آيات من القرآن الكريم

وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ۖ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا
ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ

في قراءة ابن مسعود وأبيّ «فرقناه عليه لتقرأه» أي أنزلناه شيئا بعد الشيء لا جملة واحدة ويتناسق هذا المعنى مع قوله لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وهذا كان مما أراد الله من نزوله بأسباب تقع في الأرض من أقوال وأفعال في أزمان محدودة معينة، واختلف أهل العلم في كم القرآن من المدة؟ فقيل: في خمس وعشرين سنة، وقال ابن عباس: في ثلاث وعشرين سنة، وقال قتادة في عشرين سنة، وهذا بحسب الخلاف في سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الوحي بدأ وهو ابن أربعين، وتم بموته، وحكى الطبري عن الحسن البصري أنه قال: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، وهذا قول يختل لا يصح عن الحسن والله أعلم، وتأولت فرقة قوله عز وجل عَلى مُكْثٍ
أي على ترسل في التلاوة، وهو ترتيل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جريج وابن زيد، والتأويل الآخر أي عَلى مُكْثٍ وتطاول في المدة شيئا بعد شيء، وقوله وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم ذكره في ألفاظ الآية، وأجمع القراء على ضم الميم من مُكْثٍ، ويقال مكث ومكث بفتح الميم ومكث بكسرها، وقوله قُلْ آمِنُوا بِهِ الآية تحقير للكفار، وفي ضمنه ضرب من التوعد، والمعنى أنكم لستم بحجة، فسواء علينا آمنتم أم كفرتم، وإنما ضرّ ذلك على أنفسكم، وإنما الحجة أهل العلم من قبله وهم بالصفة المذكورة، واختلف الناس في المراد ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ، فقالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب وقالت فرقة: هم ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل ومن جرى مجراهما.
وقيل إن جماعة من أهل الكتاب جلسوا وهم على دينهم فتذاكروا أمر النبي ﷺ وما أنزل عليه، وقرئ عليهم منه شيء فخشعوا وسبحوا لله، وقالوا هذا وقت نبوة المذكور في التوراة، وهذه صفته، ووعد الله به واقع لا محالة وجنحوا إلى الإسلام هذا الجنوح، فنزلت الآية فيهم، وقالت فرقة: المراد ب الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ محمد صلى الله عليه وسلم، والضمير في قَبْلِهِ عائد على القرآن حسب الضمير في بِهِ، ويبين ذلك قوله إِذا يُتْلى، وقيل الضميران لمحمد. واستأنف ذكر القرآن في قوله إِذا يُتْلى، وقوله لِلْأَذْقانِ أي لناحيتها، وهذا كما تقول تساقط لليد والفم أي لناحيتهما، وعليهما قال ابن عباس: المعنى للوجوه، وقال الحسن: المعنى للحى، و «الأذقان» أسافل الوجوه حيث يجتمع اللحيان، وهي أقرب ما في رأس الإنسان إلى الأرض، لا سيما عند سجوده، وقال الشاعر: [الطويل]

فخروا لأذقان الوجوه تنوشهم سباع من الطير العوادي وتنتف
وإِنْ في قوله إِنْ كانَ هي عند سيبويه المخففة من الثقيلة، واللام بعدها لام التوكيد، وهي عند الفراء النافية، واللام بمعنى إلّا، ويتوجه في هذه الآية معنى آخر وهو أن يكون قوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا مخلصا للوعيد دون التحقير، والمعنى فسترون ما تجازون به، ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب، أي أن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر، بل الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة في الجملة، إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ ما نزل عليهم خشعوا وآمنوا.
قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٩ الى ١١١]
وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)

صفحة رقم 491

هذه مبالغة في صفتهم ومدح لهم وحض لكل من ترسم بالعلم وحصل منه شيئا أن يجري إلى هذه الرتبة، وحكى الطبري عن التميمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، لأن الله تعالى نعت العلماء، ثم تلا هذه الآية كلها، وقوله قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سبب نزول هذه الآية أن المشركين سمعوا رسول الله ﷺ يدعو «يا الله يا الرحمن»، فقالوا كان محمد أمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين، قاله ابن عباس، وقال مكحول: تهجد رسول الله ﷺ ليلة، فقال في دعائه «يا رحمن يا رحيم»، فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى الرحمن، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمن اليمامة، فنزلت مبينة أنها لمسمى واحد، فإن دعوتموه بالله فهو ذلك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذلك، وقرأ طلحة بن مصرف «أيّا ما تدعوا فله الأسماء»، أي وله سائر الأسماء الحسنى، أي التي تقتضي أفضل الأوصاف وهي بتوقيف، لا يصح وضع اسم الله بنظر إلا بتوقيف من القرآن أو الحديث، وقد روي أن لله تسعة وتسعين اسما الحديث، ونصها كلها الترمذي وغيره بسند، وتقدير الآية أي الأسماء تدعوا به فأنت مصيب له الأسماء الحسنى، ثم أمر رسول الله ﷺ أن «لا يجهر» بصلاته وأن «لا يخافت بها»، وهو الإسرار الذي لا يسمعه المتكلم به، هذه هي حقيقته، ولكنه في الآية عبارة عن خفض الصوت وإن لم ينته إلى ما ذكرناه، واختلف المتأولون في الصلاة ما هي؟ فقال ابن عباس وعائشة وجماعة: هي الدعاء، وقال ابن عباس أيضا: هي قراءة القرآن في الصلاة، فهذا على حذف مضاف، التقدير وَلا تَجْهَرْ بقراءة صلاتك، قال: والسبب أن رسول الله ﷺ جهر بالقرآن فسمعه المشركون فسبوا القرآن ومن أنزله، فأمر رسول الله ﷺ بالوسط، ليسمع أصحابه المصلون معه، ويذهب عنه أذى المشركين، قال ابن سيرين: كان الأعراب يجهرون بتشهدهم، فنزلت الآية في ذلك، وكان أبو بكر رضي الله عنه يسر قراءته، وكان عمر يجهر بها، فقيل لهما في ذلك، فقال أبو بكر: إنما أناجي ربي وهو يعلم حاجتي، وقال عمر أنا أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، فلما نزلت هذه الآية، قيل لأبي بكر: ارفع أنت قليلا، وقيل لعمر اخفض أنت قليلا، وقالت عائشة أيضا: «الصلاة» يراد بها في هذه الآية التشهد، وقال ابن عباس والحسن: المراد والمعنى: ولا تحسن صلاتك في الجهر ولا تسئها في السر، بل اتبع طريقا وسطا يكون دائما في كل حالة، وقال ابن زيد: معنى الآية النهي عما يفعله أهل الإنجيل والتوراة من رفع الصوت أحيانا فيرفع الناس معه، ويخفض أحيانا فيسكت من خلفه، وقال ابن عباس في الآية: إن معناها وَلا تَجْهَرْ بصلاة النهار وَلا تُخافِتْ بصلاة الليل، واتبع سبيلا من امتثال الأمر كما رسم لك، ذكره يحيى بن سلام والزهراوي، وقال عبد الله بن مسعود لم يخافت من أسمع أذنيه، وما روي من أنه قيل لأبي بكر ارفع أنت قليلا يرد هذا، ولكن الذي قال ابن مسعود هو أصل اللغة، ويستعمل الخفوت بعد ذلك في ارفع من ذلك، وقوله تعالى:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية، هذه الآية رادة على اليهود والنصارى والعرب في قولهم أفذاذا: عزير وعيسى

صفحة رقم 492

والملائكة ذرية لله سبحانه وتعالى عن أقوالهم، ورادة على العرب في قولهم لولا أولياء الله لذل وقيد لفظ الآية نفي الولاية لله عز وجل بطريق الذل وعلى جهة الانتصار، إذ ولايته موجودة بتفضله ورحمته لمن والى من صالحي عباده، قال مجاهد: المعنى لم يحالف أحدا ولا ابتغى نصر أحد، وقوله وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، ثم أكدها بالمصدر تحقيقا لها وإبلاغا في معناها، وروى مطرف عن عبد الله بن كعب قال: افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام وختمت بخاتمة هذه السورة.
نجز تفسير سورة سبحان والحمد لله رب العالمين

صفحة رقم 493
المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
عرض الكتاب
المؤلف
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن تمام بن عطية الأندلسي المحاربي
تحقيق
عبد السلام عبد الشافي محمد
الناشر
دار الكتب العلمية - بيروت
سنة النشر
1422 - 2001
الطبعة
الأولى
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية