آيات من القرآن الكريم

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ۚ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا
ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ

قال القاضي أبو محمد: وروى بعض العلماء أن هذه الدرجات والتفضيل إنما هو فيما بين المؤمنين، وأسند الطبري في ذلك حديثا نصه أن بين أعلى الجنة وأسفلها درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها.
قال القاضي أبو محمد: ولكن قد رضي الله الجميع فما يغبط أحد أحدا، ولا يتمنى ذلك بدلا، وقوله لا تَجْعَلْ الآية، الخطاب لمحمد عليه السلام، والمراد لجميع الخلق قاله الطبري وغيره، والذم هنا لاحق من الله تعالى ومن ذوي العقول في أن يكون الإنسان يجعل عودا أو حجرا أفضل من نفسه، ويخصه بالكرامة وينسب إليه الألوهية ويشركه مع الله الذي خلقه ورزقه وأنعم عليه، و «الخذلان» في هذا يكون بإسلام الله وأن لا يكفل له بنصر، و «المخذول» الذي لا ينصره من يحب أن ينصره. والخاذل من الظبا التي تترك ولدها، ومن هذه اللفظة قول الراعي:

قتلوا ابن عفان الخليفة محرما وسعى فلم أر مثله مخذولا
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
قَضى في هذه الآية هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول إن المعنى وَقَضى رَبُّكَ أمره أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وليس في هذه الألفاظ الأمر بالاقتصار على عبادة الله فذلك هو المقضي لا نفس العبادة، وقضى في كلام العرب أتم المقضي محكما، والمقضي هنا هو الأمر، وفي مصحف ابن مسعود «ووصى ربك» وهي قراءة أصحابه، وقراءة ابن عباس والنخعي وسعيد بن جبير وميمون بن مهران وكذلك عند أبي بن كعب، وقال الضحاك تصحف على قوم وصى ب «قضى» حين اختلطت الواو بالصاد وقت كتب المصحف.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف وإنما القراءة مروية بسند، وقد ذكر أبو حاتم عن ابن عباس مثل قول الضحاك، وقال عن ميمون بن مهران: إنه قال إن على قول ابن عباس لنورا، قال الله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: ١٣] ثم ضعف أبو حاتم أن يكون ابن عباس قال ذلك، وقال لو قلنا هذا الطعن الزنادقة في مصحفنا، والضمير في تَعْبُدُوا لجميع الخلق، وعلى هذا التأويل مضى السلف والجمهور، وسأل الحسن بن أبي الحسن رجل فقال له: إنه طلق امرأته ثلاثا فقال له الحسن: عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال له الرجل قضي ذلك علي، فقال له الحسن وكان فصيحا، ما قضى الله أي ما أمر الله، وقرأ هذه الآية، فقال الناس: تكلم الحسن في القدر.

صفحة رقم 447

قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون قَضى على مشهورها في الكلام، ويكون الضمير في قوله تَعْبُدُوا للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة، لكن على التأويل الأول يكون قوله: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عطفا على «أن» الأولى أي أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه وأن تحسنوا بالوالدين إحسانا، وعلى هذا الاحتمال الذي ذكرناه يكون قوله وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مقطوعا من الأول كأنه أخبرهم بقضاء الله ثم أمرهم بالإحسان إلى الوالدين، وإِمَّا شرطية، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمر وعاصم وابن عامر «يبلغنّ»، وروي عن ابن ذكوان «يبلغن» بتخفيف النون، وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» وهي قراءة أبي عبد الرحمن ويحيى وطلحة والأعمش والجحدري، وهي النون الثقيلة دخلت مؤكدة وليست بنون تثنية فعلى القراءتين الأوليين يكون قوله أَحَدُهُما فاعلا، وقوله أَوْ كِلاهُما معطوفا عليه، وعلى هذه القراءة الثانية يكون قوله أَحَدُهُما بدلا من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم كقول الشاعر: [الطويل]

وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان فشلّت
ويجوز أن يكون أَحَدُهُما فاعلا وقوله أَوْ كِلاهُما عطف عليه ويكون ذلك على لغة من قال أكلوني البراغيث، وقد ذكر هذا في هذه الآية بعض النحويين وسيبويه لا يرى لهذه اللغة مدخلا في القرآن، وقرأ أبو عمرو «أفّ» بكسر الفاء وترك التنوين، وهي قراءة حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر وقرأ نافع والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وعيسى «أفّ» بالكسر والتنوين، وقرأ ابن كثير وابن عامر «أفّ» بفتح الفاء، وقرأ أبو السمال «أفّ» بضم الفاء، وقرأ ابن عباس «أف» خفيفة، وهذا كله بناء إلا أن قراءة نافع تعطي التنكير كما تقول آية، وفيها لغات لم يقرأ بها «أف» بالرفع والتنوين على أن هارون حكاها قراءة، «وأفّا» بالنصب والتنوين «وأفي» بياء بعد الكسرة حكاها الأخفش الكبير، «وأفا» بألف بعد الفتحة، «وأفّ» بسكون الفاء المشددة «وأف» مثل رب، ومن العرب من يميل «أفا»، ومنهم من يزيد فيها هاء السكت فيقول «أفاه».
قال القاضي أبو محمد: ومعنى اللفظة أنها اسم فعل كأن الذي يريد أن يقول أضجر أو أتقذر أو أكره أو نحو هذا يعبر إيجازا بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعل المذكور، وجعل الله تعالى هذه اللفظة مثالا لجميع ما يمكن أن يقابل به الآباء مما يكرهون، فلم ترد هذه في نفسها، وإنما هي مثال الأعظم منها، والأقل فهذا هو مفهوم الخطاب الذي المسكوت عنه حكمه حكم المذكور، والانتهار إظهار الغضب في الصوت واللفظ، والقول الكريم الجامع للمحاسن من اللين وجودة المعنى وتضمن البر، وهذا كما تقول ثوب كريم تريد أنه جم المحاسن، و «الأف» وسخ الأظفار، فقالت فرقة إن هذه اللفظة التي في الآية مأخوذة من ذلك وقال مجاهد في قوله وفَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ معناه إذا رأيت منهما في حال الشيخ الغائط والبول الذي رأياه في حال الصغر فلا تستقذرهما. وتقول أُفٍّ.
قال القاضي أبو محمد: والآية أعم من هذا القول وهو داخل في جملة ما تقتضيه، وقال أبو الهدّاج النجيبي: قلت لسعيد بن المسيب كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته إلا قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ما هذا القول الكريم؟ قال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ، وقوله وَاخْفِضْ لَهُما

صفحة رقم 448
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية