
(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)
أمر اللَّه تعالى نبيه أن يحمده ويكبره، فإنه لَا يوجد من يستحق الحمد والتكبير غيره. قل يا رسول اللَّه: (الْحَمْدُ لِلَّهِ)، أي الحمد كله للَّه سبحانه وتعالى، فلا يستحق، ولا يختص بالحمد سواه على ما خلق وأنشأ وكون، (الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا)، وهذا يشير إلى أنه ليس مماثلا للحوادث في أي حال من أحوالهم، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وقد قال تعالى: (بَدِيعُ السَّمَوَات وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ...)، وقوله تعالى: (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا) يشير إلى أن جميع خلقه على سواء، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)

ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فليس هناك أبناء كما ادعى اليهود، وليس عيسى ابنه.
(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)، فهو المالك الخالق لكل شيء، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ)، أي لم يكن ولي يناصره ويحميه من الذل، (وكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)، أي تكبيرا يليق بذاته العلية.
نفى اللَّه تعالى كما ذكرنا عن ذاته العلية ثلاثة أمور، وأثبت بعد هذا النفي وجوب التكبير، أما الأمور الثلاثة، فهي اتخاذه ولدا كما ذكرنا، ونفاه؛ لأن الولد ينبئ عن الحاجة، واللَّه تعالى غني حميد، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، ونفَى سبحانه أن يكون له شريك في سلطانه فلا ينازعه أحد؛ لأنه الخالق، وهو المالك (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفونَ)، ونفى أن يكون له ولي من الذل، (الولي) النصير، ومن يكون في جواره لحمايته، وقال: (مِّنَ الذُّلِّ)، أي بسبب ذله، واحتياجه إلى النصير، وذكر لفظ الذل ليؤكد النفي فإن ذلك محال على اللَّه، ونسبته إليه سبحانه لَا يليق بذي الجلال والإكرام، وإن نفي ذلك كله ينتهي بوجوب تكبيره تكبيرا مؤكدا. فاللَّه أكبر كبيرا، والحمد للَّه كثيرا وسبحان اللَّه تعالى بكرة وأصيلا.
* * *

(سُورَةُ الْكَهْفِ)
تمهيد:
سميت هذه السورة بسورة الكهف، لأن أهل الكهف وقصتهم أخذت شطرا كبيرا، وعدد آياتها عشرة ومائة آية، وهي مكية، وجاء في المصحف أن الآية الثامنة والثلاثين مدنية وكذلك الآيات من ٨٣ إلى ١٠١، واللَّه أعلم وكلها قرآنه الحكيم.
ابتدأ سبحانه وتعالى السورة الكريمة بحمد اللَّه تعالى الذي أنزل على عبده الكتاب، كما اختتم سورة الإسراء بالتكبير، ونفى اتخاذ الولد، وبين أنه شيء نكر لا يقع من عقلاء، (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) ثم أشار سبحانه إلى زينة الأرض.
وبعد ذلك ذكر قصة أهل الكهف، وهي دليل على صبر أهل الحق، وعلى قدرة اللَّه تعالى على الإحياء بعد الموت، أو شبهه، وعلى عجائب اللَّه تعالى في خلقه، وقد استغرقت قصتهم وأحوالهم إلى قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨).
بينِ سبحانه وتعالى الحق، وما يكون من عقاب على الباطلِ: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩).
ثم بين سبحانه جزاء المؤمنين الذين عملوا الصالحات، ويذكر سبحانه وتعالى قصة تُصَوِّر غرور غير المؤمن وإيمان المؤمن وألا يغتر باللَّه غرورا، وأن نعيم الدنيا عرضة للزوال وينصح الغرور فيقول: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ

لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١)
ولكنه بعد هذه النصيحة يستمر في غيه وغروره حتى يزول ثمره، (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤).
وقد ضرب اللَّه تعالى مثل الحياة الدنيا بما يدل على فنائها وذهاب زخرفها.
ويذكر سبحانه أن المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا، وخير أملا، ويذكر لهم سبحانه حالهم يوم القيامة والميزان والحساب.
ثم يذكرهم سبحانه بأصل خلق الإنسان وعداوة إبليس لآدم وذريته، وفسقه عن أمر ربه، وقد اتخذ بنو آدم إبليس وذريته أولياء من دون اللَّه، (وَهُمْ لَكُمْ عَدُو بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا).
إن اللَّه خلق السماوات والأرض، وإن لم يشهدوا خلقها، ثم ذكرهم سبحانه بيوم القيامة وما يكون فيه، ورؤية المجرمين النار وظنهم أنهم مواقعوها، ولم يجدوا عنها مصرفا.
ولقد ذكرهم سبحانه بالقرآن وتصريفه سبحانه فيه، وأنذرهم بسنة الأولين أو أن يأتيهم العذاب قبلا، ويجادل الذين كفروا بالباطل.
وبين سبحانه وتعالى ظلم من ذكر بآيات ربه فأعرض عنها، ثم ذكر سبحانه ظلم القرى وهلاكها بسبب الظلم.
قصة موسى - عليه السلام - مع العبد الصالح:
ثم ذكر سبحانه وتعالى، (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠).
حتى وجدا عبدا من عباد اللَّه صالحا، (قَالَ لَهُ مُوسى

هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)، ثم كانت بينهما المحاورة، وسارا فانطلقا حتى إذا أتيا سفينة فركباها فخرقها، (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) سارا (حَتَّى إِذَا لَقيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ)، قال موسى: (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا) فانطلقا حض إذا وجدا أهل قرية فأراد أن يضيفوهما (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧)، وقد أجابه بعد ذلك عن السفينة بأن (وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)، وعن قتل الغلام بأن أبوِيه كانا صالحين (فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا)، (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا).
ذو القرنين:
بعد ذلك جاء ذكر ذي القرنين: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣)، ثم ذكر سبحانه أعماله الصالحة وكيف مكَّن اللَّه له في الأرض وهيأ له الأسباب، وبلوغه مغرب الشمس، وعدله مع من ظلم ومع من عدل، وعندما يلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم يجعل لهم من دونها سترا، ثم كان ما من يأجوج ومأجوج، وقد أقام بيضه وبينهم سدا، (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨).
وقد ذكر سبحانه جزاء جهنم للظالمين وجزاء المتقين، وقال في جزاء الكافرين: (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦) وبين أن جزاء المؤمنين جنة الفردوس خالدين فيها لَا يبغون عنها حولا، واختتم السورة بهاتين الآيتين: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠).
* * *

معاني السورة الكريمة
قال اللَّه تعالى:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (٢) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (٤) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨)* * * صفحة رقم 4484