
قال القاضي أبو محمد: ومن قال جعلوه أعضاء فإنما أراد قسموه كما تقسم الجزور أعضاء، وقوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ إلى آخر الآية، ضمير عام ووعيد محض يأخذ كل أحد منه بحسب جرمه وعصيانه، فالكافر يسأل عن لا إله إلا الله وعن الرسل وعن كفره وقصده به، والمؤمن العاصي يسأل عن تضييعه، والإمام عن رعيته، وكل مكلف عما كلف القيام به، وفي هذا المعنى أحاديث، وقال أبو العالية في تفسير هذه الآية: يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة عما كانوا يعبدون وماذا أجابوا المرسلين، وقال في تفسيرها أنس بن مالك وابن عمر ومجاهد: إن السؤال عن لا إله إلا الله، وذكره الزهراوي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس في قوله فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ، قال يقال لهم: لم عملتم كذا وكذا؟ قال وقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] معناه يقال له ما أذنبت لأن الله تعالى أعلم بذنبه منه.
قوله عز وجل:
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٩٤ الى ٩٩]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (٩٥) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٩٦) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)
فَاصْدَعْ معناه فانفد وصرح بما بعثت به، والصدع التفريق بين ملتئم كصدع الزجاجة ونحوه، فكأن المصرح بقول يرجع إليه، يصدع به ما سواه مما يضاده، والصديع الصبح لأنه يصدع الليل، وقال مجاهد: نزلت في أن يجهر بالقرآن في الصلاة، وفي تُؤْمَرُ ضمير عائد على «ما»، تقديره ما تؤمر به أو تؤمره وفي هذين تنازع، وقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ من آيات المهادنات التي نسختها آية السيف، قاله ابن عباس، ثم أعلمه الله تعالى بأنه قد كفاه الْمُسْتَهْزِئِينَ من كفار مكة ببوائق إصابتهم من الله تعالى لم يسع فيها محمد ولا تكلف فيها مشقة، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير: «المستهزءون» خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب أبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن خزاعة الحارث بن الطلاطلة، وهو ابن غيطلة، وهو ابن قيس، قال أبو بكر الهذلي: قلت للزهري: إن ابن جبير وعكرمة اختلفا في رجل من المستهزئين، فقال ابن جبير هو الحارث بن غيطلة، وقال عكرمة هو الحارث بن قيس، فقال الزهري صدقا أمه غيطلة وأبوه قيس وذكر الشعبي في الْمُسْتَهْزِئِينَ هبار بن الأسود، وذلك وهم لأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة، وذكر الطبري عن ابن عباس: أن الْمُسْتَهْزِئِينَ كانوا ثمانية كلهم مات قبل بدر، وروي أن رسول الله ﷺ كان في المسجد، فأتاه جبريل فجاز الوليد فأومأ جبريل بأصبعه إلى ساقه، وقال للنبي عليه السلام: كفيت ثم جاز العاصي، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى أخمصه، وقال: كفيت، ثم مر أبو زمعة فأومأ إلى عينه، ثم مر الأسود بن عبد يغوث، فأومأ إلى رأسه، وقال كفيت، ثم مر الحارث، فأومأ إلى بطنه، وقال: كفيت، وكان الوليد قد مر بقين في خزاعة

فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش ساقه، ثم برىء فانتقض به ذلك الخدش بعد إشارة جبريل، فقتله، وقيل إن السهم قطع أكحله، قاله قتادة ومقسم، وركب العاصي بغلة في حاجة فلما جاء ينزل وضع أخمصه على شبرقه فورمت قدمه فمات، وعمي أبو زمعة، وكان يقول: دعا علي محمد بالعمى فاستجيب له، ودعوت عليه بأن يكون طريدا شريدا فاستجيب لي، وتمخض رأس الأسود بن عبد يغوث قيحا فمات، وامتلأ بطن الحارث ماء فمات حبنا.
قال القاضي أبو محمد: وفي ذكر هؤلاء وكفايتهم اختلاف بين الرواة في صفة أحوالهم، وما جرى لهم، جليت أصحه مختصرا طلب الإيجاز، ثم قرر تعالى ذنبهم في الكفر واتخاذ الأصنام آلهة مع الله تعالى، ثم توعدهم بعذاب الآخرة الذي هو أشق، وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ آية تأنيس للنبي عليه السلام، وتسلية عن أقوال المشركين وإن كانت مما يقلق، وضيق الصدر يكون من امتلائه غيظا بما يكره الإنسان، ثم أمره تعالى بملازمة الطاعة وأن تكون مسلاته عند الهموم، وقوله مِنَ السَّاجِدِينَ يريد من المصلين، فذكر من الصلاة حالة القرب من الله تعالى وهي السجود، وهي أكرم حالات الصلاة وأقمنها بنيل الرحمة، وفي الحديث كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة» فهذا منه عليه السلام أخذ بهذه الآية، والْيَقِينُ: الموت، بذلك فسره هنا ابن عمر ومجاهد والحسن وابن زيد، ومنه قول النبي عليه السلام عند موت عثمان بن مظعون: «أما هو فقد رأى اليقين»، ويروى «فقد جاءه اليقين». وليس الْيَقِينُ من أسماء الموت، وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل، فسماه هنا يقينا تجوزا، أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه وهذه الغاية معناها مدة حياتك، ويحتمل أن يكون المعنى حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ في النصر الذي وعدته.