
١١- كم من قوم كثيرين كفروا، فحلّ بهم الهلاك أو البوار، وهذا إنذار ووعيد وتهديد بالعقاب الشديد لكل من كفر بالله وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
١٢- إن المعاصي إذا ظهرت، ولم تغيّر، كانت سببا لهلاك الجميع.
١٣- دلّ قوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، راء لجميع المرئيات، فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات، فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه، وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم، وهذه الصفات الثلاث (العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم) أمان لأهل الطاعة، وخوف لأهل الكفر والمعصية.
جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢١]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
الإعراب:
لِمَنْ نُرِيدُ بدل من الْعاجِلَةَ بدل البعض من الكل بإعادة حرف الجر، مثل قوله تعالى:
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف ٧/ ٧٥] فقوله:
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال

كُلًّا نُمِدُّ كلا: مفعول به ل نُمِدُّ وهؤُلاءِ بدل من كل ومعناه: إنا نرزق المؤمنين والكافرين.
كَيْفَ فَضَّلْنا كَيْفَ: منصوب بفضلنا، وليس العامل فيه انْظُرْ لأن كَيْفَ معناها الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
دَرَجاتٍ تمييز منصوب، وكذلك تَفْضِيلًا.
المفردات اللغوية:
مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله. الْعاجِلَةَ أي الدنيا، مقصورا عليها همه، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت عن المنعوت. عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ قيد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمنّ ما يتمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة. يَصْلاها يدخلها. مَذْمُوماً ملوما. مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله تعالى.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل عملها اللائق بها، وهو الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة لام لَها اعتبار النية والخلوص.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك فيه ولا تكذيب. فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة:
إرادة الآخرة، والسعي لها بحق، والإيمان. كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند الله تعالى، أي مقبولا عنده، مثابا عليه، فإن شكر الله: الثواب على الطاعة.
كُلًّا من الفريقين. نُمِدُّ نعطي مرة بعد أخرى. مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من معطاه في الدنيا. وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها. مَحْظُوراً ممنوعا عن أحد، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر، تفضلا.
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والجاه. وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ أعظم. وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا، أي إن التفاوت في الآخرة أكبر: لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، فينبغي الاعتناء بالآخرة دون الدنيا.
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها بنحو واضح، فبعد أن بيّن الله تعالى ارتباط كل إنسان بعمله، قسم العباد قسمين: قسم يريد الدنيا ويعمل لها، وعاقبته النار، وقسم يريد الآخرة، ومآله إلى الجنان.

وكل من الفريقين يرزقهم ربهم في الدنيا لأن عطاءه ليس ممنوعا عن أحد، ولكنهم متفاضلون في الرزق، ومراتب التفاوت في الآخرة أكثر من مراتب تفاوت الدنيا.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تصنيف عام لأحوال الناس في الدنيا، فهم فريقان: فريق يعمل للدنيا، وفريق يعمل للآخرة. أما الفريق الأول فهو: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ... أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، وكانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فخصها بكل جهده وعمله، ونسي الآخرة، عجل الله فيها تحقيق أمله حسبما يشاء ويريد، من سعة الرزق وترف الحياة، فليس كل من طلب الدنيا ونعمها يحصل له مراده، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، فالعطاء الدنيوي مقيد بالإرادة والمشيئة الإلهية، والقيد يشمل أمرين: ما يشاؤه الله لا ما يحبه العبد، ولمن يشاء الله، لا لكل من أراد الدنيا، فهؤلاء الماديون لا يعطون كل ما يريدون، وإنما يعطون بعض أمانيهم، والكثير من الماديين لا يعطون شيئا أبدا، فيجمعون بين فقر الدنيا وفقر الآخرة، وبين الحرمان من الدنيا والدين.
ولكل من هؤلاء الماديين، سواء أعطوا مرادهم أم لا جهنم يصلونها أي يقاسون حرها بصفة دائمة، مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين على قلة الشكر وسوء العمل والتصرف، مطرودين من رحمة الله تعالى.
فهذا العقاب ذو أوصاف ثلاثة في الآية: الدوام والخلود، والإذلال والإهانة، والطرد من رحمة الله. وهذا تهديد للماديين الكفرة وزجر شديد، فإنهم يحصرون همهم في الدنيا، وربما لم ينلهم شيء منها.
روى أحمد عن عائشة مرفوعا: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له».

وأما الفريق الثاني وهم المؤمنون الأتقياء فهم الذين أخبر الله تعالى عنهم:
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها... أي ومن طلب الآخرة، وكانت هي همّه ومقصده، فعمل لها ما استطاع من القرب والطاعات، وهو مؤمن مصدق بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر، فأولئك أهل الكمال المشكورون على طاعاتهم، المثابون على أعمالهم من قبل الله تعالى.
فلا يثاب هؤلاء ولا ينالون هذا الجزاء الحسن إلا بشروط ثلاثة:
الأول- إرادة ثواب الآخرة وما فيها من النعيم والسرور، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات».
الثاني- أن يكون العمل من القرب والطاعات ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا من الأعمال الباطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، والكواكب والملائكة وبعض البشر من الأنبياء، فقوله: وَسَعى لَها سَعْيَها أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة.
الثالث- أن يكون العمل في دائرة الإيمان والتصديق بالثواب والجزاء، فلا ينفع العمل بغير الإيمان الصحيح. وهذه هي الشرائط الثلاثة في كون السعي مشكورا.
قال بعض السلف: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية.
هؤلاء المؤمنون الصلحاء الذين اختاروا غنى الآخرة لا يبالون بشيء بعدها، فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم، وإن حرموا منه صبروا، ورضوا لأن ما عند الله خير وأبقى.
ثم أبان الله تعالى أن الرزق في الدنيا مضمون مكفول لكلا الفريقين، فقال:

كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ... أي إنه تعالى يمد الفريقين:
مريدي الدنيا ومريدي الآخرة بالأموال والأرزاق والأولاد وغيرها من مظاهر العز والزينة في الدنيا، فإن عطاءه لا يمنع عن أحد، مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فاقتضى عدل الله ورحمته ألا يترك لأحد مجالا للعذر، وأبان أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع، لتوفير متطلبات الحياة ومقوماتها.
ثم أوضح الله تعالى أن عطاءه لكلا الفريقين متفاوت فقال:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. أي انظر بعين الاعتبار كيف جعلنا الفريقين متفاوتين في عطاء الدنيا، وكيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا، فمنحناه مؤمنا، وحجبناه عن مؤمن آخر، وأعطيناه كافرا، ومنعناه عن كافر آخر، وذلك لحكمة بالغة نحن أعلم بها، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف ٤٣/ ٣٢] وفي آية أخرى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [الأنعام ٦/ ١٦٥] وقال سبحانه أيضا:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٧].
وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ... أي والتفاوت في الآخرة أكبر وأعظم، والتفاضل في درجات منافع الآخرة أكبر من التفاضل في درجات منافع الدنيا، فالدرجات أكبر، والتفاضل أعظم لأن الآخرة ثواب وأعواض وتفضل وكلها متفاوتة، فأهل النار في دركات سفلى متفاوتة، وأهل الجنة في درجات عليا متفاضلة، فإن الجنّة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض،
جاء في الصحيحين: «إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين، كما ترون

الكوكب الغابر في أفق السماء» وقال بعضهم: أيها المباهي بالرفع منك في مجالس الدنيا، أما ترغب في المباهاة بالرفع في مجالس الآخرة، وهي أكبر وأفضل».
وهذه واقعة طريفة معبرة مناسبة للآية، رواها ابن عبد البر عن الحسن البصري قال: حضر جماعة من الناس فيهم الأشراف ومن دونهم من العامة باب عمر رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (أحد أشراف مكة) وأبو سفيان بن حرب، ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذّن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا- يعني إلى الإسلام- فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة؟
ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكبر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الناس في مجال العمل في الدنيا صنفان: صنف يريد الدنيا، وصنف يريد الآخرة، أما الصنف الأول: فلا يعطيه الله من الدنيا إلا ما يشاء، ولمن يشاء، ثم يؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، مدحورا مطرودا مبعدا من رحمة الله. قال القرطبي: وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم «١».

وأما الصنف الثاني وهو الذي يريد الدار الآخرة، ويعمل لها عملها من الطاعات، وكان مؤمنا لأن الطاعات لا تقبل إلا من مؤمن، فيكون عمله مقبولا غير مردود.
٢- اقتضت حكمة الله ورحمته أن يرزق المؤمنين والكافرين، فلا يكون عطاؤه محبوسا ممنوعا عن أحد، غير أن الناس في الدنيا متفاوتون في الرزق، بين مقلّ ومكثر، ولا يرتبط التفاوت في الرزق بالإيمان والكفر، فقد يكون مؤمن غنيا وآخر فقيرا، وقد يكون كافر موسرا مترفا وآخر معسرا معدما.
أما في الآخرة فدرجات تفاضل المؤمنين أكبر وأكثر، فالكافر وإن وسّع عليه في الدنيا مرة، وقتّر على المؤمن مرة، فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها.
٣- إن هذه الآية: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ مقيدة لإطلاق آية هود: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [١٥] وآية الشورى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [٢٠].
٤- في الآية نفسها مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ فوائد ثلاث:
الأولى- العقاب مضرة مقرونة بالإهانة والذم الدائمين.
الثانية- إن الرفاهية في الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها المصير إلى عذاب الله وإهانته، وهذا تنبيه للجهال الذين يغترون بالدنيا إذا أقبلت عليهم، ويظنون أن ذلك لأجل كرامتهم على الله تعالى.