آيات من القرآن الكريم

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ
ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼ ﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﱿ

فالدعوة إلى ذلك إنما تنجح بهذا الأسلوب الحكيم الرائع. أما أساليب العنف والإكراه والإلزام والخشونة فلا تؤدي إلى نتيجة إيجابية سليمة.
ولقد قال بعض المفسرين «١» إن الآية قد نسخت بآيات القتال، كما قال بعض المغرضين من المبشرين والمستشرقين: إنها خولفت ونقضت حينما قوي النبي ﷺ واشتد ساعده. وليس في هذا وذاك صواب فيما نرى، فالمبادئ التي تضمنتها آيات القتال المدنية متسقة مع هذه الخطة تماما. والقتال إنما شرع ضد المعتدين على المسلمين وليس لإكراه الناس على الإسلام على ما شرحناه في سياق سورة (الكافرون) وعلى ما سوف نزيده شرحا في مناسباته.
وسيرة النبي ﷺ والخلفاء الراشدين المتواترة تكذب كل من يقول من الأغيار إن هذه الخطة قد نوقضت بل الحق الذي لا يماري فيه إلّا المكابر المغرض أنها روعيت أدقّ رعاية وأشدّها «٢».
[سورة النحل (١٦) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٨]
وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)
. (١) وإن عاقبتم: بمعنى وإن قابلتم عملا بالمثل. وتستعمل في معنى المقابلة على الإساءة والعدوان.
في الآيات:
١- خطاب موجه للسامعين يؤمرون فيه بأنهم إذا أرادوا أن يقابلوا على

(١) انظر تفسير الآية في تفسير البغوي.
(٢) اقرأ الجزء السادس والسابع من كتابنا تاريخ الجنس العربي، العروبة في الإسلام تحت راية النبي والخلفاء الراشدين. واقرأ كتابنا سيرة الرسول من القرآن الجزء الثاني ٤٩- ٣٠٥ وكتابنا الدستور القرآني فصل النظام السياسي وفصل النظام الجهادي.

صفحة رقم 203

الإساءة والعدوان فيجب أن يكون ذلك في حدود ما كان عليهم من ذلك بدون تجاوز ولا إسراف به مع تنبيههم إلى أن الأفضل لهم إذا صبروا فإن في الصبر خيرا للصابرين.
٢- وأمر للنبي بالصبر وعدم الاستسلام للحزن وضيق الصدر من جراء مواقف المكر والإساءة التي يواجهها.
٣- وتطمين له بأنه إذا صبر فإنما يجعل اعتماده على الله وأن الله مؤيد للذين يتقونه ويحسنون في أعمالهم.
تعليق على آية وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وما بعدها
والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآيات الثلاث مدنية. وقد روى الطبري عن عطاء بن يسار أحد علماء تابعي التابعين أن الآيات الثلاث مدنية وأنها نزلت بعد وقعة أحد. فإن النبي عليه السلام لما قتل حمزة عمّه وبقر بطنه ومثّل به حزن كثيرا فأقسم لئن أظهرنا الله عليهم لنمثّلن بثلاثين منهم فلما سمع المسلمون قالوا:
والله لئن ظهرنا عليهم لنمثّلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط، فأنزل الله الآيات. وروى الطبري روايات أخرى من هذا الباب ولقد روى الترمذي حديثا عن أبيّ بن كعب جاء فيه: «لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلا ومن المهاجرين ستة فيهم حمزة فمثّلوا بهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربينّ عليهم فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ فقال رجل: لا قريش بعد اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفّوا عن القوم إلّا أربعة» «١». وهذه الروايات تؤيد مدنية الآيات كما هو واضح. ومع ذلك فإن الطبري روى عن بعض التابعين أن بعض المسلمين في مكة قالوا يا رسول الله لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب

(١) التاج ج ٤ ص ١٣٩- ١٤٠.

