
بالظاهر والباطن جميعًا على ما ذكرنا في قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا)، والله أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)، ويحتمل أن يكون على الإضمار؛ فيكون - واللَّه أعلم - كأنه قال: رب ارحمهما كما رحماني وربياني صغيرًا.
وقول أهل التأويل: إن هذا منسوخ نسخه قوله: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ...) الآية - بعيد؛ وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين؛ فالرحمة التي ذكر: تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلًا للرحمة والمغفرة؛ وذلك جائز كقول نوح لقومه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا) أي: استهدوا ربكم؛ فيهديكم فيغفر لكم ما كان منكم؛ إنه كان لم يزل غفارًا؛ إذ لا يحتمل أن يأمرهم بالاستغفار ويعدهم بالمغفرة على الحال التي هم عليها، وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه.
أو أن تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم أعضًا، والشفقة التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء، ثم مثل هذه المعاملة التي أمر الولد أن يعامل أبويه يلزم المؤمنين من جهة الدِّين ومكارم الأخلاق أن يعاملهم الناس بعضهم بعضا، غير أن هذا فيما بين الناس ليس بفرض لازم، وذلك فرض لازم؛ لأنها بحق الشكر والجزاء لهما لما كان منهما إليه من البرّ والإحسان، وحق التربية والتعظيم حقهما وجليل قدرهما وخصوصيتهما، وهو كما يقال لرسوله: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) وإلا فقد وصف المؤمنين بتراحم بعضهم على بعض؛ على ما ذكر: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، وأمرهم بذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ (٢٥)
قال بعضسهم: قوله: (أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) من أسرار المحبة لهما والبر والكرامة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ)، أي: أعلم ما تفعله نفوسكم، وهو كما

قال عيسى - عليه السلام -: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، أي: تعلم ما تفعله نفسي، ولا أعلم ما في نفسك من التدبير والتقدير؛ فعلى ذلك هذا.
وجائز أن يكون قوله: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ) - صلةَ قوله: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ...) الآية، أي: ربكم أعلم بما في ضميركم: من الاستقذار إياهما، والاستثقال، والكراهة إذا بلغا المبلغ الذي ذكر، ولكن لا تظهر ذلك لهما ولا يوافق ظاهرك باطنك. أو أن يقول: ربكم أعلم بما في نفوسكم أولا يعلم غيره ما في نفوسكم؛ فلا تراءون الناس بما في قلوبكم؛ ولا تصرفوا ما في ضميركم إلى من لا يعلم ذلك؛ يخاطب الكل على الابتداء ألا يجعل ما في قلبه لغيره؛ بل يخلص له، أو أن يكون قوله: أي: ما تفعله أنفسكم وتدبّرها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ).
أي: تصيروا صالحين؛ لأن قوله: (تَكُونُوا) إنما هو في حادث الوقت.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا).
يشبه أن يكون قوله: (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ) صلة قوله: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)، و (إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا) أي: لم يزل غفورًا للأوابين ولمن يشاء.
ثم اختلف في الأواب:
قَالَ بَعْضُهُمْ: الأواب: الرجَّاع التواب، وهو قول أبي عَوْسَجَةَ.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: الأواب: التائب مرة بعد مرة، وهو من: آب يئوب، أي: رجع، وهما واحد.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: الأواب: المطيع، وقيل: المسبح ونحوه.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ في قوله: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)، أي: لِنْ لهما وارفق بهما؛ ذكر بر اللسان للوالدين ولطفه إياهما قولًا وفعلًا، وليس في ظاهر الآية ذكر البر بالمال والإنفاق عليهما؛ فيشبه أن يكون ذلك داخلًا في قوله: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، أو