ليبج سنة ١٩٠٣م، ص ١٠٤) وهو شاهد على أن قوله المخترق بمعنى القطع كما في قوله تعالى: "إنك لن تخرق الأرض" أي لن تقطع الأرض. ويريد بقائم الأعماق: واديا مظلم النواحي لما كثر فيه من الغبار الثائر. والخاوي: الخالي. والمخترق: الممر والمقطع. وقال أبو عبيدة في مجاز القرآن (١: ٣٨٠) " إنك لن تخرق الأرض ": مجاز " لن تقطع الأرض. وقال رؤبة:... البيت أي المقطع. وقال آخرون: إنك لن تنقب الأرض وليس بشيء.

يعني بالمخترق: المقطع (وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) بفخرك وكبرك، وإنما هذا نهي من الله عباده عن الكبر والفخر والخُيَلاء، وتقدم منه إليهم فيه معرِّفهم بذلك أنهم لا ينالون بكبرهم وفخارهم شيئا يقصر عنه غيرهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولا) يعني بكبرك ومرحك.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) قال: لا تمش في الأرض فخرا وكبرا، فإن ذلك لا يبلغ بك الجبال، ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ) قال: لا تفخر.
وقيل: لا تمش مرَحا، ولم يقل مرِحا، لأنه لم يرد بالكلام: لا تكن مرِحا، فيجعله من نعت الماشي، وإنما أريد لا تمرح في الأرض مرَحا، ففسر المعنى المراد من قوله: ولا تمش، كما قال الراجز:
يُعْجَبُهُ السَّخُونُ والعَصِيدُ | والتَّمْرُ حبًّا مَا لَهُ مَزِيدُ (١) |
وقوله (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) فإن القرّاء اختلفت
يُعْجِبُهُ السِّخُونُ والبَرُودُ | والقَزُّ حُبًّا مالَهُ مَزِيدُ |

فيه، فقرأه بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) على الإضافة بمعنى: كل هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التي عددنا من مبتدأ قولنا (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ).... إلى قولنا (وَلا تَمْشِ فِي الأرْضِ مَرَحًا) (كانَ سَيِّئُهُ) يقول:
سيء ما عددنا عليك عند ربك مكروها.
وقال قارئو هذه القراءة: إنما قيل (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) بالإضافة، لأن فيما عددنا من قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) أمورا، هي أمر بالجميل، كقوله (وَبالوَالِدَيْنِ إِحْسانا) وقوله (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ) وما أشبه ذلك، قالوا: فليس كلّ ما فيه نهيا عن سيئة، بل فيه نهى عن سيئة، وأمر بحسنات، فلذلك قرأنا (سَيِّئُهُ)، وقرأ عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة (كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً) وقالوا: إنما عنى بذلك: كلّ ما عددنا من قولنا (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) ولم يدخل فيه ما قبل ذلك. قالوا: وكل ما عددنا من ذلك الموضع إلى هذا الموضع سيئة لا حسنة فيه، فالصواب قراءته بالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نيته أن يكون المكروه مقدما على السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده: كلّ ذلك كان مكروها سيئه؛ لأنه إن جعل قوله: مكروها نعدّ السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة: كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين.
وأولى القراءتين عندي في ذلك بالصواب قراءة من قرأ (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ) على إضافة السيئ إلى الهاء، بمعنى: كلّ ذلك الذي عددنا من (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ.... كانَ سَيِّئُهُ) لأن في ذلك أمورا منهيا عنها، وأمورا مأمورا بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الموضع دون قوله (وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ) إنما هو عطف على ما تقدّم من قوله (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) فإذا كان ذلك كذلك، فقراءته بإضافة السيء إلى الهاء أولى وأحقّ من قراءته سيئةً بالتنوين، بمعنى السيئة الواحدة.
فتأويل الكلام إذن: كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التي عددناها عليك كان سيئة مكروها عند ربك يا محمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه، فاتق مواقعته والعمل به.