الثالثة- قوله تعالى لِمَنْ نُرِيدُ يدل على أنه لا يحصل الفوز بالدنيا لكل أحد، بل كثير من الكفار والضلال يطلبون الدنيا، ويبقون محرومين منها ومن الدين، وفي هذا زجر عظيم لهم، فهم الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
٥- إن قبول الأعمال عند الله مشروط بشرائط ثلاث: الإيمان الصحيح، والنية الطيبة الحسنة، والعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى.
٦- إن رزق الله وعطاءه مكفول لكل إنسان بشرط السعي والعمل، وليس الرزق محظورا عن أحد من المؤمنين والكفار.
٧- ليس الرزق معطي بدرجة متساوية ونسبة واحدة، وإنما هناك تفاوت في الأرزاق، لا يرتبط ذلك بالإيمان والكفر، وإنما يقسمه الله تعالى بين الخلائق على وفق ما يراه من الحكمة والمصلحة.
٨- إن التفاوت في الدركات للكفار والفساق في نار جهنم وفي الدرجات للمؤمنين الأخيار الأتقياء في الجنة أشد بكثير من التفاوت في الدنيا، فالجنة مثلا مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض.
أصول تنظيم المجتمع المسلم التوحيد أساس الإيمان وترابط الأسرة المسلمة دعامة المجتمع
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٠]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
الإعراب:
إِمَّا يَبْلُغَنَّ قرئ: يَبْلُغَنَّ: وحدّ الفعل لمجيء الفاعل بعده واحدا، فإن الفعل متى تقدم توحّد، والفاعل: أحدهما. ومن قرأ: يبلغان: فيكون أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بدلا من ألف يبلغان أو تكون الألف لمجرد التثنية ولا حظّ للاسمية فيها، فيرتفع أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بالفعل الذي قبلهما على لغة من قال: قاما أخواك، وأكلوني البراغيث. وإِمَّا: هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا.
أُفٍّ اسم من أسماء الأفعال، فكانت مبنية، والبناء إما على الكسر لالتقاء الساكنين، أو على الفتح لأنه أخف الحركات، أو على الضم لأنه أتبع الضمّ الضمّ. ومن نون أُفٍّ أراد به التنكير، ومن لم ينوّن أراد التعريف. وفي أُفٍّ إحدى عشرة لغة، مثل «هيهات».
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ابْتِغاءَ: مصدر منصوب في موضع الحال، أي:
وإما تعرضن عنهم مبتغيا رحمة من ربك ترجوها. وجملة تَرْجُوها حال منصوب، أي راجيا إياها.
البلاغة:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ استعارة مكنية، شبّه الذل بطائر ذي جناح، ثم حذف الطائر، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الجناح، فهذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والخدم للسادة.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ، وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ: استعارة تمثيلية، مثّل للبخيل الذي حبس يده عن العطاء بمن شدّت يده إلى عنقه، بحيث لا يستطيع مدّها، وشبّه السرف ببسط الكف، حيث لا تمسك شيئا.
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً لف ونشر مرتب، أعاد لفظ مَلُوماً إلى البخيل، ولفظ مَحْسُوراً إلى الإسراف.
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته، أو الخطاب لكل أحد.
فَتَقْعُدَ إما بمعناها الأصلي، أي فتعجز عن تحصيل الخيرات، أو بمعنى: تصير، مأخوذ من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت مثل الحربة. مَذْمُوماً يذمك الملائكة والمؤمنون. مَخْذُولًا يخذلك الله تعالى، وتصير: لا ناصر لك لأنك أشركت معه إلها آخر.
وهذا بناء على المفهوم يدل على أن الموحد يكون ممدوحا منصورا.
وَقَضى رَبُّكَ حكم وأمر أمرا مقطوعا به. أَلَّا تَعْبُدُوا بألا تعبدوا. إِلَّا إِيَّاهُ حصر العبادة بنفسه تعالى لأن غاية التعظيم لا يستحقها إلا لمن له غاية العظمة وغاية الإنعام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا لهما إحسانا، بأن تبروهما، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والمعيشة. ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأنه صلته وهي لا تتقدم عليه. أُفٍّ اسم صوت يدل على التضجر والاستثقال، أي تبا وقبحا. وَلا تَنْهَرْهُما تزجرهما، والنهر: الزجر بغلظة. قَوْلًا كَرِيماً جميلا لينا.
جَناحَ الذُّلِّ ألن لهما جانبك الذليل، والمراد به التواضع والتذلل، أو حسن الرعاية والعناية. مِنَ الرَّحْمَةِ أي لرقتك عليهما وفرط رحمتك بهما. ارْحَمْهُما كَما رحماني حين.
رَبَّيانِي صَغِيراً أو رحمة مثل رحمتهما علي. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من إضمار البر والعقوق.
إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ طائعين لله، قاصدين للصلاح. لِلْأَوَّابِينَ للتوابين أو الرجاعين إلى طاعته. غَفُوراً لما صدر منهم في حق الوالدين من بادرة، وهم لا يضمرون عقوقا.
وَآتِ أعط. ذَا الْقُرْبى القرابة. حَقَّهُ من البر والصلة وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التبذير: إنفاق المال في غير موضعه الموافق للشرع والحكمة. إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي قرناءهم وعلى طريقتهم كَفُوراً شديد الكفر لنعمه. فكذلك قرينه المبذر. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي وإن أعرضت عن المذكورين من ذي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الرد، فلم تعطهم.
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي لطلب رزق تنتظره يأتيك، فتعطيهم منه قَوْلًا مَيْسُوراً لينا سهلا، بأن تعدهم بالإعطاء عند مجيء الرزق.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تمسكها عن الإنفاق تماما، والمغلولة: المقيدة بالغل: وهو القيد الذي يوضع في اليدين والعنق، وهو تمثيل لمنع الشح وكناية عن البخل. وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي تتوسع في الإنفاق، وهو تمثيل وكناية لمنع الإسراف. فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالبخل، فهو راجع للأول: البخل. مَحْسُوراً نادما، أو منقطعا لا شيء عندك، وهو راجع للثاني: الإسراف. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لمن يشاء. وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما بسرهم وعلنهم، فيرزقهم على حسب مصالحهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٦) :
وَآتِ ذَا الْقُرْبى: أخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة، فأعطاها فدك.
قال ابن كثير: هذا مشكل، فإنه يشعر بأن الآية مدنية، والمشهور خلافه.
لكن ذكر في مطلع السورة أن هذه الآية مدنية. وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله.
نزول الآية (٢٨) :
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ: أخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراساني قال:
جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، ظنوا ذلك، من غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ الآية.
والرحمة: الفيء.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت في كل من كان يسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
من المساكين. قال ابن زيد: نزلت الآية في قوم كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيأبى أن يعطيهم لأنه كان يعلم منهم نفقة المال في فساد.
نزول الآية (٢٩) :
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ: أخرج سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بزّ (ثياب) وكان معطيا كريما، فقسمه بين الناس، فأتاه قوم، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها الآية.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: ما عندنا شيء اليوم، قال: فتقول لك: اكسني قميصا، فخلع قميصه، فدفعه إليه، فجلس في البيت حاسرا، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ... الآية.
وأخرج ابن مردويه أيضا عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة: أنفق ما على ظهر كفي، قالت: إذن لا يبقى شيء، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الآية. قال السيوطي: وظاهر ذلك أنها مدنية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الناس فريقان: فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والعقاب، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل الثواب بشروط ثلاثة: هي إرادة الآخرة، والسعي بحق لطلب الآخرة، وأن يكون مؤمنا، أتبعه ببيان حقيقة الإيمان وأن جوهره التوحيد ونفي الشركاء والأضداد.
وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان، أتبعه بذكر شعائر الإيمان
وشرائطه، ودعائم بنيان المجتمع الإسلامي، مبتدئا بأصول نظام الأسرة، وتقوية الروابط بين أفرادها.
التفسير والبيان:
يخاطب الله تعالى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لبيان حقيقة الإيمان وهو التوحيد ونفي الشركاء، والمراد بالخطاب: المكلفون من الأمة، إذ لم يكن له صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك الوقت أبوان.
ومضمونه: لا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته، وإنما أفرد له الألوهية والربوبية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، فإن جعلت مع الله إلها آخر، صرت ملوما على إشراكك به، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يتركك إلى من عبدته معه، وهو لا يملك ضرا ولا نفعا. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل». والخلاصة: إن أول دعامة للمجتمع المسلم: توحيد الله وعدم الشرك به.
وبعد بيان الركن الأعظم في العقيدة والإيمان وهو التوحيد، ذكر تعالى شعائر الإيمان ومظاهره، وهي ما يأتي:
أولا- عبادة الله تعالى وحده: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر الله تعالى ألا تعبدوا غيره، وهذا يتضمن أمرين: الاشتغال بعبادة الله تعالى، والتحرز عن عبادة غير الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم، ولا يستحق ذلك غير الله عز وجل لأنه مصدر النعم والإنعام من إعطاء الوجود والحياة والقدرة والعقل.
ثانيا- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قرن الله في كثير من الآيات الأمر بعبادته بالأمر ببر الوالدين والإحسان لهما إحسانا تاما في المعاملة لأنهما بعد الله الذي هو السبب الحقيقي لوجود الإنسان، كانا السبب الظاهري في وجود الأولاد وتربيتهم في جو مشحون بالحنان واللطف والعطف والإيثار، والمعنى: وأمر بالوالدين إحسانا، أو وأن تحسنوا إلى الوالدين وتبروهما، كما قال تعالى في آية أخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان ٣١/ ١٤] وذلك لشفقتهما على الولد، وإنعامهما عليه، وبذل أقصى الجهد في تربيته وصونه حتى يصبح رجلا سويا، فكان من الوفاء والمروءة رد شيء من الجميل والمعروف لهما، إما بالمعاملة الحسنة والأخلاق المرضية، وإما بالإمداد المادي إذا كانا بحاجة وكان الولد موسرا، لذا أبان تعالى بعض وجوه الإحسان إليهما، فقال:
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ.. أي إذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر، وصارا عندك في آخر العمر بحال من الضعف والعجز، كما كنت عندهما في بدء حياتك، فعليك اتباع الواجبات الخمسة التالية:
الأول- فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تسمعهما قولا سيئا فيه أدنى تبرّم، حتى ولا التأفف وهو التضجر والتألم الذي هو أدنى مراتب القول السيء، وذلك في أي حال، ولا سيما حال الضعف والكبر والعجز عن الكسب، لأن الحاجة إلى الإحسان حينئذ أشد وأولى وألزم، لذا خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى البر، للضعف والكبر.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة».
الثاني- وَلا تَنْهَرْهُما أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح. والفرق بين النهي عن التأفف والنهي عن الانتهار: أن الأول للمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير، وأن الثاني للمنع من إظهار المخالفة في القول، بالرد أو التكذيب، فالتأفف: الكلام الرديء الخفي، والنهر: الزجر والغلظة.
الثالث- وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي وقل لهما قولا لينا طيبا حسنا مقرونا بالتوقير والتعظيم والحياء والأدب الجم. ويلاحظ أنه تعالى قدم النهي عن المؤذي، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب لأن التخلي مقدم على التحلي، ومنع الأذى أولى من إحسان القول والفعل. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفسرا القول الكريم: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، أي لا يدعوهما بأسمائهما، ولا يرفع الصوت أمامهما، ولا يحملق بنظره فيهما، وسئل سعيد بن المسيّب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ.
الرابع- وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما بفعلك، والمقصود منه المبالغة في التواضع وإلانة الجانب، فإن خفض الجناح كناية عن فعل التواضع، وتشبيه بحال الطائر إذا ضم إليه فرخه، فيخفض له جناحه.
والتواضع ينبغي أن يكون رحمة بهما وشفقة عليهما، لا لأجل امتثال الأمر وخوف العار والنقد فقط.
الخامس- وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي اطلب لهما الرحمة من الله في حال كبرهما وعند وفاتهما. قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال، بل أضاف إليه تعليم الأفعال، وهو أن يدعو لهما بالرحمة، فيقول: رَبِّ ارْحَمْهُما ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. وقوله كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي أحسن إليهما كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية: هي التنمية، وخصها بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة، منها
ما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صعد المنبر، ثم قال: «آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله، علام أمّنت؟ قال: أتاني جبريل، فقال:
يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يسل عليك، قل: آمين، فقلت:
آمين. ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج، فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين».
والبر يكون في حال الحياة وبعد الموت أيضا بدليل
ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرّهما به؟ قال: «نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما».
فإذا كان الوالدان كافرين فللولد أن يدعو لهما حال الحياة بالهداية والإرشاد، وأن يطلب لهما الرحمة بعد حصول الإيمان. أما بعد الموت فقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات، ولو كانوا أولي قربى في الآية:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التوبة ٩/ ١١٣]. فيعامل المسلم أبويه الذميين معاملة حسنة إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر.
ويكفي في العمل بمقتضى هذه الآية طلب الرحمة لهما مرة واحدة لأن ظاهر الأمر للوجوب، وظاهر الأمر لا يقتضي التكرار. سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر، أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات.
وكفى بالشريعة التي جعلت عقوق الوالدين من الكبائر،
أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر حديثا: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد».
ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ... أي أن العبرة بما في القلب وما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فإن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم، بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لاختلاطها بالسهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فمن بدرت منه بادرة غير مقصودة، فلا يعاقبه الله عليها ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين، فإنه سبحانه غفور للتائبين الراجعين إلى الخير، النادمين على ما فرط منهم من غير قصد. والتائب من الذنب: هو الرجّاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله، إلى ما يحبه ويرضاه. والمقصود من الآية: التحذير من ترك الإخلاص.
ثالثا- الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، والمعنى: وأعط أيها الإنسان المكلف القريب والمسكين والمسافر المنقطع في الطريق إلى بلده حقه، من صلة الرحم والود، والزيارة وحسن المعاشرة، والنفقة إن كان محتاجا إليها، وإعانة المسكين ذي الحاجة، ومساعدة ابن السبيل بالمال الذي يكفيه زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.
والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته من بعده.
جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن بكر بن الحارث الأنماري: «أمك وأباك، ثم أدناك أدناك» أو «ثم الأقرب فالأقرب»
وأخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه».
والأمر في رأي أبي حنيفة بالنسبة للأقارب المحارم كالأخت والأخ والوالدين للوجوب، وفي رأي الشافعي للندب، ولا تجب عند الجمهور إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب، وعند الحنابلة: تجب لكل الأقارب حتى الحواشي.
أما مساعدة المساكين وأبناء السبيل فهي من الصدقات المندوبة.
رابعا- منع التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً: لما أمر الله تعالى بالإنفاق والبذل نهى عن الإسراف وبيّن سياسة الإنفاق، أي لا تنفق المال إلا باعتدال وفي غير معصية وللمستحقين، بالوسط الذي لا إسراف فيه ولا تبذير، والتبذير لغة:
إفساد المال وإنفاقه في السرف، والوسطية والاعتدال هي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان ٢٥/ ٦٧].
ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير بإضافته إلى أفعال الشياطين، فقال:
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي إن المبذرين المنفقين أموالهم في معاصي الله يشبهون في هذا الفعل القبيح الشياطين، فهم قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة، وأشباههم في ذلك في الصفة والفعل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦] وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات ٣٧/ ٢٢] أي قرناءهم من الشياطين.
قال ابن مسعود: التبذير: الإنفاق في غير حق، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق، لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق، كان مبذرا. وعن علي كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة، فذلك حظ
الشيطان. وأنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقيل له: لا خير في السرف، فقال: لا سرف في الخير.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته، فاستعمل نفسه في المعاصي والإفساد في الأرض، وإضلال الناس.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفورا لنعمة الله لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.
وفي صفة الشيطان أنه كفور لربه دلالة على كون المبذر أيضا كفورا لربه.
وقال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب، وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة، ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم.
خامسا- الوعد الجميل بالعطاء أو القول الميسور: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة، بعد أن سألوك، فقل لهم قولا سهلا لطيفا لينا، وعدهم وعدا بسهولة ولين بالصلة والعطاء إذا جاء رزق الله، واعتذر بعذر مقبول.
سادسا- القصد في الإنفاق: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.. لما أمر الله تعالى بالإنفاق ذكر هنا أدب الإنفاق، والاقتصاد في العيش، بذم البخل، والنهي عن السرف، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا
مفرطا، فتعطي فوق طاقتك، وتنفق أكثر من دخلك، بحيث لا يبقى في يدك شيء.
