
وَبَيَّنَ إِعْرَاضَ قَوْمِ صَالِحٍ عَنْ تِلْكَ الْآيَاتِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [٧ ٧٧]، وَقَوْلِهِ: فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ... الْآيَةَ [١١ ٦٥]. وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا.... [٩١ ١١ - ١٤]، وَقَوْلِهِ: فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ [٥٤ ٢٩]. وَقَوْلِهِ: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا [١٧ ٥٩]، وَقَوْلِهِ: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا الْآيَةَ [٢٦ ١٨٥ - ١٨٦]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَصْحَابَ الْحِجْرِ - وَهُمْ ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ - كَانُوا آمِنِينَ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَكَانُوا يَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا.
وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ [٢٦ ١٤٧ - ١٤٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ الْآيَةَ [٧ ٧٤]، وَقَوْلِهِ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ [٨٩ ٩]، أَيْ: قَطَعُوا الصَّخْرَ بِنَحْتِهِ بُيُوتًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ; أَيْ: لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ الْمُسْتَحِقُّ لِأَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَأَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَلْقَ وَيُجَازِيهِمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ عَبَثًا وَلَا لَعِبًا وَلَا بَاطِلًا. وَقَدْ أَوْضَحَ ذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [٣٨ ٢٧]، وَقَوْلِهِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [٣ ١٩١]، وَقَوْلِهِ: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَةَ [٤٤ ٣٨ - ٣٩]، وَقَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ،

[٢٣ ١١٥ - ١١٦]، وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [٥٣ ٣١]، وَقَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى [٧٥ ٣٦ - ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ.
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ الَّذِي هُوَ «إِنَّ»، وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ الَّتِي تُزَحْلِقُهَا إِنَّ الْمَكْسُورَةُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ إِلَى الْخَبَرِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِتْيَانُ السَّاعَةِ لَا مَحَالَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِتْيَانَهَا أَنْكَرَهُ الْكُفَّارُ ; لِأَنَّ تَعَدُّدَ التَّوْكِيدِ يَدُلُّ عَلَى إِنْكَارِ الْخَبَرِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي.
وَأَوْضَحَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ فِي آيَاتٍ أُخَرَ. فَبَيَّنَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا [٢٠ ١٥]، وَقَوْلِهِ: وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [٢٢ ٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا.... الْآيَةَ [٢٢ ١ - ٢]، وَقَوْلِهِ: وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ الْآيَةَ [٤٥ ٣٢]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ [٣٠ ١٢]، وَقَوْلِهِ: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [٣٠ ٥٥]، وَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً [٧ ١٧٨]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
وَبَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْكَارَ الْكُفَّارِ لَهَا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [٣٤ ٣]، وَقَوْلِهِ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [٦٤ ٧]، وَقَوْلِهِ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [٤٤ ٣٤ - ٣٥]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَصْفَحَ عَمَّنْ أَسَاءَ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ; أَيْ: بِالْحِلْمِ وَالْإِغْضَاءِ. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ: الصَّفْحُ الْجَمِيلُ: الرِّضَا بِغَيْرِ عِتَابٍ. وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْمَلُ حِكْمَةَ الْأُمَّةِ ; لِأَنَّهُ قُدْوَتُهُمْ وَالْمُشَرِّعُ لَهُمْ.
وَبَيَّنَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ ; كَقَوْلِهِ: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [٤٣ ٨٩]،