يكن أحد يتقدم الحرب بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان أشجع الناس. قال البراء: كنا والله إذا احمرّ البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم.
بدء خلق الإنسان وأمر الملائكة بالسجود له وإباء إبليس وعداؤه البشر
[سورة الحجر (١٥) : الآيات ٢٦ الى ٤٤]
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠)
إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥)
قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)
قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤)
الإعراب:
وَالْجَانَّ منصوب بفعل مقدر، تقديره: وخلقنا الجانّ خلقناه، وقدّر الفعل الناصب ليعطف جملة فعلية على جملة فعلية، هي قوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ.
كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ توكيد للمعرفة بعد توكيد، وذهب بعض النحويين إلى أن أَجْمَعِينَ أفاد معنى الاجتماع، أي سجدوا كلهم مجتمعين، لا متفرقين، إلا أنه يلزمه على هذا أن ينصبه على الحال.
ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ ما مبتدأ، ولَكَ خبره، وتقديره: أي شيء كائن لك ألا تكون، أي في ألا تكون، فحذفت (في) وهي متعلقة بالخبر، فانتصب موضع (أن).
لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْهُمْ متعلق بالظرف الذي هو لِكُلِّ، مثل قولهم: كلّ يوم لك درهم، فإن كل يوم منصوب ب (لك). وجُزْءٌ مَقْسُومٌ مرفوع بالظرف الذي هو لِكُلِّ بابٍ لأن قوله لِكُلِّ بابٍ وصف لقوله: أَبْوابٍ أي لها سبعة أبواب، كائن لكل باب منها جزء مقسوم منهم، أي من الداخلين، فحذف منها العائد إلى أَبْوابٍ التي هي الموصوف، وحذف العائد من الصفة إلى الموصوف جائز في كلامهم، كما في قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ.. [البقرة ٢/ ٤٨، ١٢٣] أي ما تجزي فيه.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ آدم أو الجنس مِنْ صَلْصالٍ طين يابس، يسمع له صلصلة، أي صوت، إذا نقر. فإذا طبخ فهو فخّار حَمَإٍ طين أسود، أي تغيّر واسود من مجاورة الماء له مَسْنُونٍ متغير الرائحة، والتقدير: أي كائن من حمأ مسنون وَالْجَانَّ أبا الجن وهو إبليس، أو هذا الجنس مِنْ قَبْلُ من قبل خلق آدم مِنْ نارِ السَّمُومِ هي نار شديدة الحرارة، لا دخان لها، تنفذ من المسام وتقتل.
وَإِذْ قالَ.. واذكر حين قال بَشَراً إنسانا، وسمي بذلك لظهور بشرته أي ظاهر جلده سَوَّيْتُهُ أتممت خلقه وهيأته لنفخ الروح فيه وَنَفَخْتُ أجريت من الفم أو غيره، والمراد: إضافة عنصر الحياة في المادة القابلة لها. مِنْ رُوحِي أي فصار حيا، وإضافة الروح إلى
الله تشريف لآدم فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أي فاسقطوا له ساجدين سجود تحية بالانحناء. كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ فيه تأكيدان للمبالغة في التعميم إِلَّا إِبْلِيسَ هو أبو الجن، الذي كان بين الملائكة أَبى امتنع من أن يسجد له، والاستثناء إما منقطع متصل بقوله: أَبى أي لكن إبليس أبى، وإما متصل على أنه استئناف، على أنه جواب سائل قال: هلا سجد.
قالَ تعالى يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ.. أي ما منعك، أو أي غرض لك في ألا تكون مع الساجدين قالَ: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لا ينبغي لي أن أسجد، واللام لتأكيد النفي، أي لا يصح مني، وينافي حالي لِبَشَرٍ جسماني كثيف، وأنا ملك روحاني خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ أي وهو أخسّ العناصر، وأنا خلقتني من نار، وهي أشرف العناصر.