والخلاصة: إن أصول الإنفاق هو الاقتصاد في العيش، والتوسط في الإنفاق، دون بخل ولا سرف، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق، وهما مذمومان، وخير الأمور أوساطها، والفضيلة وسط بين رذيلتين.
روى أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة».
وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» «١».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان من السماء، يقول أحدهما:
اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا».
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله».
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا».
ثم أبان الله تعالى ربط الرزق بمشيئته وإرادته، ليدرك الناس أن تضييق الرزق أحيانا على بعضهم ليس لسوء حالهم عند الله، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن ربك أيها الرسول هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له في ذلك
من الحكمة، لذا قال: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي أنه تعالى عالم بأن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر، فهو خبير بصير بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر، فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل، بل لأجل رعاية المصالح،
جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في المسانيد (الجامع الكبير) :«إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه».
وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا، والفقر عقوبة.
والمقصود بالآية أنه تعالى عرف رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كونه ربا، والرب: هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب، فيوسع الرزق على البعض، ويضيقه على البعض.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم مما ذكر أن الآيات ترشد إلى الأحكام التالية:
١- التوحيد أساس الإيمان، والإشراك رأس الكفر والضلال.
٢- الإحسان إلى الوالدين فرض لازم واجب، وقد أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
٣- من البرّ بالأبوين والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبّهما ولا لعقوقهما فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف.
٤- عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برّهما موافقتهما على أغراضهما، فتجب طاعتهما في المباح المعروف غير المعصية، ولا تجب طاعتهما في المعصية.
روى الترمذي عن ابن عمر قال: كانت تحتي امرأة أحبّها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلّقها فأبيت، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال:
«يا عبد الله بن عمر، طلّق امرأتك».
٥- لا يختص برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل يجب برهما ولو كانا كافرين، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الممتحنة ٦٠/ ٨].
وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: «قدمت أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم، إذ عاهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع أبيها، فاستفتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: إن أمي قدمت، وهي راغبة «١»، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك».
٦- من الإحسان إلى الأبوين والبرّ بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد الولد إلا بإذنهما.
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيّ والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد».
أما الوالدان المشركان فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما، وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما.
٧- من تمام برّ الوالدين: صلة أهل ودّهما،
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن من أبرّ البرّ: صلة الرجل أهل ودّ أبيه، بعد أن يولّي»
وقد ذكر حديث أبي أسيد الساعدي البدري.
٨- هناك رقابة خاصة من الله تعالى على معاملة الأبوين لقوله سبحانه:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء.
٩- وكما أمر الله بالإحسان إلى الوالدين ومراعاة حقهما، أمر أيضا بصلة الرحم، وبالتصدق على المسكين وابن السبيل.
١٠- يحرّم الإسلام التبذير، والتبذير كما قال الشافعي رضي الله عنه: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال مالك:
التبذير: هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين.
١١- من أنفق ماله في الشهوات زائدا على قدر الحاجات، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذر، ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه. ومن أنفق ربح ماله في شهواته، مع المحافظة على أصل رأس المال، فليس بمبذر.
١٢- الأدب الرفيع هو رد ذوي القربى بلطف ووعدهم وعدا جميلا بالصلة عند اليسر، والاعتذار إليهم بما هو مقبول وفيه تطييب الخاطر، ولا يعرض الشخص عنهم إعراض مستهين، وهو في حال الغنى والقدرة، فيحرمهم حقهم.
لقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد، فأحسن القول، وابسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل: إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرّة نفسه عمل المواساة.
١٣- الإنفاق في الإسلام: هو التوسط والاعتدال من غير بخل ولا إسراف، ولا تضييع المنفق عياله في المستقبل، أو ألا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، فإن الإسراف وإتلاف المال بغير حق يوقع المسرف في الحسرة والندامة والملامة.
والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.
١٤- إن الله أعلم بمصالح عباده وبأحوالهم، فيرزق من يشاء، ويمنع من يشاء على وفق الحكمة والمصلحة.