آيات من القرآن الكريم

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓ ﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ

١١- للمشركين الصادّين عن الحق ودين التوحيد العذاب في الدنيا بالقتل والسبي والأسر والذم والإهانة، وغير ذلك من الأسقام والأمراض والمصائب، والعذاب الأشد في الآخرة، وليس لهم مانع يمنعهم من عذاب الله، ولا دافع يدفعه عنهم.
ففي الآية إخبار بأنه تعالى جمع لهم بين عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة الذي هو أشق، وأنه لا دافع لهم عنه، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
صفة الجنّة وموقف أهل الكتاب من نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم وشبهات المشركين حولها
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (٣٥) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (٣٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (٣٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (٣٨) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (٣٩)
الإعراب:
مَثَلُ الْجَنَّةِ مبتدأ مرفوع، وخبره إما محذوف، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الجنّة، وهو قول سيبويه، وإما قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهو قول الفرّاء.

صفحة رقم 178

حُكْماً عَرَبِيًّا منصوب على الحال.
البلاغة:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ تشبيه مرسل مجمل.
أُكُلُها دائِمٌ، وَظِلُّها فيه إيجاز بالحذف، أي وظلّها دائم، حذف منه الخبر بدليل السابق.
تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ فيه من المحسنات البديعية ما يسمّى المقابلة.
أَرْسَلْنا رُسُلًا فيهما جناس اشتقاق.
يَمْحُوا.. وَيُثْبِتُ بينهما طباق.
قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ فيه قصر إضافي من قصر الموصوف على الصفة، أي ليس لك إلا الأمر بعبادة الله.
وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ من باب التّهييج والإلهاب والبعث للسّامعين على الثّبات في الدّين والتّصلّب فيه، وعدم التأثّر بالشّبهة بعد التّمسّك بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من شدّة الشّكيمة بمكان.
المفردات اللغوية:
مَثَلُ الْجَنَّةِ أي صفتها التي هي مثل في الغرابة. أُكُلُها ما يؤكل فيها. دائِمٌ لا ينقطع ثمرها ولا يفنى. وَظِلُّها واحد الظّلال، فيه خبر محذوف، أي دائم لا تنسخه شمس لعدمها فيها. تِلْكَ عُقْبَى أي الجنة عاقبة الَّذِينَ اتَّقَوْا الشّرك ومآلهم ومنتهى أمرهم.
وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير، وفي ترتيب النّظمين إطماع للمتّقين وإقناط للكافرين.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني المسلمين من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه من مؤمني اليهود، ومن آمن من النّصارى، وهم ثمانون رجلا: أربعون بنجران، وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بالحبشة، أو عامّتهم، فإنهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم.
الْأَحْزابِ جمع حزب: وهو الطّائفة المتحزّبة، أي المجتمعة لشأن من الشؤون كحرب أو مكيدة ونحوهما، وهم الذين تحزّبوا عليك من المشركين واليهود، مثل كعب بن الأشرف اليهودي وأصحابه. مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ وهو ما يخالف شرائعهم أو ما يوافق ما حرّفوه منها، وكذكر الرّحمن وما عدا القصص. قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ جواب للمنكرين، أي قل لهم: إنّي أمرت فيما

صفحة رقم 179

أنزل إليّ بأن أعبد الله وأوحّده، ولا سبيل إلى إنكاره وأما ما تنكرونه مما يخالف شرائعكم فليس ببدع اختلاف الشّرائع والكتب الإلهية في جزئيات الأحكام. إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره. وَإِلَيْهِ مَآبِ وإليه مرجعي للجزاء، لا إلى غيره، وهذا هو القدر المتّفق عليه بين الأنبياء، وأما ما عدا ذلك من التّفاريع فمما يختلف بالأعصار والأمم، فلا معنى لإنكارهم الاختلاف فيه.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي مثل هذا الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها. أَنْزَلْناهُ حُكْماً أي أنزلنا القرآن يحكم بين الناس في القضايا والوقائع بما تقتضيه الحكمة. عَرَبِيًّا بلغة العرب، ليسهل لهم حفظه وفهمه. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي الكفار فيما يدعونك إليه من ملّتهم على سبيل الافتراض، كالصّلاة إلى قبلتهم بعد ما حوّلت عنها. بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ينسخ ذلك. وَلِيٍّ ناصر. واقٍ حافظ أو مانع من عذابه، أي مالك من أحد ينصرك، ويمنع العقاب عنك، وهو حسم لأطماعهم، وتهييج للمؤمنين على الثّبات على دينهم.
أَزْواجاً نساء. وَذُرِّيَّةً أولادا، كما هي لك. وَما كانَ لِرَسُولٍ وما صحّ له ولم يكن في وسعه. أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تقترح عليه، وحكم يلتمس منه. إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ بمشيئته وإرادته، فإنهم عبيد مربوبون لله تعالى. أَجَلٍ مدة أو وقت. كِتابٌ مكتوب فيه تحديده، أي لكل وقت وأمد تحديد أو حكم معين يكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم.
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه. وَيُثْبِتُ يبقي ما يشاء من الأحكام حسبما تقتضي حكمته، وقيل: يمحو سيئات التائب، ويثبت الحسنات مكانها. وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أي أصل الكتب، وهو اللوح المحفوظ، وهو الذي لا يتغيّر منه شيء، وهو ما كتبه في الأزل، فما من كائن إلا وهو مكتوب فيه، أو العلم الإلهي.
سبب النّزول: نزول الآية (٣٨) :
قال الكلبي: عيّرت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالت: ما نرى لهذا الرّجل مهمّة إلا النّساء والنّكاح، ولو كان نبيّا كما زعم، لشغله أمر النّبوة عن النّساء، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ، وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً «١».

(١) أسباب النّزول للواحدي ١٥٨

صفحة رقم 180

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ: ما نراك يا محمد تملك من شيء، لقد فرغ من الأمر، فأنزل الله تعالى: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ «١».
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى عذاب الكفار في الدّنيا والآخرة، أتبعه بذكر ثواب المتّقين وما أعدّه للمؤمنين من جنّات النّعيم، وذلك هو شأن القرآن الكريم، إذا وصف النّار وعذابها، ذكر الجنّة ونعيمها، مثل المذكور في سورة الفرقان: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ، وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً. إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً. وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ، دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً. لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً، وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً. قُلْ: أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً. لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ، كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا [١١- ١٦].
ثم ذكر تعالى فرح مؤمني أهل الكتاب بتوافق القرآن مع المنزل إليهم من ربّهم، وإنكار فئة آخرين لذلك.
ثم أورد الله تعالى شبهات المشركين لإبطال نبوّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، كالطّعن بتعدّد الزّوجات، وعجزه عن الإتيان بالمعجزات، فردّ الله عليهم بأن محمدا صلّى الله عليه وسلّم كسائر الأنبياء له أزواج وأولاد، وأن أمر المعجزات مفوّض إلى الله تعالى، لا إلى أحد سواه، وأن إنزال العذاب محدد بأجل معيّن، ولكلّ أجل كتاب، أي لكل حادث وقت معيّن.

(١) لباب النّقول في أسباب النّزول بهامش تفسير الجلالين للسيوطي ٣٣٤

صفحة رقم 181

التّفسير والبيان:
فيما نقصّه عليك، أو فيما يتلى عليك صفة الجنّة ونعتها الذي يشبه المثل في الغرابة، تلك الجنّة التي وعدها الله للمتّقين، ذات أنهار تجري في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها، يفجّرونها تفجيرا، ويوجّهونها حيث أرادوا، كما قال تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ، فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى، وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ، كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً، فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمّد ٤٧/ ١٥].
أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها أي ما يؤكل فيها من الفواكه والمطاعم والمشارب لا ينقطع، ولا يفنى، وكذلك ظلّها دائم لا ينسخ ولا يزول، فليس فيها شمس ولا حرّ ولا برد: لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الدّهر ٧٦/ ١٣]. وفي الصّحيحين من حديث ابن عباس في صلاة الكسوف، وفيه: قالوا:
يا رسول الله، رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: «إنّي رأيت الجنّة، فتناولت منها عنقودا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدّنيا».
وبعد وصف الجنّة بهذه الصّفات الثلاث، قال تعالى: تِلْكَ عُقْبَى..
أي تلك الجنّة هي عاقبة ومصير أهل التّقوى، وعاقبة الكافرين النار، بسبب كفرهم وذنوبهم، كما قال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ [الحشر ٥٩/ ٢٠].
والمراد أن ثواب المتّقين منافع خالصة عن الشّوائب موصوفة بصفة الدّوام.
والآية إطماع للمؤمنين المتّقين، وإقناط للكافرين.
ثم ذكر الله تعالى انقسام أهل الكتاب فئتين من القرآن، فقال: وَالَّذِينَ

صفحة رقم 182

آتَيْناهُمُ
أي والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنّصارى قسمان: فالقائمون بمقتضاه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن الكريم لما في كتبهم من الشواهد على صدقه، والبشارة به، كما قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [البقرة ٢/ ١٢١]، وهم جماعة من اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وجماعة من النّصارى وهم ثمانون رجلا من الحبشة واليمن ونجران.
ومن الأحزاب، أي ومن جماعة أهل الكتاب الذين تحزّبوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، مثل كعب بن الأشرف اليهودي، والسيد والعاقب أسقفيّ نجران وأتباعهم، من ينكر بعض ما جاءك من الحقّ، وهو ما لم يوافق شرائعهم أو ما حرّفوه منها.
وأمام هذا الانقسام في الرأي بين اليهود والنّصارى بالنّسبة للقرآن الكريم ذكر تعالى طريق النّجاة والسّعادة، فقال: قُلْ: إِنَّما أُمِرْتُ.. أي قل يا محمد: إنّما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له، كما أرسل الأنبياء من قبلي، فإلى سبيله وطاعته وعبادته أدعو الناس، وإليه وحده مرجعي ومصيري ومصيركم للجزاء والحساب.
وذلك كقوله تعالى: قُلْ: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ، وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا: اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران ٣/ ٦٤].
والآية تشير إلى مبدأ التّوحيد ورفض الشّرك، كما تشير إلى مبدأ البعث والحساب والجزاء يوم القيامة.
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين، وأنزلنا عليهم الكتب، كذلك أنزلنا عليك القرآن الكريم محكما لا زيغ فيه، معربا

صفحة رقم 183

بلسان قومك، ليسهل عليهم فهمه وحفظه. وهذا دليل على أن كلّ رسول أرسل بلغة قومه، كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم ١٤/ ٤].
وأراد بالحكم: أنه يفصل بين الحقّ والباطل، ويحكم في الأمور، مبيّنا الحلال والحرام، والشّرائع والأنظمة المؤدية إلى سعادتي الدّنيا والآخرة.
ثم قال تعالى على سبيل الافتراض: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ.. أي ولئن اتّبعت آراءهم وجاملتهم، كالتّوجّه إلى قبلتهم في بيت المقدس بعد تحويلها إلى البيت الحرام، فليس لك ناصر ينصرك من الله، ولا حافظ ولا مانع يمنع عنك العقاب، وينقذك من العذاب. وهذا تعريض بهم على طريقة: (إياك أعني واسمعي يا جارة) وهو وعيد شديد لأهل العلم أن يتّبعوا سبل أهل الضّلالة، بعد ما عرفوا الدّين الحقّ، وهو أيضا حسم وقطع لأطماع الكفار، وتهييج للمؤمنين على الثبات في دينهم. والخطاب للنّبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد: الأمة.
ثمّ ردّ الله تعالى على طعن المشركين على النّبي صلّى الله عليه وسلّم بتعدّد الزّوجات، فقال:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا.. أي وكما أرسلناك يا محمد رسولا بشرا، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشرا، يأكلون الطّعام، ويمشون في الأسواق، ويأتون الزّوجات، ولهم ذريّة وأولاد، قال تعالى: قُلْ: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف ١٨/ ١١٠]،
وفي الصّحيحين عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللحم، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي»
وروى الإمام أحمد والتّرمذي عن أبي أيوب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أربع من سنن المرسلين: التّعطّر، والنّكاح، والسّواك، والحناء».
أما تعدّد زوجات النبي بعد سنّ الأربع والخمسين- وهي سنّ تضعف فيه عادة

صفحة رقم 184

الرغبة إلى النّساء- فكان من أجل نشر الدّعوة الإسلامية، وما تقتضيه المصلحة في التّأليف بين القبائل العربية، وضرب المثل في الأخلاق والعدل بين الزّوجات والرّأفة ببعض النّساء تعويضا عن زوجها الذي فقدته في الجهاد أو غيره.
ثمّ ردّ الله على طعنهم بعجزه عن تلبية ما اقترحوه من آيات فقال:
وَما كانَ لِرَسُولٍ...
أي وما صحّ لرسول ولم يكن في وسعه أن يأتي قومه بمعجزة أو خارق للعادة، إلا إذا أذن له فيه، ليس ذلك إليه، بل إلى الله عزّ وجلّ، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وقد جاءكم القرآن الكريم معجزة خالدة على ممر الزّمان، فيه تحدّ وإفحام يثبت كونه من عند الله تعالى.
لِكُلِّ أَجَلٍ.. لكلّ حادث وقت معيّن وزمن محدد، فالآيات تأتي في وقتها لحكمة وفي زمن يعلمه الله، وكلّ شيء عنده بمقدار: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر ٥٤/ ٤٩]، فقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ أي لكلّ مدّة كتاب مكتوب، مثل قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام ٦/ ٦٧]. وقال الزّمخشري: لكل وقت حكم يكتب على العباد، أي يفرض عليهم ما يقتضيه صلاحهم، والشّرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات. فشرائع الأنبياء السّابقين كموسى وعيسى عليهما السّلام، ثمّ شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم جاءت فيما يناسب عصورها، وأعمار النّاس وآجالهم وأرزاقهم وحدوث أعمالهم لها أوقات محددة لا تتقدّم ولا تتأخّر كما قال تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف ٧/ ٣٤].
يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ.. أي ينسخ الله ما شاء وما يستصوب نسخه من الشّرائع، ويثبت بدله ما أراد إثباته وما رأى المصلحة في إثباته، وهو القرآن الكريم الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه، أو يتركه غير منسوخ.
أو يمحو من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به.

صفحة رقم 185

وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل كلّ كتاب، وهو اللوح المحفوظ لأن كلّ كائن مكتوب فيه، أو عنده الذي لا يتغيّر منه شيء، أو علم الله وجميع ما يقع في صحف الملائكة لا يكون إلا موافقا لما يثبت فيه، فهو الأمّ لذلك.
قال ابن عمر: سمعت النّبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا السّعادة والشّقاوة والموت».
وقال ابن عباس: يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا أشياء: الخلق والخلق والأجل والرّزق والسّعادة والشّقاوة.
قال ابن كثير: ومعنى الآية أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء «١»، وقد يستأنس لهذا القول
بما رواه الإمام أحمد والنّسائي وابن ماجه عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الرّجل ليحرم الرّزق بالذّنب يصيبه، ولا يردّ القضاء إلا الدّعاء، ولا يزيد في العمر إلا البرّ»
وفي رواية الحاكم «الدعاء يرد القضاء، وإن البر يزيد في الرزق، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه».
وثبت في الصّحيح أن صلة الرّحم تزيد في العمر،
وفي حديث آخر: «إنّ الدّعاء والقضاء ليعتلجان بين السّماء والأرض».
والخلاصة: إن الآية عامة في جميع الأشياء، والمحو والإثبات وارد فيها، وأصل الكتاب لا يتغيّر، واستثناء السّعادة والشّقاء والخلق والخلق والرّزق لأنها أمور لا تتغيّر، وهي مما لا يدرك بالرّأي والاجتهاد، وإنما يؤخذ عن النّبي صلّى الله عليه وسلّم، فإن صحّ فالقول به يجب «٢».
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:

(١) تفسير ابن كثير: ٢/ ٥١٩
(٢) تفسير القرطبي: ٩/ ٣٢٩

صفحة رقم 186

١- الجنّة مخلوقة أعدّها الله للمتّقين، وقال تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ، أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران ٣/ ١٣٣].
٢- ثمر الجنّة لا ينقطع، وظلّها لا يزول، وهذا ردّ على الجهميّة في زعمهم أن نعيم الجنّة يزول ويفنى.
٣- النّار أيضا مخلوقة أعدّها الله للكافرين المكذّبين، قال تعالى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ، أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [البقرة ٢/ ٢٤].
٤- بعض اليهود والنّصارى كابن سلام وسلمان الفارسي، والذين جاؤوا من الحبشة يفرح بالقرآن الكريم، لتصديقه كتبهم. ويفرح بذكر الرّحمن لكثرة ذكره في التّوراة.
قال أكثر العلماء: كان ذكر الرّحمن في القرآن قليلا في أول ما نزل، فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه، ساءهم قلّة ذكر الرّحمن في القرآن، مع كثرة ذكره في التّوراة فسألوا النّبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فأنزل الله تعالى: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فقالت قريش: ما بال محمد يدعو إلى إله واحد، فأصبح اليوم يدعو إلهين، الله والرّحمن! والله ما نعرف الرّحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذّاب فنزلت: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ، وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ ففرح مؤمنو أهل الكتاب بذكر الرّحمن، فأنزل الله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ.
٥- ومن الأحزاب يعني مشركي مكّة، ومن لم يؤمن من اليهود والنّصارى والمجوس، أو هم العرب المتحزّبون على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، من ينكر بعض ما في القرآن الكريم لأن فيهم من كان يعترف ببعض الأنبياء، وفيهم من كان يعترف بأن الله خالق السّموات والأرض.
٦- دعوة النّبي صلّى الله عليه وسلّم الناس مقصورة على الدّعوة إلى عبادة الله وحده

صفحة رقم 187

لا شريك له، وإلى الإيمان بالبعث والحساب والجزاء لقوله تعالى: إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ أي إلى عبادته أدعو النّاس، وأرجع في أموري كلّها.
٧- كما أنزل الله تعالى الكتب على الرّسل بلغاتهم، كذلك أنزل القرآن الكريم إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم عربيّا، أي بلسان العرب. والمراد بالحكم: ما فيه من الأحكام.
وقيل: أراد بالحكم العربي: القرآن كلّه لأنه يفصل بين الحقّ والباطل ويحكم.
٨- من اتّبع أهواء المشركين في عبادة ما دون الله تعالى، وفي الاتّجاه إلى غير الكعبة، بعد أن قام الدّليل العلمي القاطع على صدق رسالة القرآن الكريم والنّبي صلّى الله عليه وسلّم، ليس له ناصر ينصره، ولا واق يمنع من عذابه.
٩- الأنبياء قاطبة بشر، يقضون ما أحلّ الله من شهوات الدّنيا، ولهم زوجات وأولاد، وإنما التّخصيص بالوحي.
١٠- آية وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً تدلّ على التّرغيب في النّكاح والحضّ عليه، وتنهى عن التّبتّل، وهو ترك النّكاح، وهذه سنّة المرسلين، كما نصّت عليه هذه الآية، والسّنّة واردة بمعناها،
قال صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه البيهقي وهو ضعيف: «تزوّجوا فإنّي مكاثر بكم الأمم»
وقال فيما رواه الطبراني عن أنس، وهو ضعيف: «من تزوّج فقد استكمل نصف الإيمان، فليتّق الله في النّصف الباقي»
، ومعنى ذلك أنّ النّكاح يعفّ عن الزّنى، والعفاف أحد الخصلتين اللتين ضمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليهما الجنّة،
فقال فيما رواه الموطأ وغيره: «من وقاه الله شرّ اثنتين، ولج الجنّة: ما بين لحييه، وما بين رجليه»
، وتقدم
حديث وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي».
١١- ليس للرّسول بإرادته أن يأتي بمعجزة خارقة للعادة، وإنّما ذلك بإذن الله ومشيئته.
١٢- لكلّ أجل كتاب، أي لكلّ أمر قضاه الله كتاب عند الله تعالى. يمحو

صفحة رقم 188

الله من ذلك الكتاب ما يشاء أن يوقعه بأهله ويأتي به، ويثبت ما يشاء، أي يؤخّره إلى وقته. وعنده أصل الكتاب الذي لا يتغيّر منه شيء، فنزول العذاب على الكفار، ونصر المؤمنين لهما وقت معيّن مخصوص.
والمحو يشمل الأقدار، والدّعاء يفيد في ردّ القدر، وقد يحرم الإنسان الرّزق بسبب ذنب يرتكبه، وقد يزداد عمره بصلة الرّحم وبرّ الأقارب. وقد تقدّم
في الصّحيحين عن أبي هريرة حديث: «من سرّه أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه».
وأصول الأشياء لا تتغيّر: وهي الخلق والخلق، والأجل والرّزق، والسّعادة والشّقاوة. والذي في علم الله ثابت لا يتبدّل، مثل قيام السّاعة، وأجل بقاء النّاس في القبور وكلّ ما كتب من الآجال وغيرها.
سئل ابن عباس عن أمّ الكتاب، فقال: علم الله ما هو خالق، وما خلقه عاملون، فقال لعلمه: كن كتابا، ولا تبديل في علم الله تعالى.
وقال عكرمة: يمحو ما يشاء بالتّوبة جميع الذّنوب، ويثبت الذّنوب حسنات، قال تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً، فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ، وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان ٢٥/ ٧٠].
والخلاصة: عقيدتنا هي أنه لا تبديل لقضاء الله تعالى، وهذا المحو والإثبات مما سبق به القضاء. والقضاء منه ما يكون واقعا محتوما، وهو الثّابت، ومنه ما يكون مصروفا بأسباب، وهو الممحو. ويكون المحوّ إما بالدّعاء أو بصلة الرّحم وبرّ الأقارب، أو بالذّنب المقترف. ويشمل المحو نسخ الشّرائع، فقد تنسخ شريعة بأخرى، كالنّسخ بالقرآن لما عداه، لمصلحة وحكمة تقتضيها، ونسخ التّوجّه إلى بيت المقدس وتحويل القبلة إلى الكعبة، ونحو ذلك.
والكلّ بقضاء الله وقدره، والأمور مرهونة بأوقاتها.

صفحة رقم 189
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية