
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعدَّ للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين في جنات النعيم، ثم توعد المشركين بالعذاب الأليم، وختم السورة الكريمة ببيان صدق رسالته عليه السلام بشهادة الله تعالى وشهادة المؤمنين من أهل الكتاب.
اللغَة: ﴿الأحزاب﴾ الطوائف المتفرقة من أحزاب اليهود والنصارى سموا بذلك لأنهم جماعات متفرقة لا تجمعهم عقيدة واحدة ﴿مَآبِ﴾ أي مآبي بمعنى مرجعي ﴿يَمْحُواْ﴾ المحو: إزالة الأثر من كتابة أو غيرها وعكسه الإِثبات ﴿أُمُّ الكتاب﴾ أصل كل الكتب والمراد منه علم الله أو اللوح المحفوظ ﴿البلاغ﴾ اسم بمعنى التبليغ ﴿مَكَرَ﴾ المكرُ: تدبير أمرٍ في خفاء، وقد يكون في الخير وقد يكون في الشر.
سَبَبُ النّزول: قال الكلبي: عيَّرت اليهود رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: ما نرى لهذا الرجل مهمة إلا النساء والنكاح ولو كان نبياً كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء، فأنزل الله تعالى ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾.
التفسير: ﴿مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي صفة الجنة العجيبة الشأن التي وعد الله بها عباده المتقين أنها تجري من تحت قصورها وغرفها الأنهار ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾ أي ثمرها دائم لا ينقطع، وظلُّها دائم لا تنسخه الشمس ﴿تِلْكَ عقبى الذين اتقوا﴾ أي تلك الجنة عاقبة المتقين ومآلهم ﴿وَّعُقْبَى الكافرين النار﴾ أي وأما عاقبة الكفار الفجار فهي النار {والذين

آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي والذين أنزلنا إليهم التوراة والإِنجيل - ممن آمن بك واتبعك يا محمد - كعبد الله بن سلام والنجاشي وأصحابه يفرحون بهذا القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به ﴿وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ﴾ أي ومن أهل الملل المتحزبين عليك وهم أهل أديان شتى من ينكر بعض القرآن مكابرة مع يقينهم بصدقه لأنه موافق لما معهم ﴿قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ أي قل يا محمد إنما أُمرتُ بعبادة الله وحده لا أشركُ معه غيره ﴿إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ أي إلى عبادته أدعو الناس وإليه مرجعي ومصيري ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً﴾ أي ومثل إنزال الكتب السابقة أنزلنا هذا القرآن بلغة العرب لتحكم به بين الناس ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ أي ولئن اتبعتَ المشركين فيما يدعونك إليه من الأهواء والآراء بعدما آتاك الله من الحجج والبراهين ﴿مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ﴾ أي ليس لك ناصرٌ ينصرك أو يقيك من عذاب الله، والمقصود تحذير الأمة من اتباع أهواء الناس لأن المعصوم إذا خوطب بمثل ذلك كان الغرض تحذير الناس قال القرطبي: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد الأمة ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ﴾ أي أرسلنا قبلك الرسل الكرام ﴿وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً﴾ أي وجعلنا لهم النساء والبنين، وهو ردٌّ على من عاب على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كثرة النساء وقالوا: لو كان مرسلاً حقاً لكان مشتغلاً بالزهد وترك الدنيا والنساء، فردَّ الله مقالتهم وبيَّن أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس ببدعٍ في ذلك، بل هو كمن تقدم من الرسل ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ أي لم يكن لرسولٍ أن يأتي قومه بمُعجزة إلا إذا أذن الله له فيها، وهذا ردٌّ على الذين اقترحوا الآيات ﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي لكل مدةٍ مضروبة كتابٌ كتبه الله في اللوح المحفوظ، وكلُّ شيء عنده بمقدار قال الطبري: لكل أمر قضاه الله كتابٌ قد كتبه فهو عنده ﴿يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ﴾ أي ينسخ الله ما يشاء نسخه من الشرائع والأحكام وصحف الملائكة الكرام، ويثبتُ ما يشاء منها دون تغيير قال ابن عباس: يبدّل الله ما يشاء فينسخه إلا الموتَ والحياة والشقاء والسعادة فإنه قد فرغ منها وقيل: إن المحو والإِثبات عامٌ في جميع الأشياء لما روي أن عمر بن الخطاب كان يطوف بالبيت ويبكي ويقول: اللهمَّ إن كنتَ كتبت عليَّ شقوةً أو ذنباً فامحه، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أمُّ الكتاب، واجعله سعادةً ومغفرة، وقد رجحه أبو السعود وهو قول ابن مسعود أيضاً ﴿وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب﴾ أي أصل كل كتاب وهو اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه مقاديرَ الأشياء ِ كلَّها ﴿وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ﴾ أي وإن أريناك يا محمد بعض الذي وعدناهم من العذاب ﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ أي نقبضك قبل أن نقر عينك بعذاب هؤلاء المشركين ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب﴾ أي ليس عليك إلا تبليغ الرسالة وعلينا حسابهم وجزاؤهم ﴿أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أي أولمْ ير هؤلاء المشركون أنّا نمكّن للمؤمنين من ديارهم ونفتح للرسول الأرض بعد الأرض حتى تنقص دار الكفر وتزيد دار الإِسلام؟ وذلك من
صفحة رقم 80
أقوى الأدلة على أن الله منجزٌ وعده لرسوله عليه السلام ﴿والله يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ أي ليس يتعقب حكمه أحد بنقصٍ ولا تغيير ﴿وَهُوَ سَرِيعُ الحساب﴾ أي سريع الانتقام ممن عصاه ﴿وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ أي مكر الكفار الذين خَلَوْا بأنبيائهم كما مكر كفار قريش بك ﴿فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً﴾ أي له تعالى أسباب المكر جميعاً لا يضر مكرهم إلا بإرادته، فهو يوصل إليهم العذاب من حيث لا يعلمون ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ﴾ أي من خير وشر فيجازي عليه ﴿وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار﴾ أي لمن تكون العاقبة الحسنة في الآخرة ﴿وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً﴾ أي يقول كفار مكة لستَ يا محمد مرسلاً من عند الله ﴿قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أي حسبي شهادة الله بصدقي بما أيدني من المعجزات ﴿وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب﴾ أي وشهادة المؤمنين من علماء أهل الكتاب.
البَلاَغَة: في الآيات الكريمة من وجوه البيان والبديع ما يلي:
١ - التشبيه في قوله ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ﴾ [الرعد: ٣٠] وفي ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ﴾ ويسمى مرسلاً مجملاً.
٢ - الإِيجاز بالحذف في ﴿أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا﴾ أي وظلها دائم حذف منه الخبر بدليل السابق.
٣ - المقابلة في ﴿تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار﴾ وهو من المحسنات البديعية.
٤ - جناس الاشتقاق في ﴿أَرْسَلْنَا رُسُلاً﴾.
٥ - الطباق في ﴿يَمْحُواْ.... وَيُثْبِتُ﴾.
٦ - القصر في ﴿إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله﴾ وفي ﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ﴾ وكلاهما قصرٌ إضافي من باب قصر الموصوف على الصفة أي ليس لك من الصفات إلا صفة التبليغ.
٧ - التهييج والإِلهاب ﴿وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم﴾.
٨ - المجاز المرسل في ﴿نَأْتِي الأرض﴾ أي يأتيها أمرنا وعذابنا.
لطيفَة: فسَّر بعضهم قوله تعالى ﴿نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ أن نقصانها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير والصلاح، وهذا مرويٌ عن مجاهد وابن عباس في رواية عنه وأنشد بعضهم:
الأرضُ تحيا إذا ما عاشَ عالمِها... متى يمُتْ عالمٌ منها يمتْ طَرَفُ
كالأرض تحيا إذا ما الغيثُ حلَّ بها... وإن أبى عادَ في أكنافها التَّلَفُ