
كل يوم أسرارا من النبات والأعشاب، وقد جعل الله لنا فيها معايش ورزقا وجعل فيها لمن لستم له برازقين من حيوان وخدم وأولاد فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.
وما من شيء في هذا الكون إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به، وما نعطيه إلا بقدر حسب الحكمة والعلم الشامل فذكر الخزائن من باب التمثيل لا الحقيقة، والله أعلم.
وأرسلنا الرياح لواقح أى: حوامل، نعم الريح تحمل السحب والسفن وتذرو التراب وتحمله حتى تكاد تنقل الجبال من مكانها، وتلقح النبات والأشجار، وتلقيح الشجر أمر أظهره العلم الحديث فقد اكتشف لنا أن كل زهرة أو ثمرة فيها ذكر وأنثى وتحتاج إلى اللقاح، ويحمل لقاحها الريح وبعض الحيوانات، فأنزلنا من السماء بواسطة الرياح ماء لكم منه شراب فأسقيناكموه، ولستم له بخازنين، وهل يمكننا حجز مياه النيل كلها وقت الفيضان؟!! أو حجز مياه الأمطار؟
ثم تعرض القرآن لذكر شيء له الأثر العميق في نفوسنا وهي قصة الموت والحياة فالمولى القدير يحيى وحده ويميت وحده كل المخلوقات كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «١» وتالله لقد علمنا المستقدمين منكم في الحياة والموت والعمل وكل شيء، وتالله لقد علمنا المستأخرين في الحياة والموت والعمل، وكل شيء عند ربك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وأن ربك هو يحشرهم ويحاسبهم إنه هو الحكيم في كل شيء العليم بكل شيء- سبحانه وتعالى-..
قصة آدم وتكوينه، وعلاقته بالملائكة والجن [سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)

المفردات:
صَلْصالٍ طين يابس يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد مِنْ حَمَإٍ الحمأ الطين الأسود مَسْنُونٍ متغير مأخوذ من قولهم أسن الماء إذا تغير قال القرطبي:
كان أول الأمر ترابا أى: متفرق الأجزاء، ثم بلّ فصار طينا، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا، أى: متغير الرائحة، ثم يبس فصار صلصالا، وقوله- تعالى- من

حمأ مفسر لجنس الصلصال كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب وَالْجَانَّ هو إبليس وسمى بذلك لتواريه عن الأعين السَّمُومِ النار لا دخان لها وقيل السموم الريح الحارة التي تقتل سميت بذلك لتأثيرها على مسام الجسم فَأَنْظِرْنِي أمهلنى بِما أَغْوَيْتَنِي الغواية ضد الرشد لَأُزَيِّنَنَّ لأحسنن لهم المعاصي الْمُخْلَصِينَ الذين استخلصهم الله. وقرئ المخلصين على معنى الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أورياء.
وهذا مظهر- أيضا- من مظاهر قدرة الله وعظمته وفيه بيان فضل الله على آدم وبنيه، وتكريمه حيث أمر الملائكة بالسجود له، مع بيان أثر مخالفة الله والتحذير من الشيطان وو وسوسته.
المعنى:
ولقد خلق الإنسان الأول أعنى آدم أبا البشر من طين جاف أصله طين أسود منتن متغير الرائحة.
وإن الإنسان منا ليقف أمام أسرار كلام الله ودقائقه مبهوتا متحيرا، وصدق الله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء آية ٨٨].
نعم خلقنا الله من طين جاف له صوت إذا نقر، أصله طين أسود منتن متغير وفي هذا إشارة إلى ما فينا من طبع وما نحن عليه من خلق وغريزة!
وفي الحديث «إنّ الله- عزّ وجلّ- خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأسود وبين ذلك، والسّهل والحزن والطّيّب والخبيث».
وإذا عرفنا أننا خلقنا من طين أسود منتن الرائحة (حمأ مّسنون) عرفنا السرفى في وقوعنا في الآثام، وارتماء أكثر الناس في أحضان الرذيلة ولو بحثنا لوجدنا لنا رائحة تزكم الأنوف، وتصد النفوس.

ولعلك تقول وما سواد هذا الطين؟ إنه إشارة إلى ظلام النفس وكدرتها، وسلوكها الطريق الملتوى غير الواضح (الله ولىّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور) أى: بسبب الكتب السماوية.
وأما الصلصال وما أدراك ما هو؟ إنه الإناء المتخذ من الطين الجاف الذي لم تنضجه النيران فإذا ضربته سمع له صوت أترى هذا الإناء قويا؟ أرأيته وهو أجوف فارغ ضعيف غير متماسك وهكذا الإنسان أمام مغريات الدنيا وثورة الغرائز.
وأما الجان قد خلقه الله من نار السموم.
الجن خلق من خلق الله منهم الصالحون والطالحون وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [سورة الجن آية ١١] وهم مكلفون مثلنا، ويتكاثرون، ويروننا ولا نراهم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف آية ٢٧]. ومنهم من سبقت له الحسنى فهو مؤمن بربه، ومنهم من غلبت عليه الشقوة فكان من العصاة المذنبين كإبليس وقرينه وهم الشياطين.
ولقد ذكر الله أن الجن خلقوا من نار السموم، أما حقيقة النار هذه فشيء الله أعلم به، ولكن في هذا إشارة إلى بعض طبائع الجن. فالنار تعلو وتتعالى، وقد تؤذى غالبا، وفيها معنى العجلة والسرعة وقوة الغضب.
ونحن نرى أن إبليس تكبر وعصى، وتعجل في الحكم وغضب حينما أمر بالسجود لآدم.
إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته وأتممت خلقه، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين.
ومن هنا يعلم أن الإنسان مكون من مادة أصلها الطين الأسود المنتن، ومن روح هي من روح الله، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء ٨٥].
نعم.. الروح سر من أسرار الله لا يعلم كنهها إلا خالقها، ولكنها قوة في الإنسان لها الأثر الفعال في سلوك الإنسان واتجاهه في الحياة. هي مصدر الخير والهدى والتقوى والفلاح وكل صفة حسنة من صدق وإيمان وإيثار وتعاون وتساند وأخوة في الله، روح

المؤمن هي مصدر فضائل الحق والخير والنور والهدى، بل هي الحياة التي يعنيها القرآن الكريم، أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [سورة الأنعام آية ١٢٢].
هذا البشر المكون من مادة وروح هو الذي أراد له أن يكون خليفته في الأرض هو الذي يصلح لعمارتها، فهو من الأرض وقد عادلها، وفيه نوازع الشر، ونوازع الخير، وعليهما تسير الحياة ويعمر الكون وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «١» أما من خلق من نور خالص فليس فيه هذا الاستعداد والله أعلم بخلقة ولذا رد الله الملائكة بقوله:
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية ٣٠].
هذا الإنسان المخلوق من طين وروح أمر الله ملائكته بالسجود له. سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتقديس، وله- سبحانه- أن يفضل من يشاء على من يشاء إذ بيده الأمر كله.
فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. وما منعك يا إبليس من السجود وقد أمرك ربك وخالقك؟! إنما منعه من السجود استكباره، وتعاليه وسرعة انفعاله وغضبه.. ألم يخلق من نار فيها خصائص التعالي والارتفاع والسرعة والانفعال؟! قال الله: يا إبليس ما المانع لك في ألا تكون مع الساجدين قال إبليس المغرور المخدوع غير الموفق: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون!! ما كان ينبغي لي السجود لبشر أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ومن إجابة إبليس يمكننا أن نتأكد من أبرز صفاته وهي الكبر والتعجل والغضب.
وقد أجابه الله على موقفه هذا، قائلا: فاخرج من السموات أو من الجنة أو من عداد الملائكة، فإنك مرجوم مطرود، وإن عليك اللعنة من الله إلى يوم الدين.
قال إبليس: رب فأمهلنى إلى يوم يبعثون. أراد بسؤاله هذا ألا يموت. فأجابه الله بقوله: فإنك من المنظرين المؤجلين إلى البعث ثم لا بد من موتك وحسابك كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [سورة الرحمن آية ٢٦].

قال إبليس: رب بسبب إغوائك لي وحكمك على باللعنة والطرد من رحمتك لأزينن لهم الأرض، يا سبحان الله!! إنه لسر عظيم، ذكر الأرض هنا، فإن إبليس لا يأتى لنا إلا من ناحية الأرض، والمادة التي ركبنا منها، وليس له تسلط على الروح فإنها من أمر الله وسلطانه فهو يأتى لنا من ناحية غريزة حب التملك والبقاء ألم يقل لأبينا آدم تزيينا له وإغواء هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى «١» ولقد ذكر الرسول سبب ضعف المسلمين وذهاب عزهم وتكاثر الأجانب عليهم «حبّ الدّنيا وكراهية الموت»، وهذه أسس البلاء، ولأغوينهم أجمعين، والغي ضد الرشاد وخصمه فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «٢».
وما يحسه كل منا من ناحية الشيطان ووسوسته يجعلنا ندرك سر قوله تعالى وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «٣» الذين استخلصتهم وأخلصوا لك في العبادة فلا فساد ولا رياء، ولا يحبون أن يحمدهم الناس بل إلى الله وحده عملوا.
قال الله تعالى: هذا صراط على مستقيم، وقضاء قضيته على نفسي محتوم، إنك يا إبليس ليس لك سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانك على الذين لم يخلصوا الإيمان، ولم يعمر قلوبهم نور الروح ولم يتصل بهم سر الله اتصالا وثيقا إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «٤».
فالناس صنفان خاضع لشهواته ونزواته وماديته وطبيعته وغرائزه وهم شعب إبليس المتسلط عليهم، وصنف مؤمن تقى روحه طيبة ونفسه كريمة واتصاله بالله قوى وهؤلاء ليس لإبليس عليهم سلطان وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «٥».
وهذا هو الحكم العام: إن جهنم لموعد من اتبعك وسار خلفك، لها سبعة أبواب مفتحة ومهيأة لكل داخل، واسعة تسع العصاة والمذنبين، لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم.
(٢) سورة الأعراف الآيتان ١٦ و ١٧.
(٣) سورة ص الآيتان ٨٢ و ٨٣.
(٤) سورة الحجر الآية ٤٢.
(٥) سورة الأعراف الآية ٢٠٠.