
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وأعطاكم مع إنعامه عليكم بما أنعم به عليكم من تسخير هذه الأشياء التي سخرها لكم والرزق الذي رزقكم من نبات الأرض وغروسها من كل شيء سألتموه، ورغبتم إليه شيئا، وحذف الشيء الثاني اكتفاء بما التي أضيفت إليها كلّ، وإنما جاز حذفه، لأن من تُبعِّض ما بعدها، فكفت بدلالتها على التبعيض من المفعول، فلذلك جاز حذفه، ومثله قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يعني به: وأوتيت من كل شيء في زمانها شيئا، وقد قيل: إن ذلك إنما قيل على التكثير، نحو قول القائل: فلان يعلم كل شيء، وأتاه كل الناس، وهو يعني بعضهم، وكذلك قوله (فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ). وقيل أيضا: إنه ليس شيء إلا وقد سأله بعض الناس، فقيل (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي قد أتى بعضكم منه شيئا، وأتى آخر شيئا مما قد سأله. وهذا قول بعض نحويّي أهل البصرة.
وكان بعض نحويِّي أهل الكوفة يقول: معناه: وآتاكم من كلّ ما سألتموه لو سألتموه، كأنه قيل: وآتاكم من كلّ سؤلكم، وقال: ألا ترى أنك تقول للرجل، لم يسألك شيئا: والله لأعطينك سُؤْلك ما بلغت مسألتك، وإن لم يسأل.
فأما أهل التأويل، فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معناه: وآتاكم من كلّ ما رغبتم إليه فيه.

* ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء، وحدثني الحسن بن محمد، قال: ثنا شبابة، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) ورغبتم إليه فيه.
حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثني المثنى، قال: ثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، وحدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن (وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) قال: من كلّ الذي سألتموه.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وآتاكم من كل الذي سألتموه والذي لم تسألوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا خلف، يعني ابن هشام، قال: ثنا محبوب، عن داود بن أبي هند، عن رُكانة بن هاشم (مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ) وقال: ما سألتموه وما لم تسألوه.
وقرأ ذلك آخرون "وآتاكُمْ مِنْ كُلٍّ ما سألْتُمُوهُ" بتنوين كلّ وترك إضافتها إلى "ما" بمعنى: وآتاكم من كلّ شيء لم تسألوه ولم تطلبوه منه، وذلك أن العباد لم يسألوه الشمس والقمر والليل والنهار. وخلق ذلك لهم من غير أن يسألوه.
* ذكر من قال ذلك:
حدثني أبو حُصَين، عبد الله بن أحمد بن يونُس، قال: ثنا بَزِيع، عن الضحاك بن مُزاحم في هذه الآية: "وآتاكم من كلّ ما سألتموه" قال: ما لم تسألوه.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبيد، عن الضحاك أنه كان يقرأ: "مِنْ كُلَّ ما سألْتُمُوه" ويفسره: أعطاكم أشياء ما سألتموها ولم تلتمسوها، ولكن أعطيتكم برحمتي وسعتي. قال الضحاك: فكم من شيء أعطانا الله ما سألناه ولا طلبناه.
حُدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد

بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: "وآتاكم من كلّ ما سألتموه" يقول: أعطاكم أشياء ما طلبتموها ولا سألتموها، صدق الله كم من شيء أعطاناه الله ما سألناه إياه ولا خطر لنا على بال.
حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "وآتاكم من كلّ ما سألتموه" قال: لم تسألوه من كلّ الذي آتاكم.
والصواب من القول في ذلك عندنا، القراءة التي عليها قرّاء الأمصار، وذلك إضافة "كلّ " إلى "ما" بمعنى: وآتاكم من سؤلكم شيئا. على ما قد بيَّنا قبل، لإجماع الحجة من القرّاء عليها ورفضهم القراءة الأخرى.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) ﴾
يقول تعالى ذكره: وإن تعدّوا أيها الناس نعمة الله التي أنعمها عليكم لا تطيقوا إحصاء عددها والقيام بشكرها إلا بعون الله لكم عليها. (إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) يقول: إن الإنسان الذي بدل نعمة الله كفرا لظلوم: يقول: لشاكر غير من أنعم عليه، فهو بذلك من فعله واضع الشكر في غير موضعه، وذلك أن الله هو الذي أنعم عليه بما أنعم واستحق عليه إخلاص العبادة له، فعبد غيره وجعل له أندادا ليضلّ عن سبيله، وذلك هو ظلمه، وقوله (كَفَّارٌ) يقول: هو جحود نعمة الله التي أنعم بها عليه لصرفه العبادة إلى غير من أنعم عليه، وتركه طاعة من أنعم عليه.
حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: ثنا مِسْعَر، عن سعد بن إبراهيم، عن طلق بن حبيب، قال: إن حقّ الله أثقل من أن تقوم به العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيَها العباد، ولكن أصبِحوا تَوّابين وأمسُوا توّابين.
القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) ﴾

يقول تعالى ذكره: (و) اذكر يا محمد (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا) يعني الحَرَم، بلدا آمنا أهله وسكانه (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ) يقال منه: جَنَبْته الشرّ فأنا أَجْنُبُه جَنْبا وجَنَّبته الشر، فأنا أجَنِّبُه تجنيبا، وأجنبته ذلك فأنا أُجْنِبه إجنابا، ومن جَنَبْتُ قول الشاعر:
وَتَنْفُضُ مَهْدَهُ شَفَقا عَلَيْه | وَتَجْنِبُهُ قَلائِصَنا الصِّعابَا (١) |
وَهْنانَةٌ كالزُّونِ يُجْلَى صَنَمُهْ | تَضْحَكُ عن أشْنَبَ عَذْبٍ مَلْثَمُهْ (٢) |
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، قال: كان إبراهيم التيميّ يقصُّ ويقول في قَصَصه: من يأمن من البلاء بعد خليل الله إبراهيم، حين يقول: ربّ (اجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ).
وقوله (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) يقول: يا ربّ إن الأصنام
وشعر قد أرقت له بليل | أجنبه المساند والمحالا |
(٢) البيت لرؤبة من. أرجوزة له مطلعها: " قلت لزير لم تصله مريمة "، وقوله " وهنانة ": صفة لأروى في البيت قبله وهو: " إذا حب أروى همه وسدمه ". والزون: الصنم. وملثمة: مقبلة. وقد شبه أروى بالصنم المجلو في البهاء والحسن. والوهنانة كما في اللسان: الكسل عن العمل تنعما. قال أبو عبيدة: الوهنانة التي فيها فترة.