
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يريد ب «السلطان» في هذه الآية الغلبة والقدرة والملك، أي ما اضطررتكم ولا خوفتكم بقوة مني، بل عرضت عليكم شيئا، فأتى رأيكم عليه.
وقوله: فَلا تَلُومُونِي يريد بزعمه إذ لا ذنب لي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ في سوء نظركم وقلة تثبتكم فإنكم إنما أتيتم اتباعي عن بصيرة منكم وتكسب. و «المصرخ» المغيث، والصارخ: المستغيث. ومنه قول الشاعر: [البسيط]
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع | كان الصراخ له قطع الظنابيب |
وقرأ حمزة والأعمش وابن وثاب «بمصرخي» بكسر الياء تشبيها لياء الإضمار بهاء الإضمار في قوله:
مصرخيه، ورد الزجاج هذه القراءة، وقال: هي ردية مرذولة، وقال فيها القاسم بن معن: إنها صواب، ووجهها أبو علي وحكى أبو حاتم: أن أبا عمرو حسنها، وأنكر أبو حاتم على أبي عمرو.
وقوله: بِما أَشْرَكْتُمُونِ أي مع الله تعالى في الطاعة لي التي ينبغي أن يفرد الله بها، ف «ما» مصدرية، وكأنه يقول: إني الآن كافر بإشراككم إياي مع الله قبل هذا الوقت.
قال القاضي أبو محمد: فهذا تبر منه، وقد قال الله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤] ويحتمل أن يكون اللفظ إقرارا على نفسه بكفره الأقدم، فتكون «ما» بمعنى الذي، يريد الله تعالى، أي خطيئتي قبل خطيئتكم، فلا إصراخ عندي، وباقي الآية بين.
وقرأ الجمهور «وأدخل» على بناء الفعل للمفعول، وقرأ الحسن: «وأدخل» على فعل المتكلم، أي يقولها الله عز وجل، وقوله: مِنْ تَحْتِهَا أي من تحت ما علا منها، كالغرف والمباني والأشجار وغيره.
و «الخلود» في هذه الآية على بابه في الدوام، و «الإذن» هنا عبارة عن القضاء والإمضاء، وقوله:
تَحِيَّتُهُمْ مصدر مضاف إلى الضمير، فجائز أن يكون الضمير للمفعول أي تحييهم الملائكة، وجائز أن يكون الضمير للفاعل، أي يحيي بعضهم بعضا.
وتَحِيَّتُهُمْ رفع بالابتداء، وسَلامٌ ابتداء ثان، وخبره محذوف تقديره عليكم، والجملة خبر الأول، والجميع في موضع الحال من المضمرين في خالِدِينَ أو يكون صفة ل جَنَّاتٍ.
قوله عز وجل:
[سورة إبراهيم (١٤) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦)
قوله: أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم، ومَثَلًا مفعول بضرب، وكَلِمَةً مفعول أول بها، صفحة رقم 334

وضَرَبَ هذه تتعدى إلى مفعولين، لأنها بمنزلة جعل ونحوه إذ معناها: جعل ضربها. وقال المهدوي:
مَثَلًا مفعول، وكَلِمَةً بدل منه.
قال القاضي أبو محمد: وهذا على أنها تتعدى إلى مفعول واحد، وإنما أوهم في هذا قلة التحرير في ضَرَبَ هذه.
والكاف في قوله: كَشَجَرَةٍ في موضع الحال، أي مشبهة شجرة.
قال القاضي أبو محمد: وقال ابن عباس وغيره: «الكلمة الطيبة» هي لا إله إلا الله، مثلها الله ب «الشجرة الطيبة»، وهي النخلة في قول أكثر المتأولين، فكأن هذه الكلمة أَصْلُها ثابِتٌ في قلوب المؤمنين، وفضلها وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والحسنة وما يتحصل من عفو الله ورحمته- هو فرعها يصعد إلى السماء من قبل العبد، ويتنزل بها من قبل الله تعالى.
وقرأ أنس بن مالك «ثابت أصلها» وقالت فرقة: إنما مثل الله ب «الشجرة الطيبة» المؤمن نفسه، إذ «الكلمة الطيبة» لا تقع إلا منه، فكأن الكلام كلمة طيبة وقائلها. وكأن المؤمن ثابت في الأرض وأفعاله وأقواله صاعدة، فهو كشجرة فرعها في السماء، وما يكون أبدا من المؤمن من الطاعة، أو عن الكلمة من الفضل والأجر والغفران هو بمثابة الأكل الذي تأتي به كل حين.
وقوله عن الشجرة وَفَرْعُها فِي السَّماءِ أي في الهواء نحو السماء، والعرب تقول عن المستطيل نحو الهواء، وفي الحديث: خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعا، وفي كتاب سيبويه: والقيدودة:
الطويل في غير سماء.
قال القاضي أبو محمد: كأنه انقاد وامتد.
وقال أنس بن مالك وابن مسعود وابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد: «الشجرة الطيبة» في هذه الآية هي النخلة، وروي ذلك في أحاديث وقال ابن عباس أيضا: هي شجرة في الجنة.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن تكون شجرة غير معينة إلا أنها كل ما اتصف بهذه الصفات فيدخل في ذلك النخلة وغيرها. وقد شبه الرسول عليه السلام المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فلا يتعذر أيضا أن يشبه بشجرتها. و «الأكل» الثمر وقرأ عاصم وحده «أكلها» بضم الكاف.
وقوله: كُلَّ حِينٍ: «الحين» في اللغة- القطيع من الزمن غير محدد كقوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ [الإنسان: ١] وكقوله: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: ٨٨]. وقد تقتضي لفظة الحين بقرينتها تحديدا، كهذه الآية، فإن ابن عباس وعكرمة ومجاهدا والحكم وحمادا وجماعة من الفقهاء قالوا:
من حلف ألا يفعل شيئا حينا فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ أي كل سنة، وقال ابن عباس وعكرمة والحسن: أي كل ستة أشهر، وقال ابن المسيب: الحين شهران لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين، وقال ابن عباس أيضا والضحاك والربيع بن أنس: كُلَّ حِينٍ أي غدوة وعشية ومتى أريد جناها.