
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [٦ ١٣٦]، وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا إِذَا حَرَثُوا حَرْثًا، أَوْ كَانَتْ لَهُمْ ثَمَرَةٌ جَعَلُوا لِلَّهِ مِنْهَا جُزْءًا، وَلِلْوَثَنِ جُزْءًا ; فَمَا جَعَلُوا مِنْ نَصِيبِ الْأَوْثَانِ حَفِظُوهُ، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِهِ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ رَدُّوهُ إِلَى نَصِيبِ الْأَصْنَامِ، وَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِمَّا جَعَلُوهُ لِلَّهِ فِي نَصِيبِ الْأَصْنَامِ تَرَكُوهُ فِيهِ، وَقَالُوا: اللَّهُ غَنِيٌّ وَالصَّنَمُ فَقِيرٌ. وَقَدْ أَقْسَمَ - جَلَّ وَعَلَا -: عَلَى أَنَّهُ يَسْأَلُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ هَذَا الِافْتِرَاءِ وَالْكَذِبِ، وَهُوَ زَعْمُهُمْ أَنْ نَصِيبًا مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ لِلْأَوْثَانِ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ فِي قَوْلِهِ: تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [١٦ ٥٦]، وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ وَتَقْرِيعٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ، أَيْ: يَعْتَقِدُونَ. ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِلَّهِ بَنَاتٍ إِنَاثًا، وَذَلِكَ أَنَّ خُزَاعَةَ وَكِنَانَةَ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا الْآيَةَ [٤٣ ١٩]، فَزَعَمُوا لِلَّهِ الْأَوْلَادَ، وَمَعَ ذَلِكَ زَعَمُوا لَهُ أَخَسَّ الْوَلَدَيْنِ وَهُوَ الْأُنْثَى، فَالْإِنَاثُ الَّتِي جَعَلُوهَا لِلَّهِ يَكْرَهُونَهَا لِأَنْفُسِهِمْ وَيَأْنَفُونَ مِنْهَا ; كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [١٦ ٥٨]، أَيْ ; لِأَنَّ شِدَّةَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ تُسَوِّدُ لَوْنَ الْوَجْهِ: وَهُوَ كَظِيمٌ [١٦ ٥٨]، أَيْ: مُمْتَلِئٌ حُزْنًا وَهُوَ سَاكِتٌ. وَقِيلَ: مُمْتَلِئٌ غَيْظًا عَلَى امْرَأَتِهِ الَّتِي وَلَدَتْ لَهُ الْأُنْثَى: يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ [١٦ ٥٩]، أَيْ: يَخْتَفِي مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَجْلِ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ لِئَلَّا يَرَوْا مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، أَوْ لِئَلَّا يَشْمَتُوا بِهِ وَيُعَيِّرُوهُ. وَيُحَدِّثُ نَفْسَهُ وَيَنْظُرُ: أَيُمْسِكُهُ، أَيْ: مَا بُشِّرَ بِهِ وَهُوَ الْأُنْثَى، عَلَى هُونٍ [١٦ ٥٩]، أَيْ: هَوَانٍ وَذُلٍّ. أَمْ يَدُسُّهُ [١٦ ٥٩]، فِي التُّرَابِ: أَيْ: يَدْفِنُ الْمَذْكُورَ الَّذِي هُوَ الْأُنْثَى حَيًّا فِي التُّرَابِ، يَعْنِي: مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بِالْبَنَاتِ مِنَ الْوَأْدِ وَهُوَ دَفْنُ الْبِنْتِ حَيَّةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [٨١ ٨ - ٩].
وَأَوْضَحَ - جَلَّ وَعَلَا - هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمَذْكُورَةَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، فَبَيَّنَ أَنَّ

جَعْلَهُمُ الْإِنَاثَ لِلَّهِ، أَوِ الذُّكُورَ لِأَنْفُسِهِمْ قِسْمَةٌ غَيْرُ عَادِلَةٍ، وَأَنَّهَا مَنْ أَعْظَمِ الْبَاطِلِ.
وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مُتَّخِذًا وَلَدًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَنْ ذَلِكَ! ; لَاصْطَفَى أَحْسَنَ النَّصِيبَيْنِ، وَوَبَّخَهُمْ عَلَى أَنْ جَعَلُوا لَهُ أَخَسَّ الْوَلَدَيْنِ، وَبَيَّنَ كَذِبَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَشِدَّةَ عِظَمِ مَا نَسَبُوهُ إِلَيْهِ. كُلُّ هَذَا ذَكَرَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ ; كَقَوْلِهِ: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [٥٣ ٢١]، وَقَوْلِهِ: أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ أَاصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ [٣٧ ١٥١ - ١٥٤]، وَقَوْلِهِ: أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]، وَقَوْلِهِ: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ [٤٣ ١٦]، وَقَوْلِهِ: لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [٣٩ ٤]، وَقَوْلِهِ: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [٥٢ ٣٩]، وَقَالَ - جَلَّ وَعَلَا -: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ [١٦ ٦٢]، وَقَالَ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [٤٣ ١٨]، وَقَالَ: وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ [٤٣ ١٧].
وَبَيَّنَ شِدَّةَ عِظَمِ هَذَا الِافْتِرَاءِ، بِقَوْلِهِ: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [١٩ ٨٨ - ٩٣]، وَقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا [١٧ ٤٠]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [١٦ ٥٧]، مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ. وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ «مَا» [١٦ ٥٩] فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى «الْبَنَاتِ» [١٦ ٥٧]، أَيْ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ، وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ. أَوْرَدَ إِعْرَابَهُ بِالنَّصْبِ الزَّجَّاجُ، وَقَالَ: الْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ فِي مِثْلِ هَذَا وَيَجْعَلُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ; قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ «فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» : قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي «مَا» فِي «مَا يَشْتَهُونَ» الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى «الْبَنَاتِ»، أَيْ: وَجَعَلُوا لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشْتَهُونَ مِنَ الذُّكُورِ. انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ مِنَ النَّصْبِ تَبِعَ فِيهِ الْفَرَّاءَ وَالْحَوْفَيَّ وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ وَقَدْ حَكَاهُ: وَفِيهِ نَظَرٌ. وَذَهَلَ هَؤُلَاءِ عَنْ قَاعِدَةٍ فِي النَّحْوِ