آيات من القرآن الكريم

يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ
ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤ

العلماء عن الإفتاء بالتحريم أو بالتحليل دون دليل، ومقارنة ذلك بما حرمه تعالى على اليهود بسبب ظلمهم.
ثم ختمت السورة بمدح إبراهيم بسبب ثباته على التوحيد الخالص، وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع ملته، ثم أمره بالدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وقصره العقاب على المثل دون تجاوز ذلك، والأمر بالصبر على المصائب والأحزان، والاعتماد على عون الله للمتقين المحسنين.
إثبات البعث والوحي
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢)
الإعراب:
أَتى بمعنى يأتي، أقام الماضي مقام المستقبل، لتحقيق إثبات الأمر وصدقه. وقد يقام المستقبل مقام الماضي، مثل قول الشاعر:
وإذا مررت بقبره فانحر له كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح
أي فلقد كان. فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ الضمير إما أن يعود على الله وإما أن يعود على العذاب، وكلاهما متلازم.
أَنْ أَنْذِرُوا إما بدل من قوله بِالرُّوحِ وإما منصوب بتقدير حذف حرف الجر، أي بأن أنذروا، فحذف الباء، فاتصل الفعل به.

صفحة رقم 82

البلاغة:
فَاتَّقُونِ فيه التفات عن الغيبة إلى خطاب المستعجلين.
المفردات اللغوية:
أَتى أَمْرُ اللَّهِ قرب ودنا، أي أن الأمر الموعود به بمنزلة الأتي المتحقق من حيث إنه واجب الوقوع، فلا تستعجلوا وقوعه فإنه لا خير لكم فيه ولا خلاص لكم عنه وإنه واقع لا محالة. ويقال في العادة لما يجب وقوعه: قد أتى، وقد وقع. وأَمْرُ اللَّهِ تعذيبه الكافرين وعقابه لمن أقام على الشرك وتكذيب رسوله سُبْحانَهُ تنزيها له عن الشريك. الْمَلائِكَةَ أي جبريل بِالرُّوحِ الوحي أو القرآن، فإنه يحيي القلوب الميتة بالجهل، أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد مِنْ أَمْرِهِ بأمره وإرادته أَنْ مفسرة أَنْذِرُوا خوّفوا بالعذاب فَاتَّقُونِ خافوا عقابي، لمخالفة أمري وعبادة غيري.
سبب النزول:
كان المشركون يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قيام الساعة، أو إهلاك الله تعالى إياهم، كما فعل يوم بدر استهزاء وتكذيبا، ويقولون: إن صح ما يقوله فالأصنام نشفع لنا وتخلصنا منه فنزلت. أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلت: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوايد الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن أبي بكر بن أبي حفص قال لما نزلت: أَتى أَمْرُ اللَّهِ قاموا، فنزلت:
فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ.
فموضوع الآية الأولى إعلان أن الأمر الموعود به وهو قيام الساعة متحقق حادث لا محالة، وأنه تعالى منزه عن الشريك والولد. وموضوع الآية الثانية الإخبار بأن نزول الوحي بواسطة الملائكة، والتنبيه على التوحيد الذي هو

صفحة رقم 83

منتهى كمال القوة العلمية، والأمر بالتقوى الذي هو أقصى كمال القوة العملية، وأن النبوة عطائية. والمراد من قوله: أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا معرفة الحق لذاته، وأما المراد من قوله: فَاتَّقُونِ فهو معرفة الخير لأجل العمل به.
التفسير والبيان:
كان الكفار يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة أو نزول العذاب بهم استهزاء وتكذيبا بالوعد، فقيل لهم: أَتى أَمْرُ اللَّهِ.
فلما أكثر صلّى الله عليه وسلّم من تهديد الكفار بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة، ولم يروا شيئا، نسبوه إلى الكذب، فأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بقوله: أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي قد حصل أمر الله وحكمه ووجد من الأزل إلى الأبد، وتحقق بنزول العذاب، إلا أن المأمور به والمحكوم به إنما لم يحصل ولم ينفّذ لأنه تعالى خصص حصوله بوقت معين، فلا تستعجلوه، ولا تطلبوا حصوله قبل مجيء ذلك الوقت، أي أن الحكم صدر مع وقف التنفيذ في أمد معين.
وكذلك لما أكثر صلّى الله عليه وسلّم من تهديدهم بقيام الساعة أجيبوا بأنه قد اقتربت الساعة ودنت، معبرا عن المستقبل بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله تعالى: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر ٥٤/ ١] وقوله سبحانه:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ [الأنبياء ٢١/ ١] أي أن أمر الله بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا، فلا تستعجلوه قبل حضور الوقت المقدّر في علمه تعالى، أي قرب ما تباعد، فلا تتعجلوا وقوعه.
وهذا تهديد للكفار وإعلام لهم بقرب عذابهم وهلاكهم.
سُبْحانَهُ وَتَعالى.. تبرأ الله تعالى وتنزه وتقدس عما ينسبون له من الشريك والولد وعبادتهم ما سواه من الأوثان والأنداد. وهذا إبطال لما عقدوا عليه الآمال من شفاعة الأصنام.

صفحة رقم 84

ولما كان استعجال العذاب وقيام القيامة تكذيبا للنبي واستهزاء به وبوعده، وهو كفر، قرن تعالى النهي عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والشركاء، وهو رأس الكفر.
ثم أجاب الله تعالى عن شبهة ثالثة تتعلق بتكذيب النبوة والنبي، فقال:
يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ أي ينزل تعالى الملائكة بالوحي على من يريد من عباده الذين اصطفاهم واختارهم للرسالة. وعبر عن الوحي بالروح لأنه يحيي موات القلوب كما تحيي الروح موات الأبدان، كما قال تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ، كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ، لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام ٦/ ١٢٢]. واستعمال الروح بمعنى الوحي شائع في القرآن، كما في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا، ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ، وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى ٤٢/ ٥٢].
وقوله: عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ هم الأنبياء، كما قال تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام ٦/ ١٢٤] وقال: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج ٢٢/ ٧٥] وقال: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ، لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ [غافر ٤٠/ ١٥]. وهذا رد لقولهم: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف ٤٣/ ٣١].
وقوله: مِنْ أَمْرِهِ يعني أن التنزيل والنزول للوحي لا يكونان إلا بأمره تعالى، كما حكى عن الملائكة: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم ١٩/ ٦٤] فلا يستطيع الملائكة فعل شيء إلا بأمر الله تعالى وإذنه.
ودلت الآية على أن الوحي من الله إلى أنبيائه لا يكون إلا بوساطة الملائكة.

صفحة رقم 85

ثم بيّن تعالى مهمة الرسل فقال: أَنْ أَنْذِرُوا.. أي لينذروا الناس الكفرة ويعلموهم أنه لا إله إلا الله، فاتقوا عقابي لمن خالف أمري وعبد غيري.
فقه الحياة أو الأحكام:
أجابت الآيات عن شبهات ثلاث للمشركين: قيام الساعة ونزول العذاب، والشرك والشركاء، والنبوة والوحي.
أما الموضوع الأول: فقد أعلن تعالى أن قيام الساعة ونزول العذاب والهلاك متحقق كائن لا محالة، ولكنه مرتبط بوقت معين مقدر في علم الله تعالى، وهو أمر قريب، فلا داعي للاستعجال بوقوعه، والتعجيل بحدوثه.
وأما الموضوع الثاني: فقد نزه الله تعالى نفسه عن الشرك والإشراك، وعن الشريك والولد وعن الأوثان والأنداد، وعما يصفونه به من أنه لا يقدر على قيام الساعة، لقولهم: لا يقدر أحد على بعث الأموات، فوصفوه بالعجز الذي لا يوصف به إلا المخلوق. والتنزيه يتضمن إثبات القدرة المطلقة لله، والوحدانية التامة، واستحقاق العبادة المستقلة به المخلصة له، وإبطال ما زعموه من شفاعة الأصنام.
وأما الموضوع الثالث: فقد أبان تعالى أنه الذي ينزل بالروح، أي بالوحي وهو النبوة، على من اختارهم الله للنبوة، من طريق الملائكة، ولا يحدث شيء من تنزل الوحي إلا بأمره وإذنه تعالى، وختمت الآية بالتحذير من عبادة الأوثان، والإنذار بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فليتقوا عقاب الله إذا خالفوا أمره وعبدوا غيره.
وأفادت الآية كما لا حظنا أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لا يكون إلا بالملائكة، كما قال تعالى في آخر سورة البقرة: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ

صفحة رقم 86
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية