
الذين أحلوا أشياء وحرموا أشياء كالبحيرة وغيرها مما ذكر في سورة المائدة والأنعام، ثم يدخل فيها كل من قال: هذا حلال أو حرام بغير علم، وانتصب الكذب بلا تقولوا أو يكون قوله: هذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب وما في قوله بما تصف موصولة ويجوز أن ينتصب الكذب بقوله تصف وتكون ما على هذا مصدرية ويكون قوله هذا حلال وهذا حرام معمول لا تقولوا مَتاعٌ قَلِيلٌ يعنى عيشهم في الدنيا أو انتفاعهم بما فعلوه من التحليل والتحريم.
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ يعنى قوله في [الأنعام: ١٤٦] حرمنا كل ذي ظفر إلى آخر الآية، فذكر ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود، ليعلم أن تحريم ما عدا ذلك افتراء على الله كما فعلت العرب ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ هذه الآية تأنيس لجميع الناس وفتح باب التوبة.
إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم بكماله وجمعه لصفات الخير كقول الشاعر
فليس على الله بمستنكر | أن يجمع العالم في واحد |
ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ المراد بالسبيل هنا: الإسلام، والحكمة هي الكلام الذي يظهر صوابه، صفحة رقم 438

والموعظة هي الترغيب والترهيب، والجدال هو الردّ على المخالف، وهذه الأشياء الثلاثة يسميها أهل العلوم العقلية بالبرهان والخطابة والجدال، وهذه الآية تقتضي مهادنة نسخت بالسيف، وقيل: إن الدعاء إلى الله بهذه الطريقة من التلطف والرفق غير منسوخ، وإنما السيف لمن لا تنفعه هذه الملاطفة من الكفار: وأما العصاة فهي في حقهم محكمة إلى يوم القيامة باتفاق وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ المعنى إن صنع بكم صنع سوء فافعلوا مثله ولا تزيدوا عليه، والعقوبة في الحقيقة إنما هي الثانية، وسميت الأولى عقوبة لمشاكلة اللفظ، ويحتمل أن يكون عاقبتم بمعنى أصبتم عقبى: كقوله في الممتحنة فعاقبتم بمعنى غنمتم فيكون في الكلام تجنيس، وقال الجمهور:
إن الآية نزلت في شأن حمزة بن عبد المطلب لما بقر المشركون بطنه يوم أحد، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم، فنزلت الآية فكفر النبي صلّى الله عليه وسلّم عن يمينه وترك ما أراد من المثلة ولا خلاف أن المثلة حرام، وقد وردت الأحاديث بذلك ويقتضي ذلك أنها مدنية، ويحتمل أن تكون الآية عامة، ويكون ذكرهم لحمزة على وجه المثال، وتكون على هذا مكية كسائر السورة واختلف العلماء فيمن ظلمه رجل في مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه، فأجاز ذلك قوم لظاهر الآية، ومنعه مالك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: أدّ الإمامة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك «١» وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ هذا ندب إلى الصبر وترك عقوبة من أساء إليك فإن العقوبة مباحة، وتركها أفضل، والضمير راجع للصبر، ويحتمل أن يريد بالصابرين هنا العموم، أو يراد به المخاطبون كأنه قال: خير لكم وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ هذا عزم على النبي صلّى الله عليه وسلّم في خاصته على الصبر، ويروى أنه قال لأصحابه أما أنا فأصبر كما أمرت، فماذا تصنعون؟ قالوا نصبر كما ندبنا ثم أخبره أنه لا يصبر إلا بمعونة الله وقد قيل إن ما في هذه الآية من الأمر بالصبر منسوخ بالسيف، وهذا إن كان الصبر يراد به ترك القتال، وأما إن كان الصبر يراد به ترك المثلة التي فعل مثلها بحمزة فذلك غير منسوخ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أي لا تتأسف لكفرهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ أي لا يضق صدرك بمكرهم، والضيق بفتح الضاد تخفيف من ضيق كميت وميت، وقرئ «٢» بالكسر وهو مصدر، ويجوز أن يكون الضيق والضيق مصدران إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا يريد أنه معهم بمعونته ونصره وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ الإحسان هنا يحتمل أن يراد به فعل الحسنات، والمعنى الذي أشار له النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه «٣» وهذا هو الأظهر، لأنه رتبة فوق التقوى.
(٢). قرأ ابن كثير: ضيق وفي النمل، بكسر الضاد، والباقون بالفتح.
(٣). جزء من حديث جبريل الطويل الذي رواه مسلم عن عمر بن الخطاب.