
سورة النّحل
(فصل في نزولها:) روى مجاهد، وعطيّة، وابن أبي طلحة عن ابن عباس: أنها مكّيّة، وكذلك روي عن الحسن، وعكرمة، وعطاء: أنها مكّيّة كلّها. وقال ابن عباس في رواية: إنه نزل منها بعد قتل حمزة: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ «١». وقال في رواية: هي مكية إلا ثلاث آيات نزلن بالمدينة، وهي قوله: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا إلى قوله: يَعْمَلُونَ «٢». وقال الشّعبيّ: كلّها مكيّة إلّا قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ... إلى آخر الآيات. وقال قتادة: هي مكّية إلّا خمس آيات: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا... الآيتين، ومن قوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ... إلى آخرها. وقال ابن السّائب: هي مكيّة إلّا خمس آيات: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا «٣» الآية، وقوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا «٤» الآية، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها. وقال مقاتل:
مكيّة إلّا سبع آيات، قوله: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا الآية، وقوله: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ «٥» الآية، وقوله: وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ الآية، وقوله: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً «٦» الآية، وقوله: وَإِنْ عاقَبْتُمْ إلى آخرها. قال جابر بن زيد: أنزل من أول النّحل أربعون آية بمكّة وبقيّتها بالمدينة. وروى حمّاد عن عليّ بن زيد قال: كان يقال لسورة النّحل: سورة النّعم، يريد لكثرة تعداد النّعم فيها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٣]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣)قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قرأ حمزة والكسائيّ بالإمالة.
(٢) سورة النحل: ٩٥- ٩٧.
(٣) سورة النحل: ٤١.
(٤) سورة النحل: ١١٠.
(٥) سورة النحل: ١٠٦.
(٦) سورة النحل: ١١٢.

(٨٥٥) سبب نزولها: أنه لما نزل قوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «١»، فقال الكفار بعضهم لبعض:
إن هذا يزعم أنَّ القيامة قد اقتربت، فأمْسِكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتى ننظر، فلما رأوا أنَّه لا ينزل شيء قالوا: ما نرى شيئاً، فأنزل الله تعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «٢» فأشفقوا، وانتظروا قرب الساعة، فلما امتدَّت الأيام قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فأنزل الله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ، فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورفع الناسُ رؤوسهم، فنزل: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فاطمأنوا، قاله ابن عباس.
وفي قوله: أَتى ثلاثة أقوال: أحدها: أتى بمعنى: يأتي، كما يقال: أتاك الخير فأبشر، أي:
سيأتيك، قاله ابن قتيبة، وشاهده: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «٣»، وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى «٤» ونحو ذلك.
والثاني: أتى بمعنى: قَرُب، قال الزجاج: أعلم الله تعالى أن ذلك في قربه بمنزلة ما قد أتى. والثالث:
أن «أتى» للماضي، والمعنى: أتى بعض عذاب الله، وهو: الجدب الذي نزل بهم، والجوع. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فينزل بكم مستقبلاً كما نزل ماضياً، قاله ابن الأنباري.
وفي المراد ب «أمر الله» خمسة أقوال: أحدها: أنها الساعة، وقد يخرج على قول ابن عباس الذي قدمناه، وبه قال ابن قتيبة. والثاني: خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه الضحاك عن ابن عباس، يعني: أن خروجه من أمارات الساعة. وقال ابن الأنباري: أتى أمر الله من أشراط الساعة، فلا تستعجلوا قيام الساعة. والثالث: أنه الأحكام والفرائض، قاله الضحاك «٥». والرابع: عذاب الله، ذكره ابن الأنباري.
والخامس: وعيد المشركين، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي: لا تطلبوه قبل حينه، سُبْحانَهُ أي: تنزيه له وبراءة من السوء عما يشركون به من الأصنام.
قوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «يُنْزِل» بإسكان النون وتخفيف الزاي.
وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: يُنَزِّلُ بالتشديد، وروى الكسائي عن أبي بكر عن عاصم: «تُنزَّل» بالتاء مضمومة، وفتح الزاي مشددة. «الملائكة» رفع. قال ابن عباس: يريد
__________
(١) سورة القمر: ١.
(٢) سورة الأنبياء: ١.
(٣) سورة الأعراف: ٤٤.
(٤) سورة المائدة: ١١٦.
(٥) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٦٠: وقد ذهب الضحاك في تفسير هذه الآية إلى قول عجيب في قوله أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي فرائضه وحدوده وقد ردّه ابن جرير فقال: لا نعلم أحدا استعجل بالفرائض والشرائع قبل وجودها بخلاف العذاب فإنهم استعجلوه قبل كونه استبعادا وتكذيبا.
- وقال الطبري رحمه الله ٧/ ٥٥٧: وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: هو تهديد من الله أهل الكفر به وبرسوله وإعلام منه لهم قرب العذاب منهم والهلاك وذلك أنه عقّب ذلك بقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فدل بذلك على تقريعه للمشركين، ووعيده لهم.