صفحة رقم 204

فأنزل الله الآيات ثم نسخت بآيات الجهاد. وهذه الرواية تنقض رواية مدنية الآيات. وإلى هذا وذاك فإن الطبري روى عن بعض التابعين وتابعيهم أيضا أن الآيات مطلقة في صدد النهي عن مقابلة أحد على ظلامة ظلمها إلّا بمثلها مع تفضيل الصبر وأنها محكمة غير منسوخة، ثم قال: والصواب أن الله أمر في الآية الأولى النبي والمؤمنين بأن يعاقبوا من عاقبهم بمثل ما عاقبهم به إن اختاروا العقوبة، مع تفضيل الصبر وأنه سلّى في الآيتين الثانية والثالثة النبي عما كان من إعراض قومه عن دعوته ومواقفهم منه وما كان يطرأ عليه بسبب ذلك من حزن وضيق صدر. ولم تخرج أقوال وروايات المفسرين عن هذا «١». وفي كلام الطبري الأخير وجاهة وصواب. فليس في مضمون الآيات ولا في سياقها قرينة يمكن أن تؤيد رواية مدنيتها كما أن حكمة وضعها في هذا المكان لا تكون مفهومة مع مضمون هذه الرواية. ولقد ذكرت وقعة أحد بشيء من الإسهاب في سورة آل عمران، فلو كان ما روي صحيحا لكان محل هذه الآيات هذه السور.
وأسلوب الآيات ومضمونها مما يؤيد مكيتها وقد تكررت الآيات المكية التي تضمنت ما تضمنته هذه الآيات، ومرّت أمثلة من ذلك. وفي سورة النمل آية فيها نفس العبارة التي جاءت في آخر الآية الثانية وهي: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وليس بين هذه العبارة وبين رواية حزن النبي على قتل عمه أي اتساق. لأنها تنهاه عن عدم الحزن من مواقفهم ومكرهم. وبترجيح مكية الآيات تبدو الصلة بينها وبين الآيات السابقة واضحة. فالآية السابقة لها مباشرة تأمر بالجدال بالتي هي أحسن إذا لزم الجدال وبالتزام الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة إلى سبيل الله. فمما يتبادر أن تكون الآيات الثلاث قد جاءت معقبة على الآية السابقة لها وجزءا من السياق والموضوع. وكأنما أريد بها التنبيه على أن الخير كل الخير هو في تلك الخطة فإذا كان من الكفار من يشذ ويعنف ورأى بعض المسلمين ضرورة للمقابلة فلتكن في حدود المماثلة. والصبر مع ذلك هو الأفضل

(١) انظر تفسير الآيات في البغوي وابن كثير والخازن والطبرسي.

صفحة رقم 205

وعلى النبي والمسلمين أن يملكوا زمام أنفسهم فلا يخرجوا عن حدّ الاعتدال ولا يحزنوا ولا يضق صدرهم بما يرونه من مكر الكفار ومواقفهم وتعنتهم. وعليهم بتقوى الله والعمل الحسن الذي يرضيه، وإنه لمع المتقين المحسنين.
وهكذا تكون الآيات الثلاث متممة للخطة الحكيمة الرائعة التي احتوتها الآية السابقة لها. وكما أن هذه الآية قد تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى على ما شرحناه في سياقها تكون الآيات الثلاث مثلها مستمرة التلقين.
وطابع الختام بارز على الآيتين الأخيرتين بخاصة مما هو مماثل لكثير من خواتم السور.
والجمع بين المتقين والمحسنين يتكرر هنا، وقد علقنا على ما في ذلك من دلالة هامة في مناسبة سابقة، وتكراره يدل على ما أعارته حكمة التنزيل لهذا الأمر من عناية هو جدير بها.

صفحة رقم 206
التفسير الحديث
عرض الكتاب
المؤلف
محمد عزة بن عبد الهادي دروزة
الناشر
دار إحياء الكتب العربية - القاهرة
سنة النشر
1383
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية