آيات من القرآن الكريم

وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ
ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮ ﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝ ﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ

المحدّث عنهم بالكفر.. بقوله تعالى: «وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ».. أي الكافرون كفرا بالغا الغاية التي ليس وراءها شىء منه..
الآيات: (٨٤- ٨٩) [سورة النحل (١٦) : الآيات ٨٤ الى ٨٩]
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)
التفسير:
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».. هو وعيد للكافرين، وما يلقون يوم القيامة من ذلّة وهوان، وما ينزل بهم من بلاء وعذاب.. ففى هذا اليوم تجىء كل أمة، ومعها رسولها الذي بعث فيها، ليؤدّى فيهم الشهادة بين يدى الله، كما يقول سبحانه:
«فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ» (٦: الأعراف) وكما يقول تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ» (٧١: الإسراء).

صفحة رقم 338

- وقوله تعالى: «ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ».. أي لا يؤذن لهم بالكلام، إذلالا لهم، وكتبا.. كما يقول سبحانه: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ» أي ليقيم المذنب لنفسه عذرا عما فعل من قبيح.. والمراد بعدم الإذن لهم بالكلام هو فى تلك الحال التي يواجهون فيها رسلهم.. الذين يتكلمون.. أمامهم فيسمعون شهادة رسلهم فيهم دون أن ينطقوا بكلمة، إذ ليس لهم كلمة يقولونها هنا، بين يدى هذا الحق الذي تخرس معه الألسنة.
قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ، فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ».. أي حين يشهد الظالمون، العذاب، ويستيقنون أنهم صائرون إليه، يفزعون منه، ويشتد بهم البلاء، ويحيط بهم الكرب.. ولكن لا مفزع لهم..
فذلك هو العذاب لذى أعدّ لهم، ولن ينظروا ويمهلوا، بل يلقى بهم فيه قبل أن يردّوا أبصارهم عنه.
قوله تعالى: «وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ».
هذا مشهد من مشاهد القيامة. وفيه، يرى المشركون وقد دارت أعينهم تبحث عن طريق للنجاة، من هذا البلاء المحيط بهم، حتى إذا رأوا شركاءهم الذين عبدوهم من دون الله تعلقوا بهم قائلين: «رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ».. إنهم هم الذين أضلونا، ووقفوا فى طريقنا إليك..
«فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ» أي رموهم بهذه الكلمات القاتلة التي قطعت هذا الحبل الذي تعلقوا به، وظنوا أنهم ناجون.. «إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ» أي إننا لم ندعكم إلى عبادتنا، بل عقولكم الفاسدة، هى التي أضلتكم، وأرتكم منّا ما رأيتم، حتى جعلتمونا آلهة تعبد من دون الله..
قوله تعالى: «وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ..»

صفحة رقم 339

أي حين أفلت من المشركين هذا المتعلق الكاذب الذي تعلقوا به، وملأ اليأس قلوبهم، أسلموا أمرهم لله، وقد تخلّى عنهم ما كانوا يفترون على الله من أباطيل..
قوله تعالى: «الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» - وأولئك هم الذين كفروا بالله ثم لم يقفوا عند هذا الجرم الغليظ، بل حالوا بين الناس وبين الهدى والإيمان، فقعدوا لهم بكل سبيل، وتسلطوا عليهم بكل سلطان ليردّوهم عن مورد الحق.. فهؤلاء لهم عذاب فوق العذاب الذي استحقوه بكفرهم.. وفى هذا يقول الله تعالى.
«وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» (١٣: العنكبوت).
- وفى قوله تعالى: «بِما كانُوا يُفْسِدُونَ» بيان للسبب الذي من أجله ضوعف لهم العذاب، وهو أنهم مع كفرهم بالله، كانوا يفسدون فى الأرض، ويفتنون الناس فى دينهم.
قوله تعالى: «وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ»..
هو خطاب للنبىّ الكريم، وبيان لموقفه من قومه يوم القيامة، فهو الشهيد عليهم، كما أن كل نبى سيكون شهيدا على قومه..
- وفى قوله تعالى: «وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ» الإشارة هنا بهؤلاء، تتجه أولا إلى أولئك المشركين، الذين يتولّون كبر الوقوف فى وجه الدعوة الإسلامية، ويحادّون الله ورسوله.. ثم إلى من بلغته الدعوة.
- وقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ»..

صفحة رقم 340

هو بيان كاشف لاستحقاق النبىّ أن يقوم شاهدا على قومه، وذلك لأنه قد جاءهم بالكتاب الذي تلقاه من ربّه ليبيّن لهم ما اختلفوا فيه، وليكون حكما يحتكمون إليه، ومنار هدى يهتدون به إلى الحق والخير، ومورد رحمة يستظلون به، ويجدون الشفاء فى آياته وكلماته، وبشير خير بما أعدّ الله المسلمين من حياة طيبة فى الدنيا، وجنات لهم فيها نعيم مقيم فى الآخرة..
وخصّ المسلمون بالذكر، لأنهم هم أهل هذا الكتاب، وهم المسمّون بالمسلمين، كما يقول الله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» (٧٨: الحج) فهم مؤمنون ومسلمون.. أما غيرهم من أتباع الرسل فهم مؤمنون أصلا، مسلمون تبعا.
[القرآن الكريم.. والحقائق الكونية]
هذا، وقد أخذ بعض المفسرين من قوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ» أن القرآن الكريم يحوى فى آياته وكلماته علوم الأولين والآخرين، ، وأنه خزانة المعارف كلها، ما عرفت الإنسانية منها وما لم تعرف، وجاءوا على هذا بشاهد آخر من القرآن الكريم وهو قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» (٣٨: الأنعام).. وهذا ماحدا بكثير من علماء المسلمين إلى أن ينظروا فى كتاب الله على أنه كتاب علمىّ، يقرر حقائق علمية، تكشف عن أسرار هذا الوجود، وتحدّث عن القوانين المتحكمة فيه، وخرّجوا على هذا كثيرا من الآيات الكريمة، يقابلون بينها وبين ما كشف عنه العلم من أسرار الكون، وقوانينه.
إن داء التحكك بالقرآن الكريم، ومحاولة استخلاص علوم كونية، وأسرار دفينة- داء قديم، أصيب به كثير من الناس، فانحرفت نظرتهم إلى كتاب الله

صفحة رقم 341

ونظروا إليه بعيون حولاء، تذهب بآياته وكلماته مذاهب مختلطة إلى مقررات العلوم والفنون، فتخرّجها عليها وتلوى زمامها نحوها.. وقد انفتح هذا الباب على مصراعيه، فدخل منه كثير من أهل الأهواء والبدع، يتأولون كلمات الله وآياته تأويلات فاسدة يدّعونها على القرآن، ويقولون إنها من علوم الباطن التي احتواها كتاب الله واشتمل عليها، والتي لا يعلم علمها إلا الراسخون فى العلم! فكان ذلك مدّعى يدعيه كلّ ذى هوى يريد أن يدعم مذهبا فاسدا، أو ينتصر لفرقة مارقة.. وكان من ذلك ما رأيناه فى تلك الفرق المنحرفة من فرق الشيعة والخوارج وإخوان الصفاء، وغيرهم ممن تأولوا كلمات الله، وصرفوا منطوق ألفاظها على غير ما وضعت له فى اللسان العربي، الذي جاء عليه القرآن الكريم..
يقول الإمام الشاطبي: «إن كثيرا من الناس، تجاوزوا فى الدعوى على القرآن الحدّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين.. من علوم الطبيعيات، والتعاليم- أي العلوم الرياضية- والمنطق، وعلم الحروف- اليازرجة- وجميع ما نظر فيه الناظرون، من هذه الفنون وأشباهها..
ثم يقول: «وربما استدلّوا على دعواهم بقوله تعالى: «وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ»
.. وقوله: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ»..
ونحو ذلك.. وبفواتح السور- وهى ما لم يعهد عند العرب- وبما نقل عن الناس فيها، وربّما حكى ذلك عن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وغيره- أشياء..!
«فأما الآيات.. فالمراد بها عند المفسّرين، ما يتعلق بحال التكاليف والتعبّد، أو المراد بالكتاب فى قوله تعالى: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ» :
اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها- أي التفاسير- ما يقتضى تضمنه- أي القرآن- لجميع العلوم النقلية والعقلية.

صفحة رقم 342

«وأما فواتح السور، فقد تكلم الناس فيها بما يقتضى أن للعرب بها عهدا، كعدد الجمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسب ما ذكره أصحاب السير، أو هى المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك، وأما تفسيرها بما لا عهد به، فلا يكون» «١».
هذا ما يقرره الإمام الشاطبي فى جلاء لا يحتاج إلى تعقيب! والذي يمكن أن نقوله، هو أن القرآن الكريم هو مادة العلم، ومائدة العلماء، وأنه مادة لا تنفد أبدا بالأخذ منها، بل تزداد على الأخذ وتعظم، وأنه مائدة تسع الناس جميعا، وتعذّى عقولهم، ومشاعرهم، غداء طيّبا مشبعا، على اختلاف مداركهم، وتباين مشاعرهم..
وإن العلم هو الذي يجعل لنا نظرا كاشفا لبعض ما فى آيات القرآن الكريم من روائع وعجائب، وإن العلم هو الذي يعين على فهم المستور من أسرار الكتاب الكريم، وما أودع فيه من علم وحكمة..
إن العلم ليلتقى مع القرآن الكريم لقاء الماء يدفع به السيل فى صدر المحيط، فيذوب فيه، ويصبح بعض مائه، إذ ليس العلم كله- ما عرف الناس منه وما سيعرفون- إلا قطرة أو قطرات من محيط هذا البحر الزخار..
«قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً» (١٠٩: الكهف).
فإذا انكشف للناس فى الحياة ضوءة من أضواء العلم، فهى بعض ما فى القرآن الكريم من علم، إذ كان مجتمع آيات الله ومكنون علمه.
هذا، ومع قولنا بأن القرآن الكريم، قد حملت آياته المطهرة، أسرارا

(١) الموافقات للشاطبى: الجزء الأول: ص ٨١.

صفحة رقم 343

عجبا، تتكشف حالا بعد حال، كلما جاء إليها الناس بمزيد من العلم والمعرفة- فإننا لا نعرض القرآن الكريم على المخترعات العلمية، ولا الآيات الكونية، التي تنكشف للناس زمنا بعد زمن.. إذ ليس القرآن الكريم كتاب علم يشرح للناس قضايا العلوم.. من طب، وهندسة، وفلك، ورياضة وغيرها.. وإنما هو كتاب عقيدة وشريعة، يتجه أول ما يتجه إلى ضمير الإنسان، ليصحح صلته بخالقه، ثم يقيم لهذه الصلة من التشريع، ما يمسك بها سليمة قوية فى كيانه.. فإذا تمّ ذلك، صحح صلة الإنسان بالإنسانية، ووضع لذلك من التشريعات ما يقيم هذه الصلة بين الناس.. على أساس من الحق والعدل والإحسان..
تلك هى المهمة الأولى للقرآن الكريم، وقد انكشفت هذه الغاية من القرآن الكريم للمسلمين، فى الصدر الأول للإسلام، انكشافا تامّا، فأحذوا حظهم كاملا منها، على نحو لم يكن للخلف من بعدهم أن يبلغوا منه بعض ما بلغوا، على وجه لم تشهد الحياة مثيلا له فى سموّ الإنسان وعظمته، واستعلائه على كل ضعف بشرى..
مهمة القرآن الكريم الأولى إذن، هى أن يصنع هذا الإنسان المتكامل السوىّ فى مداركه، وعواطفه، ومشاعره.. أو بمعنى آخر هى أن يحفظ على الإنسان فطرته السليمة، وأن يغذيها بهذا الغذاء السماوىّ، الذي يقيمها على طريق الحق، والعدل، والإحسان. ثم يدع لهذا الإنسان وجوده هذا، يتعامل به مع الوجود كله، فينظر فيه بعينه، ويفكر فيه بعقله، ويقطف من ثماره ما تطول يده، ويبلغ عزمه، وصبره، وجهده..
هذا هو الإنسان الذي يتربّى فى حجر القرآن، ويغتذى من أنواره.. هو الإنسان الذي يتقدم ركب الإنسانية فى عصره الذي يعيش فيه.. فإذا تخلف عن مكان القيادة والصدارة، لم يكن هو الابن الذي ينتسب إلى القرآن، ويحسب على الإسلام.

صفحة رقم 344

إن القرآن الكريم، لم يكن كتابا قد جاء بمقررات علمية، تشرح حقائق العلوم، وتكشف أسرار الوجود، وتضع فى أيدى الناس مفاتح هذه الأسرار.
ولو كان هذا من تدبير القرآن، ومن غاياته، لما جاء على هذا الأسلوب ذى الرنين النفاذ والإشعاع اللماح من النظم، بل لجرى على ذلك الأسلوب العلمىّ، الذي تبرز فيه الحقائق العلمية مضغوطة فى قوالب من اللفظ، أشبه بالأرقام الحسابية، التي لا يختلف عليها أحد، ولا تكتم عن أحد شيئا وراءها..
ولو كان ذلك من شأن القرآن، لما كان معجزة الدهر الخالدة، ولأخذ الناس منه كل ما فيه، لأول عهدهم به، ثم لم يطلعوا إلى جديد غيره، شأن الكتب العلمية، التي تعيش فى الناس زمنا، ثم لا يكادون يلتفتون إليها بعد هذا.
ولو كان ذلك من شأن القرآن أيضا لكان ذلك داعية من دواعى التخدير العقلي للإنسان، والتحريض له على الاستنامة فى ظل هذا الغذاء الممدود له على مائدة مهيأة، لم يعمل لها، ولم يسع إليها.. الأمر الذي يقطع الصلة التي أراد القرآن أن يقيمها بين أتباعه وبين هذا الوجود أبد الدهر، ينظرون فيه نظرا مجددا، ويطالعون فى صحفه آيات الله وكلماته التي لا تنفد أبدا..
إنه ليس هذا من شأن القرآن أبدا، ولا من تدبيره بحال.. فإن دعوة القرآن، هى إيقاظ مشاعر الإنسان، وتنبيه ملكاته، وتوجيه نوازعه وسلوكه إلى العمل فى طريق مستنير، واضح، مستقيم..
ومن هنا كانت آيات القرآن الكريم متجهة إلى القلب أولا.. إلى المشاعر، والوجدانات، والأحاسيس المائجة فيه، المتقلبة بين صفو وكدر، وبين نور وظلام، فإذا أصابها قبس من نور الحق الذي نزل به القرآن، سكن مائجها، وصفا

صفحة رقم 345

كدرها، وانجلى ظلامها، وأصبح الإنسان وقد اطمأن قلبه، وعمرت بالحق جوانبه، وخلت من وساوس الضلال نوازعه..
إن القرآن الكريم، هو شريعة ووازع معا، هو قانون، وهو فى الوقت نفسه السلطان الذي يقيم أحكام هذا القانون.. أو هو بلغة العصر هو سلطات:
تشريعية، وقضائية، وتنفيذية.. جميعا..
وبالكلمة، وبالكلمة وحدها، جاء القرآن، ليقيم فى كيان المسلم قانونا يدركه بعقله، ويحتكم إليه بقلبه، ويمضيه بوجدانه، وينفّذه بجوارحه.. ولن يكون ذلك للكلمة إلا إذا كانت كلمة الله، كلمة القرآن، التي تملك بسلطانها الإنسان كله: عقله، وقلبه، وضميره..!
وينتهى من هذا إلى القول بأن القرآن الكريم، هو تبيان لكلّ شىء، كما وصفه تبارك وتعالى، وأنه كما يقول الحق جلّ وعلا فيه: «ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ».. ولكن لا بما تحمل آياته وكلماته من حقائق علمية، يجدها الناظرون فى منطوق تلك الآيات وهذه الكلمات، أو فى مفهومها- وإنما بما تنير هذه الآيات وتلك الكلمات من بصائر، وبما تكشف من عمى، وبما تمكّن للإنسان من قوى روحية وعقلية يستطيع بها أن يثبّت قدمه على طريق الحقّ، ويتهدّى بها إلى مواقع الخير..
فالإنسان الذي يعرف ربّه مهتديا بهدى القرآن، مستضيئا بنوره، هو إنسان قد عرف كلّ شىء يستطيع أن يبلغه العقل الإنسانى فى أعلى مستوياته، وأرفع منازله.. فإذا بلغ الإنسان هذه المنزلة، وارتفع إلى هذا المستوي كانت آيات الله وكلماته فى كتابه الكريم، هى الوجود كله، وكان الوجود بين يديه صفحات يقرأ فيها ما يفتح الله له من أبواب العلم والمعرفة..!
فهذا القصور العلمي الذي نحن فيه، وهذا التخلف الاجتماعى الذي يضع

صفحة رقم 346

المجتمع الإسلامى فى مؤخرة العالم الإنسانىّ- هو نتيجة لازمة لانفصالنا عن هذا الدستور السماوي، الذي أمرنا الله باتباعه، ووعدنا الحياة الطيبة الكريمة فى ظله..
ففى كتاب الله مفاتح العلم كلّها، بما يفتح من بصائر، وما يشرح من صدور، وما يعمر من قلوب، وما يشيع فى النفوس من سلام، ورضى وطمأنينة، وبهذا يقف الإنسان من هذا الكون وقفة خبير بصير، وينظر إليه نظرة متوسّم دارس، يربط المسببات بالأسباب، ويصل المعلولات بالعلل، فإذا هذا الوجود وحدة متماسكة متناعمة، يجتمع قريبها إلى بعيدها، ويلتقى علوها مع سفلها، بيد القدرة القدرة، وتدبير الحكمة العالية.. «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ» ! والنظر الذي يدعو إليه القرآن الكريم، ويوجهه إلى هذا الوجود، ليس نظرا حالما مستسلما لتلك المشاعر الغافية، التي تهدهدها نغمات الجمال والانسجام التي تنجلى فى صفحة الكون، فذلك نظر سلبى لا يغنى من الحقّ شيئا.. إنه أشبه بأحلام اليقظة، وخيالات الشعراء.. وإنما الذي يدعو إليه القرآن الكريم، هو النظر اليقظ الجادّ، الباحث عن الحقيقة، فى أعماق الأشياء، وإن صحبه فى ذلك ما يصحبه من مشاعر الجمال والجلال، فذلك هو الذي يشوقه إلى الحقيقة، ويغريه بالبحث عنها والتعامل معها، فيكون له من تلك المشاعر قوىّ تعينه على البحث والدرس، وتخفف عنه معاناة التأمل والتخيل.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ

صفحة رقم 347
التفسير القرآني للقرآن
عرض الكتاب
المؤلف
عبد الكريم يونس الخطيب
الناشر
دار الفكر العربي - القاهرة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية