فِي الْإِسْلَامِ يَهْدِمُهُ الِاسْتِغْفَارُ»
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ كَانُوا/ مُخْتَلِفِينَ فِي قَتْلِ الْبَنَاتِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ وَيَدْفِنُهَا فِيهَا إِلَى أَنْ تَمُوتَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْمِيهَا مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُغْرِقُهَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْبَحُهَا، وَهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ تَارَةً لِلْغَيْرَةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَتَارَةً خَوْفًا مِنَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَلُزُومِ النَّفَقَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَالَ: أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَلَغُوا في الِاسْتِنْكَافِ مِنَ الْبِنْتِ إِلَى أَعْظَمِ الْغَايَاتِ، فَأَوَّلُهَا: أنه يَسْوَدَّ وَجْهُهُ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَخْتَفِي عَنِ الْقَوْمِ مِنْ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنِ الْبِنْتِ، وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْوَلَدَ مَحْبُوبٌ بِحَسَبِ الطَّبِيعَةِ، ثُمَّ إِنَّهُ بِسَبَبِ شِدَّةِ نَفْرَتِهِ عَنْهَا يُقْدِمُ عَلَى قَتْلِهَا، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْرَةَ عَنِ الْبِنْتِ وَالِاسْتِنْكَافَ عَنْهَا قَدْ بَلَغَ مَبْلَغًا لَا يَزْدَادُ عَلَيْهِ. إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَالشَّيْءُ الَّذِي بَلَغَ الِاسْتِنْكَافُ مِنْهُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ الْعَظِيمِ كَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَنْسُبَهُ لِإِلَهِ الْعَالِمِ الْمُقَدِّسِ الْعَالِي عَنْ مُشَابَهَةِ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ؟ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النَّجْمِ: ٢١، ٢٢].
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الْقَاضِي: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْجَبْرِ، لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ مَا إِذَا أُضِيفَ إِلَى أَحَدِهِمْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالتَّبَاعُدِ عَنْهُ، فَحُكْمُهُمْ فِي ذَلِكَ مُشَابِهٌ لِحُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ، ثم قال: بَلْ أَعْظَمُ، لِأَنَّ إِضَافَةَ الْبَنَاتِ إِلَيْهِ إِضَافَةُ قُبْحٍ وَاحِدٍ، وَذَلِكَ أَسْهَلُ مِنْ إِضَافَةِ كُلِّ الْقَبَائِحِ وَالْفَوَاحِشِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَيُقَالُ للقاضي: إنه لما ثبت بالدليل استحالة الصاعية وَالْوَلَدِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْدَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِكْرِ هَذَا الوجه الْإِقْنَاعِيِّ، وَإِلَّا فَلَيْسَ كُلُّ مَا قَبُحَ مِنَّا فِي الْعُرْفِ قَبُحَ مِنَ الله تعالى ألا ترى أن رَجُلًا زَيَّنَ إِمَاءَهُ وَعَبِيدَهُ وَبَالَغَ فِي تَحْسِينِ صُوَرِهِنَّ ثُمَّ بَالَغَ فِي تَقْوِيَةِ الشَّهْوَةِ فِيهِمْ وَفِيهِنَّ، ثُمَّ جَمَعَ بَيْنَ الْكُلِّ وَأَزَالَ الْحَائِلَ وَالْمَانِعَ فَإِنَّ هَذَا بِالِاتِّفَاقِ حَسَنٌ مِنَ اللَّهِ تعالى وقبيح من كل الخلق، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبينة على العرف، إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله، فَلَا جَرَمَ حَسُنَتْ تَقْوِيَتُهَا بِهَذِهِ الْوُجُوهِ الْإِقْنَاعِيَّةِ. أَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَقَدْ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْيَقِينِيَّةِ الْقَاطِعَةِ أَنَّ خَالِقَهَا هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَكَيْفَ يُمْكِنُ إِلْحَاقُ أَحَدِ الْبَابَيْنِ بِالْآخَرِ لَوْلَا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ؟ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثم قال تَعَالَى: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَالْمَثَلُ السَّوْءُ عِبَارَةٌ عَنِ الصِّفَةِ السَّوْءِ وَهِيَ احْتِيَاجُهُمْ إِلَى الْوَلَدِ، وَكَرَاهَتُهُمُ الْإِنَاثَ خَوْفَ الْفَقْرِ وَالْعَارِ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أَيِ الصِّفَةُ الْعَالِيَةُ الْمُقَدَّسَةُ، وَهِيَ كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْوَلَدِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَاءَ: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى مَعَ قَوْلِهِ: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ.
قُلْنَا: الْمَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُهُ اللَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ وَالَّذِي يَذْكُرُهُ غَيْرُهُ فَهُوَ الْبَاطِلُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦١ الى ٦٤]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٦٤)
[في قوله وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَكَى عَنِ الْقَوْمِ عَظِيمَ كُفْرِهِمْ وَقَبِيحَ قَوْلِهِمْ، بَيَّنَ أَنَّهُ يُمْهِلُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَلَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، إِظْهَارًا لِلْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْكَرَمِ، وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: احْتَجَّ الطَّاعِنُونَ فِي عِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ فَأَضَافَ الظُّلْمَ إِلَى كُلِّ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الظُّلْمَ مِنَ الْمَعَاصِي، فَهَذَا يَقْتَضِي كَوْنَ كُلِّ إِنْسَانٍ آتِيًا بِالذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ النَّاسِ، فَوَجَبَ كَوْنُهُمْ آتِينَ بِالذَّنْبِ وَالْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ فَهُوَ آتٍ بِالظُّلْمِ وَالذَّنْبِ، حَتَّى يَلْزَمَ مِنْ إفناء كل ما كَانَ ظَالِمًا إِفْنَاءُ كُلِّ النَّاسِ. أَمَّا إِذَا قُلْنَا: الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُمْ ظُلْمٌ فَلَا يَجِبُ إِفْنَاؤُهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُ مِنْ إِفْنَاءِ كُلِّ الظَّالِمِينَ إِفْنَاءُ كُلِّ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ دَابَّةٌ، وَلَمَّا لَزِمَ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ الْبَشَرِ ظَالِمُونَ سَوَاءٌ كَانُوا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ.
وَالْجَوَابُ: ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ كُلَّ النَّاسِ لَيْسُوا ظَالِمِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فَاطِرٍ: ٣٢] أَيْ فَمِنَ الْعِبَادِ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُقْتَصِدُ وَالسَّابِقُ ظَالِمًا لَفَسَدَ ذَلِكَ التَّقْسِيمُ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُقْتَصِدِينَ وَالسَّابِقِينَ لَيْسُوا ظَالِمِينَ، فَثَبَتَ بِهَذَا الدَّلِيلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ الْخَلْقِ ظَالِمُونَ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: النَّاسُ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ إِمَّا كُلُّ الْعُصَاةِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْعِقَابِ أَوِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَمِنَ الَّذِينَ أَثْبَتُوا لِلَّهِ الْبَنَاتِ. وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَيَسْقُطُ الِاسْتِدْلَالُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ: مِنَ النَّاسِ مَنِ احْتَجَّ بهذه الآية على أن الأصل من الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَقَالَ: لَوْ كَانَ الضَّرَرُ مَشْرُوعًا لَكَانَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ جَزَاءً عَلَى جُرْمٍ صَادِرٍ مِنْهُمْ أَوْ لَا عَلَى هَذَا الوجه، وَالْقِسْمَانِ بَاطِلَانِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مَشْرُوعًا أَصْلًا.
أَمَّا بَيَانُ فساد القسم الأول، فلقوله تَعَالَى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ كَلِمَةَ «لَوْ» وُضِعَتْ لِانْتِفَاءِ الشَّيْءِ لِانْتِفَاءِ غَيْرِهِ. فَقَوْلُهُ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ تَعَالَى مَا أَخَذَهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ لَازِمَةَ أَخْذِ اللَّهِ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ هُوَ أَنْ لَا يَتْرُكَ عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةً، ثُمَّ إِنَّا نُشَاهِدُ أَنَّهُ تَعَالَى تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا دَوَابَّ كَثِيرِينَ، فَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُؤَاخِذُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَضَارُّ مَشْرُوعَةً عَلَى وَجْهٍ تَقَعُ أَجِزْيَةً عَنِ الْجَرَائِمِ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا ابْتِدَاءً لَا عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ أَجِزْيَةً عَنْ جُرْمٍ سَابِقٍ، فَهَذَا بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ تَحْرِيمُ الْمَضَارِّ مُطْلَقًا، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا أَيْضًا بِآيَاتٍ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها [الْأَعْرَافِ: ٥٦] وَكَقَوْلِهِ: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ
[الْحَجِّ: ٧٨] وَكَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥]
وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»وَكَقَوْلِهِ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَرَّ مُسْلِمًا»
فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَنَقُولُ: إِذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الضَّرَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ لِأَنَّ وُجُودَهُ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يَتَنَاوَلُ/ جَمِيعَ الْوَقَائِعِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نَقُولُ الْقِيَاسُ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ:
لِأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يُغْنِي عَنْهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ تَكُونُ أَفْعَالًا لِلْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ظُلْمَ الْعِبَادِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُمْ بِهَا ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الظُّلْمِ كَانَ أَوْلَى، قَالُوا: وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: بِظُلْمِهِمْ الْبَاءُ فِيهِ تَدُلُّ على العلية كما في قوله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
[الْأَنْفَالِ: ١٣].
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقْدَامَ النَّاسِ عَلَى الظُّلْمِ يُوجِبُ إِهْلَاكَ جَمِيعِ الدَّوَابِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا ذَنْبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِهْلَاكُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِ النَّاسِ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ.
وَأَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ يُؤَاخِذُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَسَبُوا مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ لَعَجَّلَ هَلَاكَهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ نَسْلٌ، ثُمَّ مِنَ المعلوم أنه لا أحدا إِلَّا وَفِي أَحَدِ آبَائِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ وَإِذَا هَلَكُوا فَقَدْ بَطَلَ نَسْلُهُمْ، فَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِذَا بَطَلُوا وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الدَّوَابِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا وَجْهٌ لَطِيفٌ حَسَنٌ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ الْهَلَاكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى الظَّلَمَةِ وَرَدَ أَيْضًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، فَكَانَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ فِي حَقِّ الظَّلَمَةِ عَذَابًا، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمُ امْتِحَانًا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ آخَذَهُمْ لَانْقَطَعَ الْقَطْرُ وفي انقطاعه النَّبْتِ فَكَانَ لَا تَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّ الْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا لَتَمُوتَ بِظُلْمِ الظَّالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَادَ الْجَعْلُ يَهْلِكُ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْجَوَابِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَفْظَةَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ أَيْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ كَافِرٍ، صفحة رقم 228
فَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الْكَافِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: ١٧٩] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الْخَامِسَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْها عائدة إلى الْأَرْضِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهَا ذِكْرٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الدَّابَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ إِنَّمَا تَدِبُّ عَلَيْهَا. وَكَثِيرًا مَا يُكَنَّى عَنِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا عَلَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ وَمَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ، يَعْنُونَ عَلَى الْأَرْضِ.
ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِيَتَوَالَدُوا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَجَلِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ أَجَلَ الْقِيَامَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُنْتَهَى الْعُمُرِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مُعْظَمَ الْعَذَابِ يُوَافِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أن المشركين يؤاخذون بِالْعُقُوبَةِ إِذَا انْقَضَتْ أَعْمَارُهُمْ وَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا.
النوع الثَّالِثُ: مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا الْكُفَّارُ وَحَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ أَيِ الْبَنَاتِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا لأنفسهم، ومعنى قوله: يَجْعَلُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ جَعَلْتُ زَيْدًا عَلَى النَّاسِ أَيْ حَكَمْتُ بِهَذَا الحكم وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْجَعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَةِ: ١٠٣].
ثم قال تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ «أَنْ» نَصْبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. وفي تفسير الْحُسْنى هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَنُونَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ؟
قُلْنَا: كُلُّهُمْ مَا كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي الْعَرَبِ جَمْعٌ يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْبُطُونَ الْبَعِيرَ النَّفِيسَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ وَيَتْرُكُونَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَيِّتَ إِذَا حُشِرَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مَعَهُ مَرْكُوبُهُ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَنَا الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ بِسَبَبِ هَذَا/ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحُسْنى عَلَى هَذَا الوجه بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ لَهُمُ النَّارَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفُوا جَرَمَ فِعْلُهُمْ أَيْ كَسْبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ لَهُمُ النَّارُ، فَعَلَى هَذَا لفظ «أَنَّ» فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْكَسْبِ عَلَيْهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ (أَنَّ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: وَجَبَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَكَيْفَ كَانَ الْإِعْرَابُ فَالْمَعْنَى هُوَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمُ النَّارُ وَيَجِبُ وَيَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مُفْرَطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ. أَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُفْرِطِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: أَفْرَطُوا فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَأَنَّهُ مِنْ أَفْرَطَ، أَيْ صَارَ ذَا فَرَطٍ
مِثْلَ أَجْرَبَ، أَيْ صَارَ ذَا جَرَبٍ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ ذَوُو فَرَطٍ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهُمْ قَدْ أَرْسَلُوا مَنْ يُهَيِّئُ لَهُمْ مَوَاضِعَ فِيهَا.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
القول الأول: المعنى: أنهم متروكون فِي النَّارِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ مَا أَفْرَطْتُ مِنَ الْقَوْمِ أَحَدًا، أَيْ مَا تَرَكْتُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ أَفْرَطْتُ مِنْهُمْ نَاسًا، أَيْ خَلَّفْتُهُمْ وَأُنْسِيتُهُمْ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: مُفْرَطُونَ أَيْ مُعَجَّلُونَ. قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَهُوَ الِاخْتِيَارُ وَوَجْهُهُ مَا قَالَ أَبُو زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: فَرَطَ الرَّجُلُ أَصْحَابَهُ يَفْرُطُهُمْ فَرَطًا وَفُرُوطًا إِذَا تَقَدَّمَهُمْ إِلَى الْمَاءِ لِيُصْلِحَ الدِّلَاءَ وَالْأَرْسَانَ، وَأَفْرَطَ الْقَوْمُ الْفَارِطَ، وَفَرَّطُوهُ إِذَا قَدَّمُوهُ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُفْرَطُونَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُمْ قُدِّمُوا إِلَى النَّارِ فَهُمْ فِيهَا فَرَطٌ لِلَّذِينِ يَدْخُلُونَ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصُّنْعِ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ صَدَرَ مِنْ سَائِرِ الْأُمَمِ السَّابِقِينَ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، فَقَالَ: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا كَانَ يَنَالُهُ مِنَ الْغَمِّ بِسَبَبِ جَهَالَاتِ الْقَوْمِ. قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ إِذَا كَانَ خَالِقُ أَعْمَالِهِمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّزْيِينِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ التَّزْيِينَ لَمَّا كَانَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَجُزْ ذَمُّ الشَّيْطَانِ بِسَبَبِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّزْيِينَ هُوَ الَّذِي يَدْعُو الْإِنْسَانَ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِذَا كَانَ حُصُولُ الْفِعْلِ فِيهِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ ضَرُورِيًّا فَلَمْ يَكُنِ التَّزْيِينُ دَاعِيًا. وَالرَّابِعُ: أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمْ، الْخَالِقُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، أَجْدَرُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا لَهُمْ مِنَ الدَّاعِي إِلَيْهِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ التَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْمُزَيِّنُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَكَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى الشَّيْطَانِ كَذِبًا.
وَجَوَابُهُ: إِنْ كَانَ مُزَيِّنُ الْقَبَائِحِ فِي أَعْيُنِ الْكُفَّارِ هُوَ الشَّيْطَانُ، فَمُزَيِّنُ تِلْكَ الْوَسَاوِسِ فِي عَيْنِ/ الشَّيْطَانِ إِنْ كَانَ شَيْطَانًا آخَرَ لَزِمَ التَّسَلْسُلُ. وَإِنْ كَانَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمَطْلُوبُ.
ثم قال تَعَالَى: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَفِيهِ احْتِمَالَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ كُفَّارُ مَكَّةَ وَبِقَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أَيِ الشَّيْطَانُ وَيَتَوَلَّى إِغْوَاءَهُمْ وَصَرْفَهُمْ عَنْكَ، كَمَا فَعَلَ بِكُفَّارِ الْأُمَمِ قَبْلَكَ فَيَكُونُ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ رَجَعَ عَنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ إِلَى الْأَخْبَارِ عَنْ كُفَّارِ مَكَّةَ. الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِالْيَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ فَهُوَ وَلِيُّ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُزَيِّنُ لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْلَقَ اسْمَ الْيَوْمِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِشُهْرَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ هُوَ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ وَلَا نَاصِرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ وَقَدْ نَزَلَ بِالشَّيْطَانِ كَنُزُولِهِ بِهِمْ، وَرَأَوْا أَنَّهُ لَا مُخَلِّصَ لَهُ مِنْهُ، كَمَا لَا مُخَلِّصَ لَهُمْ مِنْهُ، جَازَ أَنْ يُوَبَّخُوا بِأَنْ يُقَالَ لَهُمْ: هَذَا وَلِيُّكُمُ الْيَوْمَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أن مع هذا الوعيد الشديد قد أَقَامَ الْحُجَّةَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ فَقَالَ: وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
المسألة الْأُولَى: الْمَعْنَى: أَنَّا مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمْ بِوَاسِطَةِ بَيَانَاتِ هَذَا الْقُرْآنِ الْأَشْيَاءَ الَّتِي اخْتَلَفُوا فِيهَا، وَالْمُخْتَلِفُونَ هُمْ أَهْلُ الْمِلَلِ وَالْأَهْوَاءِ، وَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، هُوَ الدِّينُ مِثْلَ التَّوْحِيدِ وَالشِّرْكِ وَالْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَإِثْبَاتِ الْمَعَادِ وَنَفْيِهِ، وَمِثْلَ الْأَحْكَامِ، مِثْلَ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ تَحِلُّ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا وَحَلَّلُوا أَشْيَاءَ تَحْرُمُ كَالْمَيْتَةِ.