٥- كان إنزال القرآن منجما مقسطا على حسب الوقائع والمناسبات في مدى ثلاث وعشرين سنة، ليتمكن الناس من قراءته على مهل وتدبر وإمعان، وليعملوا به تفصيلا، فإنهم لو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا.
٦- هدد الله تعالى مشركي قريش وأبدى إعراضه عنهم، لا على وجه التخيير قائلا لهم: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن العلماء السابقين من أهل الكتاب وهم مؤمنوا أهل الكتاب آمنوا به عن يقين، ولم يتمالكوا أنفسهم عند سماعه إلا السجود لله خاضعين خاشعين باكين من خشية الله، قائلين: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي منجزا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
٧- قوله يَبْكُونَ دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن البكاء لا يقطعها ولا يضرها. وقيد ذلك بعض الفقهاء بألا يكون مقرونا بصوت وكلام.
أما الأنين فلا يقطع الصلاة للمريض، ويكره للصحيح في رأي مالك.
وكذلك التنحنح والنفخ لا يقطع الصلاة عند مالك. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع.
دعاء الله بالأسماء الحسنى
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
الإعراب:
أَيًّا ما تَدْعُوا أَيًّا: شرطية، منصوب بتدعوا، والتنوين في أَيًّا عوض عن المضاف إليه، وما: زائدة للتأكيد، وتَدْعُوا: مجزوم بأي، وفاء فَلَهُ جواب الشرط، وقوله ادْعُوا يتعدى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا.
البلاغة:
تَجْهَرْ وتُخافِتْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموه بأي واحد من هذين الاسمين، أو نادوه بأن تقولوا: يا الله، يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا أي هذين تدعوا فهو حسن، والدعاء هنا: التسمية فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فلله الأسماء الحسنى، وهذان منها، وكونها أسماء حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. وقوله: فَلَهُ للمسمى لأن التسمية له، لا للاسم، وكان أصل الكلام: أيّا ما تدعو فهو حسن، فوضع موضعه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل على الله تعالى.
والأسماء الحسنى تسع وتسعون، كما
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءتك فيها، فيسمعك المشركون، فيسبوك ويسبوا القرآن ومن
أنزله وَلا تُخافِتْ بِها ولا تسرّ بقراءتك، لينتفع أصحابك وَابْتَغِ اقصد بَيْنَ ذلِكَ الجهر والمخافتة سَبِيلًا طريقا وسطا.
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ متولي أمره ينصره مِنَ الذُّلِّ من أجل الذل، أي لم يذل، فيحتاج إلى ناصر، أي لم يكن له ولي يواليه من أجل مذلّة به، ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظّمه تعظيما تاما منزها عن اتخاذ الولد والشريك والذل وكل مالا يليق به.
وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد، لكمال ذاته وتفرده في صفاته.
وفيه تنبيه على أن العبد، وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك.
روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ إلى آخر السورة».
سبب النزول:
نزول الآية: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ... :
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ، ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فنزل: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ... الآية.
وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يكتب في أول ما يوحى إليه:
باسمك اللهم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: قال أهل التفسير: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك لتقلّ ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
نزول الآية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها:
أخرج أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس في قوله تعالى:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مختف بمكة، وكانوا إذا سمعوا القرآن، سبّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا يسمعون وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت في قراءته، ويقول: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية، أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا.
نزول الآية (١١١) :
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس، لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله: وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً... الآية.
المناسبة:
بعد أن الله أثبت تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن العرب عجزوا عن معارضته، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاءهم بتوحيد الله ورفض آلهتهم، عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فرد الله تعالى عليهم بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ.. الآية.
ولما ذكر تعالى أنه واحد، وإن تعددت أسماؤه، أمر الله تعالى نبيه أن يحمده على ما أنعم به عليه من شرف الرسالة والاصطفاء، ووصف نفسه بأنه لم يتخذ ولدا، للرد على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الأصنام، وجعلوها شركاء لله، والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله، فنفى الولد أولا، ثم نفى الشريك في ملكه، ثم نفى الولي وهو الناصر، والشريك أعم من الولد، والولي الناصر أعم من نسبة الولد والشريك، فهو أعم من أن يكون ولدا، أو شريكا أو غير شريك.
التفسير والبيان:
هذا رد على المشركين الذين أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عز وجل، فقال: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين في مكة المنكرين صفة الرحمة لله تعالى، المانعين من تسميته بالرحمن: لا فرق في دعائكم لله باسم الله أو باسم الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى. قال في الكشاف: الله والرحمن المراد بهما الاسم، لا المسمى، وأو للتخيير، فمعنى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا، وإما هذا، والدعاء بمعنى التسمية، لا بمعنى النداء «١».
وقوله أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التقدير: أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم، فكل أسمائه حسنى، فيها تعظيمه وتقديسه، كما قال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحشر ٥٩/ ٢٤] فأي اسم تدعونه به فهو حسن.
ثم أرشد الله إلى كيفية القراءة والدعاء، فقال:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي ولا تجهر
بقراءة صلاتك، حتى لا يسمع المشركون فيسبوا القرآن، ويسبوا من أنزله، ومن جاء به، ولا تخافت بها عن أصحابك، فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك، وابتغ بين الجهر والمخافتة سبيلا وسطا، فهذه هي الطريقة المثلى في القراءة، وهي الحد الوسط بين الجهر بالصوت والإسرار والإخفات فيه، ففي الجهر حتى لا يتفرقوا عنه ويأبوا أن يسمعوا منه، أو يسبوا القرآن، وفي الإسرار ليسمع من أراد السماع فينتفع به.
ثم علّمنا تعالى كيفية الحمد، فقال:
وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ... أي وقل: لله الحمد والشكر على ما أنعم على عباده، وهو الموصوف بالصفات الثلاث التالية لتنزيه نفسه عن النقائص:
الأولى- إنه لم يتخذ ولدا: فهو غير محتاج إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث، وهو منزه عنها. وفي هذا رد على اليهود القائلين: عزيز ابن الله، والنصارى القائلين: المسيح ابن الله.
الثانية- ليس له شريك في الملك والسلطان: لأنه أيضا غير محتاج إليه، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء ٢١/ ٢٢]. ولم يعرف المستحق للعبادة والحمد والشكر.
الثالثة: لم يكن له ولي من الذل: أي ليس بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة، من ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بمشيئته «١».
ومجموع هذه الصفات في قوله سبحانه:
قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص ١١٢/ ١- ٤].
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا، فذلك التعظيم الذي يتناسب مع جلاله وعظمته وقدسيته، فهو الكبير المتعال في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل الوجود وفي صفاته فله صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقصان وفي أفعاله، فلا يحدث شيء في ملكه إلا بمقتضى حكمته ومشيئته وفي أحكامه، فله مطلق الأمر والنهي والعز والذل، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض لأحد على شيء من أحكامه وفي أسمائه فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية «١».
روى أحمد عن معاذ الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية».
وروى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى آخر الآية، سبع مرات».
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أن دعاء الله وتسميته يكون بكل اسم من أسمائه الحسنى، التي منها الله والرحمن، وليس ذلك تعددا في الآلهة كما فهم المشركون خطأ، وإنما التسمية بأسماء متعددة لمسمى واحد.
والدعاء أو القراءة في الصلاة يكون بطريقة متوسطة بين الجهر والإسرار، وإذا كان السبب الداعي لذلك وهو تفادي سماء المشركين وسبهم القرآن ومن أنزله ومن جاء به، أو نفرتهم عنه وإبائهم سماعه، فإننا نحتفظ بالتزام هذه الطريقة، تذكرا لحال التشريع وظروفه الأولى التي صاحبته.
وقد عبر الله تعالى بالصلاة في الآية هنا عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن
الصلاة في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء ١٧/ ٧٨] لأن كل واحد منهما مرتبط بالآخر لأن الصلاة تشتمل على قراءة وركوع وسجود فهي من جملة أجزائها، فعبّر بالجزء عن الجملة، وبالجملة عن الجزء على عادة العرب في المجاز، وهو كثير.
وقوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى والعرب في قولهم: عزير وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه، فهو تعالى لا والد له ولا صاحبة ولا ولد، وهو واحد لا شريك له في ملكه وعبادته، وليس له ناصر مدافع عنه يجيره من الذل، لم يحالف أحدا، ولا ابتغى نصر أحد.
وهو تعالى يستحق التعظيم التام والإجلال، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر، أي أنه أكبر من كل شيء،
وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل في الصلاة قال: الله أكبر.
وقال عمر بن الخطاب: «قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها».
وهذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ... هي خاتمة التوراة. قال عبد الله بن كعب:
افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة.
وفي خبر معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنها آية العز»
، كما بينا.
وقال عبد الحميد بن واصل: سمعت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية، كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم ١٩/ ٩٠].
وجاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم «أمر رجلا شكا إليه الدّين بأن يقرأ: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر السورة، ثم يقول: توكّلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات».
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكهفمكية، وهي مائة وعشر آيات.
تسميتها:
سميت سورة الكهف، لبيان قصة أصحاب الكهف العجيبة الغريبة فيها في الآيات [٩- ٢٦] مما هو دليل حاسم ملموس على قدرة الله الباهرة.
وهي إحدى سور خمس بدئت ب الْحَمْدُ لِلَّهِ: وهي الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر. وهو استهلال يوحي بعبودية الإنسان لله تعالى، وإقراره بنعمه وأفضاله، وتمجيد الله عز وجل، والاعتراف بعظمته وجلاله وكماله.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة وضع هذه السورة بعد سورة الإسراء من نواح: هي افتتاح الإسراء بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر ١٥/ ٩٨] وفي الحديث: «سبحان الله وبحمده». كما أن الإسراء اختتمت بالتحميد أيضا، فتشابهت الأطراف أيضا.
ولما أمر اليهود المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، أجاب تعالى في آخر سورة بني إسرائيل عن السؤال الأول، وقد أفرد فيها لعدم الجواب عن الروح، ثم أجاب تعالى في سورة الكهف عن السؤالين الآخرين، فناسب اتصالهما ببعضهما. صفحة رقم 196
ولما ذكر تعالى في الإسراء: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [٨٥] ناسب ذكر قصة موسى مع العبد الصالح الخضر، كالدليل على ما تقدم. وقد ورد في الحديث: أنه لما نزل: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قال اليهود: قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء، فنزل: قُلْ: لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ... [١٠٩].
ولما قال تعالى في الإسراء: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [١٠٤] أعقبه في سورة الكهف بالتفصيل والبيان بقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي، جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا إلى قوله: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [٩٨- ١٠٠] «١».
والخلاصة: أنه تعالى لما قال في آخر الإسراء: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وذكر المؤمنين به أهل العلم، وأنه يزيدهم خشوعا، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج، القيم على كل الكتب، المنذر من اتخذ ولدا، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.
ثم استطرد إلى حديث كفار قريش، والتفت من الخطاب في قوله:
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً إلى الغيبة في قوله: عَلى عَبْدِهِ لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه.
ما اشتملت عليه السورة:
استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه، وأنه جاء للتبشير والإنذار.
ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى.
وتحدثت السورة عن ثلاث قصص من روائع قصص القرآن وهي قصة أصحاب الكهف، وقصة موسى مع الخضر، وقصة ذي القرنين. أما قصة أصحاب الكهف [٩- ٢٦] فهي مثل عال، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني، واحتموا في غار في الجبل، فأنامهم الله ثلاث مائة وتسع سنين قمرية، ثم بعثهم ليقيم دليلا حسيا للناس على قدرته على البعث.
واتبع الله تعالى تلك القصة بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. [٢٨].
ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. [٢٩] وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين [٣٠- ٣١].
وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات [٦٠- ٧٨] فكانت مثلا للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء، بدليل قصة خرق السفينة، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار.
وأما قصة ذي القرنين في الآيات [٨٣- ٩٩] فهي عبرة للحكام والسلاطين، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم، ومشرق الأرض ومغربها، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.
وتخللت هذه القصص أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى، وإنما يرتبط بالإيمان، وأول هذه الأمثلة:
قصة أصحاب الجنتين [٣٢- ٤٤] للمقارنة بين الغني المغتر بماله، والفقير المعتز
بإيمانه، لبيان حال فقراء المؤمنين وحال أغنياء المشركين.
وثانيها: مثل الحياة الدنيا [٤٥- ٤٦] لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال، وحشر الناس في صعيد واحد، ومفاجأة الناس بضائف أعمالهم [٤٧- ٤٩].
وثالثها: قصة إبليس وإبائه السجود لآدم [٥٠- ٥٣] للموازنة بين التكبر والغرور، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان، وبين العبودية لله والتواضع، وما حقق من رضوان الله تعالى.
وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكرى، وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار، والتحذير من الإعراض عن آيات الله [٥٤- ٥٧].
وأن سياسة التشريع اقتران الرحمة بالعدل، فليست الرحمة فوق العدل ولا العدل فوق الرحمة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [٥٨- ٥٩].
وختمت السورة بموضوعات ثلاثة: أولها- إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة [١٠٠- ١٠٦] وثانيها- تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [١٠٧- ١٠٨] وثالثها- أن علم الله تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [١٠٩- ١١٠].
فضل هذه السورة:
ورد في فضائل سورة الكهف أحاديث صحاح ثابتة، منها:
ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال».
ومنها:
ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي، عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم