
مثال الكلمة الطيبة من السعداء ومثال الكلمة الخبيثة من الأشقياء
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٧]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (٢٧)
الإعراب:
كَلِمَةً طَيِّبَةً بدل من مَثَلًا أو تفسير له، وكَشَجَرَةٍ صفة للكلمة أو خبر مبتدأ محذوف، أي هي كشجرة.
البلاغة:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا تعجيب من حال الفريقين: السعداء والأشقياء.
كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ في كل تشبيه مرسل مجمل.
أَصْلُها.. وَفَرْعُها طَيِّبَةً وخَبِيثَةٍ في كل طباق.
المفردات اللغوية:
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا أي ألم تنظر كيف اعتمده ووضعه، والمثل: قول يشبّه بقول

بينهما مشابهة في شيء محسوس، للتوضيح والبيان كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، والكلمة الطيبة: هي لا إله إلا الله وهي كلمة التوحيد ودعوة الإسلام والقرآن، والشجرة الطيبة هي النخلة ثابِتٌ في الأرض بالعروق وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي أعلاها في جهة العلو تُؤْتِي تعطي أُكُلَها ثمرها كُلَّ حِينٍ كل وقت أقّته الله تعالى لإثمارها، أي أن كلمة الإيمان ثابتة في قلب المؤمن، وعمله يصعد إلى السماء، ويناله ثوابه كل وقت.
بِإِذْنِ رَبِّها بإرادته وَيَضْرِبُ ويبين لأن في هذا التشبيه زيادة إفهام وتذكير لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لعلهم يتعظون فيؤمنوا كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ هي كلمة الكفر كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ هي الحنظل اجْتُثَّتْ استوصلت ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزلّون إذا افتتنوا في دينهم، كزكريا ويحيى عليهما السلام وَفِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في موقف الحساب وعند رؤيتهم أهوال الحشر، وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر، فحينما يسألهم الملكان عن ربهم ودينهم ونبيهم، يجيبون بالصواب، كما في حديث الشيخين. وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الكفار الذين ظلموا أنفسهم، فلا يهتدون للحق والجواب الصواب، بل يقولون: لا ندري، كما جاء في الحديث.
وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض وإضلال آخرين من غير اعتراض عليه.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى أحوال الأشقياء وما آل إليهم أمرهم من العذاب في نار جهنم، وأحوال السعداء وإدراكهم الفوز عند ربهم، ذكر مثلا يبين حال الفريقين، وسبب التفرقة بينهما، بتشبيه المعنويات بالحسيات، لترسيخ المعاني في الأذهان، كما هو الشأن في القرآن.
التفسير والبيان:
ألم تعلم أيها المخاطب كيف اعتمد الله مثلا ووضعه في موضعه المناسب له وهو تشبيه الكلمة الطيبة وهي كلمة التوحيد والإسلام ودعوة القرآن، بالشجرة الطيبة وهي النخلة الموصوفة بصفات أربع هي:
١- كون تلك الشجرة طيبة المنظر والشكل، وطيبة الرائحة، وطيبة الثمرة، وطيبة المنفعة أي يستلذ بأكلها ويعظم الانتفاع بها.

٢- أصلها ثابت، أي راسخ باق متمكّن في الأرض لا ينقلع.
٣- وفرعها في السماء، أي كاملة الحال لارتفاع أغصانها إلى الأعلى، وبعدها عن عفونات الأرض، فكانت ثمراتها نقية طيبة خالية من جميع الشوائب.
٤- تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، أي تثمر كل وقت وقّته الله لإثمارها بإرادة ربها وإيجاده وتيسيره. ولما كانت الأشجار تؤتي أكلها كل سنة مرة، كان ذلك في حكم الحين.
روي عن ابن عباس أن الكلمة الطيبة هي قول: «لا إله إلا الله»
وأن الشجرة الطيبة هي النخلة، وكذلك
روي عن ابن مسعود أنها النخلة، وهو مروي عن أنس وابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وحديث ابن عمر رواه البخاري، قال: «كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
أخبروني عن شجرة تشبه الرجل المسلم- أو كالرجل المسلم- لا يتحاتّ ورقها صيفا ولا شتاء، وتؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما لم يقولوا شيئا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي النخلة».
وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ.. أي وهكذا يضرب الله الأمثال للناس فإن في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وعظة وتصوير للمعاني لأن تشبيه المعاني المعقولة بالأمور المحسوسة يرسّخ المعاني، ويزيل الخفاء والشك فيها، ويجعلها كالأشياء الملموسة. وفي هذا لفت نظر يدعو الإنسان إلى التأمل في عظم هذا المثل، والتدبر فيه، وفهم المقصود منه.
ثم ذكر الله تعالى مثال حال كلمة الكفر، فقال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ..
أي وصفة الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر أو الشرك كصفة الشجرة الخبيثة وهي شجرة الحنظل ونحوه، كما قال أنس موقوفا فيما روى أبو بكر البزار،
ومرفوعا

فيما روى ابن أبي حاتم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ: هي الحنظلة
، ووصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلاث هي:
١- أنها خبيثة الطعم أو لما فيها من المضار، أو الرائحة وهي الحنظلة، وقيل: الثوم، وقيل: الشوك.
٢- اجتثت من فوق الأرض، أي اقتلعت واستؤصلت، وليس لها أصل ولا عرق، فكذلك الشرك بالله تعالى ليس له حجة ولا ثبات ولا قوة.
٣- ما لها من قرار، أي ليس لها استقرار، وهذه الصفة كالمتممة للصفة الثانية.
وهذه صفات في غاية الكمال، فالخبث وصف للمضار، والاجتثاث وعدم القرار وصف للخلو عن المنافع.
وبالموازنة يتبين الفرق بين كلمتي الحق والباطل، فكلمة الحق وهي كلمة التوحيد والإيمان قوية ثابتة نافعة للناس، وكلمة الباطل وهي كلمة الشرك أو الكفر ضعيفة ضارة ليس فيها استقرار ولا ثبات.
وأصحاب الكلمة الأولى هم المؤمنون، وأولو الكلمة الثانية هم الكافرون والعصاة.
ثم أخبر الله تعالى عن فوز أهل الكلمة الأولى بمرادهم في الدنيا والآخرة، فقال: يُثَبِّتُ اللَّهُ.. أي إن كرامة الله وثوابه ثابتان للمؤمنين في الآخرة بالقول الذي كان يصدر عنهم في الدنيا، وهو الإيمان المستقر بالحجة والبرهان في قلوبهم، والمقصود: بيان أن الثبات في المعرفة والطاعة يوجب الثبات في الثواب والكرامة من الله تعالى.
أو أن المراد أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا بعدم تعرضهم للفتنة في دينهم

بالرغم من التعذيب كبلال وغيره من الصحابة، فتثبيتهم به في الدنيا: أنهم إذا فتنوا في دينهم، لم يزلّوا، كما ثبّت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد.
وتثبيتهم في الآخرة: أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم في موقف الحساب، لم يتلعثموا، ولم تحيرهم أهوال الحشر.
وقيل وهو القول المشهور: معناه الثبات عند سؤال القبر، والمراد بالحياة الدنيا: مدة الحياة، والآخرة: يوم القيامة والحساب،
روى البخاري ومسلم وأحمد وبقية الجماعة كلهم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم إذا سئل في القبر، شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. وهذا مروي أيضا عن أبي هريرة.
وروى ابن أبي شيبة الحديث المتقدم نفسه عن البراء أنه قال في الآية:
التثبيت في الدنيا: إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر، فقالا له: من ربك؟
قال: ربي الله، وقالا: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام، وقالا: وما نبيك؟
قال: نبيي محمد صلّى الله عليه وسلّم.
وروى أبو داود عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل».
قال الرازي: القول المشهور: أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، وتلقين الله المؤمن كلمة الحق في القبر عند السؤال وتثبيته إياه على الحق «١».

ثم ذكر الله تعالى مصير الكافرين بقوله: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ أي ويمنع الله الكافرين عن الفوز بثوابه، أو يتركهم وضلالهم لعدم توافر استعدادهم للإيمان، وانزلاقهم في الأهواء والشهوات.
أو يجعلهم يترددون في الجواب ويتلعثمون إذا سئلوا في قبورهم عن دينهم ومعتقدهم روى ابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «إن الكافر إذا حضره الموت، تنزل عليه الملائكة عليهم السلام يضربون وجهه ودبره، فإذا دخل قبره، أقعد، فقيل له: من ربك؟ لم يرجع إليهم شيئا، وأنساه الله تعالى ذكر ربه، وإذا قيل له: من الرسول الذي بعث إليك؟
لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئا، فذلك قوله تعالى: وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ.
ثم أبان الله تعالى مشيئته المطلقة في الفريقين فقال: وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ أي إن شاء هدى، وإن شاء أضل. وإضلالهم في الدنيا: أنهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزلّ أقدامهم أول شيء، وهم في الآخرة أضل وأزلّ.
والضلال لسوء الاستعداد، والميل مع أهواء النفس.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الكلمة الطيبة وهي الإيمان أو لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أو المؤمن نفسه: هي الثابتة الخالدة، الطيبة النافعة.
روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن مثل الإيمان كمثل شجرة ثابتة: الإيمان عروقها، والصلاة أصلها، والزكاة فروعها، والصيام أغصانها، التأذي في الله نباتها، وحسن الخلق ورقها، والكفّ عن محارم الله ثمرتها».
والشجرة الطيبة في الأصح: هي النخلة،
ذكر الغزنوي والطبراني فيما رواه ابن عمر عنه صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن كالنخلة، كل شيء منها ينتفع به».

٢- الأمثال والتشبيهات، وبخاصة تشبيه المعقول بالمحسوس، فيها ذكرى وعظة وعبرة، وإفهام وإيقاظ للمشاعر والضمائر، ولفت الأنظار، وشد الانتباه إليها.
٣- الكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر لا قرار لها ولا ثبات، ولا جدوى ولا نفع، ولا تعتمد على حجة مقبولة أو برهان صحيح. والشجرة الخبيثة في الأصح: شجرة الحنظل، كما في حديث أنس، وهو قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما.
وكذلك الكافر لا حجة له، ولا ثبات، ولا خير فيه، وليس له أصل يعمل عليه.
٤- المقصود من الآية الدعوة إلى الإيمان، ورفض الشرك.
٥- يثبّت الله المؤمنين على الحق والإيمان في الدنيا، فلا يتراجعون عنه، ويثبّت نفوسهم، فيلهمها الصواب والنطق بالإيمان في القبر لأن الموتى ما يزالون في الدنيا إلى أن يبعثوا، وكذلك يلهمها الصواب في الآخرة عند الحساب.
٦- يضلّ الله الظالمين عن حجتهم في قبورهم، كما ضلّوا في الدنيا بكفرهم، فلا يلقّنهم كلمة الحق، فإذا سئلوا في قبورهم قالوا: لا ندري فيقول الملك:
لا دريت ولا تليت، وعند ذلك يضرب بالمقامع (سياط من حديد، رؤوسها معوجة) على ما ثبت في الأخبار.
٧- يفعل الله ما يشاء من عذاب قوم وإضلال قوم، وقيل: إن سبب نزول هذه الآية
ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما وصف مساءلة منكر ونكير وما يكون من جواب الميت، قال عمر: يا رسول الله، أيكون معي عقلي؟ قال: نعم، قال:
كفيت إذن فأنزل الله عز وجل هذه الآية: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..