فَاخْرُجْ مِنْها أي من الجنة أو من السموات أو من زمرة الملائكة رَجِيمٌ مطرود من الخير والكرامة، وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته اللَّعْنَةَ الطرد والإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ يوم الجزاء فَأَنْظِرْنِي أمهلني وأخرني ولا تمتني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي يوم بعث الناس إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمى فيه أجلك عند الله، أو وقت انقراض الناس كلهم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق، كما روي عن ابن عباس. ويجوز أن يراد بالأيام الثلاثة: يوم القيامة، واختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات كما قال البيضاوي، فهو يوم الجزاء، ويوم البعث، واليوم المعلوم وقوعه عند الله، والمؤكد حدوثه في علم الناس.
بِما أَغْوَيْتَنِي أي بإغوائك لي، والإغواء: الإضلال، والباء للقسم، وما: مصدرية، وجواب القسم: لَأُزَيِّنَنَّ والمعنى: أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور الْمُخْلَصِينَ أي المؤمنين الذين استخلصهم الله لطاعته وطهرهم من الشوائب، وقرئ بكسر اللام، أي الذين أخلصوا لك العبادة من الرياء أو الفساد.
هذا صِراطٌ عَلَيَّ.. أي هذا حق علي أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ أي لا انحراف فيه، ولا عدول عنه إلى غيره. والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء: وهو تخلص المخلصين من إغوائه، أو الإخلاص.
إِنَّ عِبادِي المؤمنين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. تصديق لإبليس فيما استثناه، والمراد بيان نجاتهم من تأثير الشيطان عليهم. والسلطان: التسلط بالإغواء الْغاوِينَ الكافرين لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي لموعد الغاوين أو المتبعين، وأَجْمَعِينَ تأكيد للضمير، أو حال، والعامل فيها: الموعد إن جعل مصدرا على تقدير مضاف، أما إن جعل اسم مكان فإنه لا يعمل سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم، أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، وهي جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. ولعل تخصيص العدد
ليشمل جميع المهلكات، أو لأن أهلها سبع فرق لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع جُزْءٌ مَقْسُومٌ نصيب أو فريق معين مفرز له.
المناسبة:
هذا هو النوع السابع من دلائل وجود الله وقدرته وتوحيده، فإنه تعالى لما استدل بتخليق الحيوانات على صحة التوحيد في الآية المتقدمة، أردفه بالاستدلال بتخليق الإنسان على هذا المطلوب نفسه.
والدليل هو أنه لما ثبت بالدلائل القاطعة أنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها، فيجب انتهاء الحوادث إلى حادث أول، فلا بد من انتهاء الناس إلى إنسان هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول غير مخلوق من الأبوين، فيكون مخلوقا لا محالة بقدرة الله تعالى.
وبعد أن ذكر الله تعالى خلق الإنسان الأول، ذكر مقاله للملائكة والجن بشأنه.
التفسير والبيان:
ولقد خلق الله الإنسان الأول آدم أبا البشر من طين أو تراب يابس، فالحمأ: هو الطين، والمسنون: الأملس، والصلصال: التراب اليابس، وقيل:
إنه المنتن المتغير الرائحة في الأصل. وقد بدأ الخلق أولا من تراب، ثم من طين، ثم من صلصال، ليكون أدل على القدرة الإلهية.
وخلقنا جنس الجن من نار السموم، أي نار الريح الحارة التي لها لفح وتقتل من أصابته. قال ابن مسعود: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجانّ، ثم قرأ: وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ
وورد عن عائشة في صحيح مسلم، وأحمد: «خلقت الملائكة من نور، وخلقت الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
ونظير الآية قوله تعالى: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن ٥٥/ ١٤- ١٥].
وفي هذا إشارة إلى برودة طبع الإنسان، وحرارة طبيعة الجن. وفي الآية تنبيه على شرف آدم عليه السلام، وطيب عنصره، وطهارة محتده، وذلك كله دليل على قدرة الله تعالى.
ثم أبان الله تعالى تشريفه لآدم عليه السلام بأمر الملائكة بالسجود له، وتخلف إبليس عدوه عن السجود له من بين سائر الملائكة، حسدا وكفرا، وعنادا واستكبارا، وافتخارا بالباطل، فقال: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ...
أي واذكر أيها الرسول لقومك حين أمرت الملائكة قبل خلق أبيكم آدم بالسجود له بعد اكتمال خلقه، وإباء إبليس عدوه من بين سائر الملائكة السجود له، قائلا: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر ١٥/ ٣٣] متذرعا بقوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ، وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص ٣٨/ ٧٦] وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ [الإسراء ١٧/ ٦٢].
وقد تضمن دفاع إبليس وسبب امتناعه عن السجود لآدم: بأنه خير منه، فإنه خلق من النار، وآدم من الطين، وفي النار عنصر الارتفاع والسمو، وفي التراب عنصر الخمود والركود، فهي أشرف من الطين، والأعلى لا يعظم الأدنى.
وذلك قياس فاسد لأن خيرية المادة لا تعني خيرية العنصر، بدليل أن الملائكة من نور، والنور خير من النار. ثم إنه عصيان أمر الخالق، وجهل بأن آدم امتاز باستعداد علمي وعملي لتلقي التكاليف وتقدم الكون.
لذا عاقبة الله بقوله: قالَ: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ... أي فاخرج
من المنزلة التي كنت فيها من الملأ الأعلى، فإنك مرجوم، أي لعين مطرود، لعنة دائمة ملازمة له إلى يوم القيامة.
وإمعانا في الكيد لآدم وحسدا له ولذريته طلب الإمهال إلى يوم البعث من القبور، وحشر الخلق لموقف الحساب، فأرجأه الله إلى يوم الوقت المعلوم، وهو وقت النفخة الأولى حين تموت الخلائق.
فلما تحقق إبليس الانتظار لذلك اليوم قالَ: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي قال إبليس عاتيا متمردا: رب بسبب إغوائك وإضلالك إياي، لأزينن في الأرض أي الدنيا لذرية آدم عليه السلام الأهواء، وأحبّب إليهم المعاصي، وأرغّبهم فيها، إلا المخلصين الذين أخلصوا لك في الطاعة والعبادة. واستثنى المخلصين لأنه علم أن كيده لا يعمل فيهم، ولا يقبلون منه.
فهدده تعالى وتوعده بقوله: قالَ: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الطريق في العبودية أو الإخلاص طريق مستقيم، مرجعه إلي، فأجازي كل واحد بعمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر ٨٩/ ١٤]. فقوله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ أي هذا الإخلاص طريق علي وإلي، يؤدي إلى كرامتي وثوابي، أو هذا الطريق في العبودية طريق علي مستقيم، أو هذا طريق عليّ تقريره وتأكيده، وهو مستقيم: حق وصدق. ومؤدى الكلام: ألا مهرب لأحد مني، كما يقال لمن يتوعده ويتهدده: طريقك علي. وقوله: مستقيم أي لا عوج فيه ولا انحراف.
وهو رد لما جاء في كلام إبليس: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ، وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف ٧/ ١٦- ١٧].
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.. أي إن عبادي المؤمنين
المخلصين أو غير المخلصين، أو الذين قدرت لهم الهداية، لا سلطان لك على أحد منهم، ولا سبيل لك عليهم، ولا وصول لك إليهم إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ..
استثناء منقطع، أي لكن الذين اتبعوك من الضالين المشركين باختيارهم، فلك عليهم سلطان، بسبب كونهم منقادين لك في الأمر والنهي، والدليل قوله تعالى: إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل ١٦/ ١٠٠].
ونظير الآية: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا، وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ، وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل ١٦/ ٩٩- ١٠٠].
وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ أي إن جهنم موعد جميع من اتبع إبليس، كما قال تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود ١١/ ١٧].
ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ.. أي لجهنم سبعة أبواب، قد خصص لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم من أتباع إبليس، يدخلونه، لا محيد لهم عنه، وكلّ يدخل من باب بحسب عمله، ويستقر في درك بقدر عمله.
وفي تفسير الأبواب السبعة قولان:
قول: إنها سبع طبقات: بعضها فوق بعض، وتسمى تلك الطبقات بالدركات، بدليل قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [النساء ٤/ ١٤٥] والسبب: أن مراتب الكفر مختلفة بالشدة والخفة، فاختلفت مراتب العذاب.
وقول آخر: إنها سبعة أقسام، ولكل قسم باب، أولها كما ذكر ابن جريج:
جهنم، ثم لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم سقر، ثم الجحيم، ثم الهاوية. الأولى
كما ذكر الضحاك: للعصاة الموحدين، والثانية: لليهود، والثالثة: للنصارى، والرابعة: للصابئين، والخامسة: للمجوس، والسادسة: للمشركين، والسابعة:
للمنافقين.
فقه الحياة أو الأحكام:
أفادت الآيات ما يأتي:
١- خلق الله آدم عليه السلام الإنسان الأول من طين يابس، مما يدل على القدرة الإلهية.
وخلق الجانّ من قبل خلق آدم من نار جهنم أو من الريح الحارة التي تقتل، أو من نار لا دخان لها.
ورد في صحيح مسلم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما صوّر الله تعالى آدم عليه السلام في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطيف به، وينظر ما هو، فلما رآه أجوف، عرف أنه خلق خلقا لا يتمالك» «١».
٢- كرم الله الأصل الإنساني، فأمر الملائكة بالسجود له سجود تحية وتكريم، لا سجود عبادة، ولله أن يفضل من يريد، ففضل الأنبياء على الملائكة، وامتحنهم الله بالسجود له تعريضا لهم للثواب الجزيل.
٣- سجد الملائكة له كلهم أجمعون إلا إبليس رفض وأبى، وإبليس ليس من جملة الملائكة: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف ١٨/ ٥٠].
وهذا الاستثناء دليل للشافعي في جواز استثناء غير الجنس من الجنس، مثل: لفلان علي دينار إلا ثوبا أو عشرة أثواب إلا رطل حنطة، سواء المكيلات والموزونات والقيميات. وأجاز مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما استثناء المكيل
من الموزون، والموزون من المكيل، كاستثناء الدراهم من الحنطة والحنطة من الدراهم، ولم يجيزا استثناء القيميات من المكيلات أو الموزونات، كالمثالين المذكورين في بيان مذهب الشافعي، ويلزم المقرّ جميع المبلغ.
٤- سئل إبليس عن سبب امتناعه من السجود، فأجاب بأنه مخلوق من عنصر وهو النار أشرف من التراب.
٥- كان عقاب إبليس الطرد من السموات أو من جنة عدن أو من جملة الملائكة، وملازمة اللعنة له إلى يوم القيامة.
٦- سأل إبليس تأخير عذابه، زيادة في بلائه، كالآيس من السلامة، وأراد الإنظار إلى يوم يبعثون: ألا يموت لأن يوم البعث لا موت فيه ولا بعده، فأجله الله تعالى إلى الوقت المعلوم: وهو النفخة الأولى، حين تموت الخلائق.
٧- صمم إبليس على مدى الحياة إغواء بني آدم وإضلالهم عن طريق الهدى، إلا المؤمنين سواء أكانوا مخلصين أم غير مخلصين، فلا سلطان له عليهم في أن يلقيهم في ذنب يمنعهم عفو الله، وهم الذين هداهم الله واجتباهم واختارهم واصطفاهم.
٨- قول الله: هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ على سبيل الوعيد والتهديد، كقولك لمن تهدده: طريقك علي، ومصيرك إلي، ومعنى الكلام: هذا أي طريق العبودية طريق مرجعه إلي، فأجازي كلا بعمله.
٩- استثناء إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وإِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ دليل على جواز استثناء القليل من الكثير، والكثير من القليل، مثل: علي عشرة إلا درهما، أو عشرة إلا تسعة. وقال ابن حنبل: لا يجوز أن يستثني إلا قدر النصف فما دونه، وأما استثناء الأكثر من الجملة فلا يصح.