آيات من القرآن الكريم

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ

وَالشَّرَابُ: اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَهُوَ الْمَائِعُ الَّذِي تَشْتَفُّهُ الشَّفَتَانِ وَتُبْلِغُهُ إِلَى الْحَلْقِ فَيُبْلَعُ دُونَ مَضْغٍ.
وَ (مِنْ) تَبْعِيضَيَّةٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْهُ شَجَرٌ نَظِيرُ قَوْلِهِ: مِنْهُ شَرابٌ. وَأُعِيدَ حَرْفُ (مِنْ) بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ لِأَنَّ حَرْفَ (مِنْ) هُنَا لِلِابْتِدَاءِ، أَوْ لِلسَّبَبِيَّةِ فَلَا يَحْسُنُ عَطْفُ شَجَرٌ عَلَى شَرابٌ.
وَالشَّجَرُ: يُطْلَقُ عَلَى النَّبَاتِ ذِي السَّاقِ الصُّلْبَةِ، وَيُطْلَقُ عَلَى مُطْلَقِ الْعُشْبِ وَالْكَلَأِ تَغْلِيبًا.
وَرُوعِيَ هَذَا التَّغْلِيبُ هُنَا لِأَنَّهُ غَالِبُ مَرْعَى أَنْعَامِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِقِلَّةِ الْكَلَأِ فِي أَرْضِهِمْ، فَهُمْ يَرْعَوْنَ الشَّعَارِي وَالْغَابَاتِ.
وَفِي حَدِيثِ «ضَالَّةُ الْإِبِلِ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتَرْعَى الشّجر حَتَّى يأتيا رَبُّهَا»
. وَمِنَ الدَّقَائِقِ الْبَلَاغِيَّةِ الْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (فِي) الظَّرْفِيَّةِ، فَالْإِسَامَةُ فِيهِ تَكُونُ بِالْأَكْلِ مِنْهُ وَالْأَكْلُ مِمَّا تَحْتَهُ مِنَ الْعُشْبِ.
وَالْإِسَامَةُ: إِطْلَاقُ الْإِبِلِ لِلسَّوْمِ وَهُوَ الرَّعْيُ. يُقَالُ: سَامَتِ الْمَاشِيَةُ فَهِيَ سَائِمَةٌ وأسامها ربّها.
[١١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ١١]
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١)
جُمْلَةُ يُنْبِتُ حَالٌ مِنْ ضمير أَنْزَلَ [سُورَة النَّحْل: ١٠]، أَيْ يُنْبِتُ اللَّهُ لَكُمْ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُعْطَفْ هَذَا على الْجُمْلَة لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ [سُورَة النَّحْل: ١٠] لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا يَحْصُلُ بِنُزُولِ الْمَاءِ وَحْدَهُ بَلْ لَا بُدَّ مَعَه من زَرْعٌ وغرس.
وَهَذَا الإنبات مِنْ دَلَائِلِ عَظِيمِ الْقُدْرَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، فَالْغَرَضُ مِنْهُ الِاسْتِدْلَالُ مَمْزُوجًا
بِالتَّذْكِيرِ بِالنِّعْمَةِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَكُمْ عَلَى وِزَانِ مَا

صفحة رقم 114

تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ [سُورَة النَّحْل: ٥] الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها [سُورَة النَّحْل: ٨] الْآيَةَ.
وَأُسْنِدَ الْإِنْبَاتُ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ الْمُلْهِمُ لِأَسْبَابِهِ وَالْخَالِقُ لِأُصُولِهِ تَنْبِيهًا لِلنَّاسِ عَلَى دَفْعِ غُرُورِهِمْ بِقُدْرَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لِكَثْرَةِ مَا تَحْتَ ذَلِكَ مِنَ الدَّقَائِقِ.
وَذِكْرُ الزَّرْعِ وَالزَّيْتُونِ وَمَا مَعَهُمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي سُورَة الْأَنْعَام.
والتفكّر تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٥٠].
وَإِقْحَامُ لَفْظِ «قَوْمٍ» لِلدَّلَالَةِ على أَن التفكّر مِنْ سَجَايَاهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤].
وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ عَطْفٌ عَلَى الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ، أَيْ وَيُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ من كل الثَّمَرَاتِ مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ هُنَا.
وَالتَّعْرِيفُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَالْمُرَادُ: أَجْنَاسُ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ الَّتِي يُنْبِتُهَا الْمَاءُ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ مِنَ النَّاسِ ثَمَرَاتُ أَرْضِهِمْ وَجَوِّهِمْ. ومِنْ تَبْعِيضِيَّةٌ قُصِدَ مِنْهَا تَنْوِيعُ الِامْتِنَانِ عَلَى كُلِّ قَوْمٍ بِمَا نَالَهُمْ مِنْ نِعَمِ الثَّمَرَاتِ. وَإِنَّمَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى الزَّرْعِ وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ الَّتِي تَنْبُتُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تَذْيِيلٌ.
وَالْآيَةُ: الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى الْمُبْدِعُ الْحَكِيمُ. وَتِلْكَ هِيَ إِنْبَاتُ أَصْنَافٍ مُخْتَلِفَةٍ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، كَمَا قَالَ: تسقى بِمَاءٍ وَاحِدٍ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [٤].
وَنِيطَتْ دَلَالَةُ هَذِهِ بِوَصْفِ التَّفْكِيرِ لِأَنَّهَا دَلَالَةٌ خَفِيَّةٌ لِحُصُولِهَا بِالتَّدْرِيجِ. وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَمْ يَهْتَدُوا بِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ دَلَالَةٍ عَلَى تَفَرُّدِ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَتَفَكَّرُونَ.

صفحة رقم 115
تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
عرض الكتاب
المؤلف
محمد الطاهر بن عاشور
الناشر
الدار التونسية للنشر
سنة النشر
1403
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية