آيات من القرآن الكريم

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ
ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀ

[سورة الرعد (١٣) : آية ٢]

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢)
[في قَوْلُهُ تَعَالَى اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ذَكَرَ عَقِيبَهُ مَا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَادِ وَهُوَ هَذِهِ الْآيَةُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : اللَّه مبتدأ والذي رفع السموات خَبَرُهُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ [الرعد: ٣] ويجوز أن يكون الذي رفع السموات صِفَةً وَقَوْلُهُ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَمَدُ الْأَسَاطِينُ وَهُوَ جَمْعُ عِمَادٍ يُقَالُ عِمَادٌ وَعُمُدٌ مِثْلُ إِهَابٍ وَأُهُبٍ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
الْعَمَدُ وَالْعُمُدُ جَمْعُ الْعَمُودِ مِثْلُ أَدِيمٍ وَأَدَمٍ وَأُدُمٍ، وَقَضِيمٍ وَقَضَمٍ وَقُضُمٍ، وَالْعِمَادُ وَالْعَمُودُ مَا يُعْمَدُ بِهِ الشَّيْءُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: فُلَانٌ عَمَدُ قَوْمِهِ إِذَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى استدل بأحوال السموات وَبِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَبِأَحْوَالِ الْأَرْضِ وَبِأَحْوَالِ النَّبَاتِ، أما الاستدلال بأحوال السموات بِغَيْرِ عَمْدٍ تَرَوْنَهَا فَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ العظيمة بقيت وافقة فِي الْجَوِّ الْعَالِي وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بَقَاؤُهَا هُنَاكَ لِأَعْيَانِهَا وَلِذَوَاتِهَا لِوَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَسَاوِيَةٌ فِي تَمَامِ الْمَاهِيَّةِ وَلَوْ وَجَبَ حُصُولُ جِسْمٍ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ حُصُولُ كُلِّ جِسْمٍ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَلَاءَ لَا نِهَايَةَ لَهُ وَالْأَحْيَازُ الْمُعْتَرِضَةُ فِي ذَلِكَ/ الْخَلَاءِ الصِّرْفِ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ وَهِيَ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةٌ وَلَوْ وَجَبَ حُصُولُ جِسْمٍ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَوَجَبَ حُصُولُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْيَازِ ضَرُورَةَ أَنَّ الْأَحْيَازَ بِأَسْرِهَا مُتَشَابِهَةٌ فَثَبَتَ أَنَّ حُصُولَ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ فِي أَحْيَازِهَا وَجِهَاتِهَا لَيْسَ أَمْرًا وَاجِبًا لِذَاتِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ مُخَصِّصٍ وَمُرَجِّحٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا بَقِيَتْ بِسِلْسِلَةٍ فَوْقَهَا وَلَا عَمَدَ تَحْتَهَا، وَإِلَّا لَعَادَ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ الْحَافِظِ وَلَزِمَ الْمُرُورُ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ وَهُوَ مُحَالٌ فَثَبَتَ أَنْ يُقَالَ الْأَجْرَامُ الْفَلَكِيَّةُ فِي أَحْيَازِهَا الْعَالِيَةِ لِأَجْلِ أَنَّ مُدَبِّرَ الْعَالَمِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ أَوْقَفَهَا هُنَاكَ.
فَهَذَا بُرْهَانٌ قَاهِرٌ عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَاهِرِ الْقَادِرِ. وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْإِلَهَ لَيْسَ بِجِسْمٍ وَلَا مُخْتَصٍّ بِحَيِّزٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ لِذَاتِهِ وَلِعَيْنِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَحْيَازَ بِأَسْرِهَا مُتَسَاوِيَةٌ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ حُصُولُهُ فِي حَيِّزٍ مُعَيَّنٍ لِذَاتِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وَكُلُّ مَا حَصَلَ بِالْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ فَهُوَ مُحْدَثٌ فَاخْتِصَاصُهُ بِالْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ مُحْدَثٌ وَذَاتُهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ الِاخْتِصَاصِ وَمَا لَا يَخْلُو عَنِ الْحَادِثِ فَهُوَ حَادِثٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاصِلًا فِي الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ لَكَانَ حَادِثًا وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ تَعَالَى مُتَعَالٍ عَنِ الْحَيِّزِ وَالْجِهَةِ، وَأَيْضًا كُلُّ مَا سَمَاكَ فَهُوَ سَمَاءٌ، فَلَوْ كَانَ تَعَالَى مَوْجُودًا فِي جِهَةٍ فَوْقِ جِهَةٍ لَكَانَ من جملة السموات فَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها فَكُلُّ مَا كَانَ مُخْتَصًّا بِجِهَةٍ فَوْقَ جِهَةٍ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى حِفْظِ الْإِلَهِ بِحُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْإِلَهُ مُنَزَّهًا عَنْ جِهَةِ فَوْقُ. أَمَّا قَوْلُهُ: تَرَوْنَها فَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ والمعنى: رفع السموات بِغَيْرِ عَمَدٍ. ثُمَّ قَالَ: تَرَوْنَها أَيْ وَأَنْتُمْ تَرَوْنَهَا أَيْ مَرْفُوعَةً بِلَا عِمَادٍ. الثَّانِي: قَالَ الْحَسَنُ فِي تَقْرِيرِ الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: رفع السموات تَرَوْنَهَا بِغَيْرِ عَمَدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُ الْكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ كَانَ الْمَصِيرُ إِلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ غَيْرَ جَائِزٍ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: تَرَوْنَها صِفَةٌ لِلْعَمَدِ، وَالْمَعْنَى: بِغَيْرِ عَمَدٍ مَرْئِيَّةٍ، أَيْ لِلسَّمَوَاتِ عَمَدٌ. وَلَكِنَّا لَا نَرَاهَا قَالُوا: ولها عمد

صفحة رقم 525

عَلَى جَبَلِ قَافٍ وَهُوَ جَبَلٌ مِنْ زَبَرْجَدٍ مُحِيطٌ بِالدُّنْيَا وَلَكِنَّكُمْ لَا تَرَوْنَهَا. وَهَذَا التَّأْوِيلُ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ لِيَكُونَ حُجَّةً عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوهُ لَمَا ثبتت الحجة لأنه يقال إن السموات لَمَّا كَانَتْ مُسْتَقِرَّةً عَلَى جَبَلِ قَافٍ فَأَيُّ دَلَالَةٍ لِثُبُوتِهَا عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ، وَعِنْدِي فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَحْسَنُ مِنَ الْكُلِّ وَهُوَ أَنَّ الْعِمَادَ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَجْسَامَ إِنَّمَا بَقِيَتْ وَاقِفَةً فِي الْجَوِّ الْعَالِي بِقُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى وَحِينَئِذٍ يَكُونُ عَمَدُهَا هُوَ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى فَنَتَجَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ رَفَعَ السَّمَاءَ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا أَيْ لَهَا عَمَدٌ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا أَنَّ تِلْكَ الْعَمَدَ هِيَ قُدْرَةُ اللَّه تَعَالَى وَحِفْظُهُ وَتَدْبِيرُهُ وَإِبْقَاؤُهُ إِيَّاهَا فِي الْجَوِّ الْعَالِي وَأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ التَّدْبِيرَ/ وَلَا يَعْرِفُونَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ الْإِمْسَاكِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ كَوْنَهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مُشَاهَدًا مَعْلُومًا وَأَنَّ أَحَدًا مَا رَأَى أَنَّهُ تَعَالَى اسْتَقَرَّ عَلَى الْعَرْشِ فَكَيْفَ يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ عَلَيْهِ وَأَيْضًا بِتَقْدِيرِ أَنْ يُشَاهَدَ كَوْنُهُ مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِ وَغَايَةِ جَلَالِهِ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى احْتِيَاجِهِ إِلَى الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ. وَأَيْضًا فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا كَانَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ ثُمَّ صَارَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّغَيُّرَ وَأَيْضًا الِاسْتِوَاءُ ضِدُّ الِاعْوِجَاجِ فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُعْوَجًّا مُضْطَرِبًا ثُمَّ صَارَ مُسْتَوِيًا وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى اللَّه مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِوَاؤُهُ عَلَى عَالَمِ الْأَجْسَامِ بِالْقَهْرِ وَالْقُدْرَةِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْحِفْظِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ فَوْقَ الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى فِي حِفْظِهِ وَفِي تَدْبِيرِهِ وَفِي الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ. وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِأَحْوَالِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: فَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ اشْتَمَلَ عَلَى نَوْعَيْنِ مِنَ الدَّلَالَةِ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْقَادِرِ الْقَاهِرِ بِحَرَكَاتِ هَذِهِ الْأَجْرَامِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ مُتَمَاثِلَةٌ فَهَذِهِ الْأَجْرَامُ قَابِلَةٌ لِلْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَاخْتِصَاصُهَا بِالْحَرَكَةِ الدَّائِمَةِ دُونَ السُّكُونِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُخَصِّصٍ. وَأَيْضًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مُخْتَصَّةٌ بِكَيْفِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْبُطْءِ وَالسُّرْعَةِ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ مُخَصِّصٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ الْحَرَكَةُ الْبَطِيئَةُ مَعْنَاهَا حَرَكَاتٌ مَخْلُوطَةٌ بِسَكَنَاتٍ وَهَذَا يُوجِبُ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَازِ وَتَسْكُنُ فِي الْبَعْضِ فَحُصُولُ الْحَرَكَةِ فِي ذَلِكَ الْحَيِّزِ الْمُعَيَّنِ وَالسُّكُونُ فِي الْحَيِّزِ الْآخَرِ لَا بُدَّ فِيهِ أَيْضًا مِنْ مُرَجِّحٍ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ تَقْدِيرَ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ وَالسَّكَنَاتِ بِمَقَادِيرَ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ عَوْدَاتُهَا وَأَدْوَارُهَا مُتَسَاوِيَةً بِحَسَبِ الْمُدَّةِ حَالَةٌ عَجِيبَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ مُقَدِّرٍ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْحَرَكَاتِ مَشْرِقِيَّةٌ وَبَعْضَهَا مَغْرِبِيَّةٌ وَبَعْضَهَا مَائِلَةٌ إِلَى الشَّمَالِ وَبَعْضَهَا مَائِلَةٌ إِلَى الْجَنُوبِ وَهَذَا أَيْضًا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِتَدْبِيرٍ كَامِلٍ وَحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ.
النَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ:
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلشَّمْسِ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ مَنْزِلًا كُلَّ يَوْمٍ لَهَا مَنْزِلٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ، ثُمَّ إِنَّهَا تَعُودُ مَرَّةً أُخْرَى إِلَى وَاحِدٍ مِنْهَا فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ أُخْرَى وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ لَهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ مَنْزِلًا، فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هَذَا. وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ/ الْكَوَاكِبِ سَيْرًا خَاصًّا إِلَى جِهَةٍ خَاصَّةٍ بِمِقْدَارٍ خَاصٍّ

صفحة رقم 526

مِنَ السُّرْعَةِ وَالْبُطْءِ وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ لَهَا بِحَسَبِ كُلِّ لَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ حَالَةٌ أُخْرَى مَا كَانَتْ حَاصِلَةً قَبْلَ ذَلِكَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُمَا مُتَحَرِّكَيْنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ هَذِهِ الْحَرَكَاتُ وَتَبْطُلُ تِلْكَ السِّيرَاتُ كَمَا وَصَفَ اللَّه تَعَالَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: ١، ٢] وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الِانْشِقَاقِ: ١]، إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الِانْفِطَارِ: ١] وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [الْقِيَامَةِ: ٩] وَهُوَ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الْأَنْعَامِ: ٢] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ قَالَ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلَ هَذَا عَلَى تَدْبِيرِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ أَحْوَالِ الْعَالَمِ وَالْأَوْلَى حَمْلُهُ عَلَى الْكُلِّ فَهُوَ يُدَبِّرُهُمْ بِالْإِيجَادِ وَالْإِعْدَامِ وَبِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَالْإِغْنَاءِ وَالْإِفْقَارِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ إِنْزَالُ الْوَحْيِ وَبَعْثَةُ الرُّسُلِ وَتَكْلِيفُ الْعِبَادِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَجِيبٌ عَلَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْعَالَمَ الْمَعْلُومَ مِنْ أَعْلَى الْعَرْشِ إِلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى أَنْوَاعٌ وَأَجْنَاسٌ لَا يُحِيطُ بِهَا إِلَّا اللَّه تَعَالَى، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ دَلَّ عَلَى أَنَّ اخْتِصَاصَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِوَضْعِهِ وَمَوْضِعِهِ وَصِفَتِهِ وَطَبِيعَتِهِ وَحِلْيَتِهِ، لَيْسَ إِلَّا مِنَ اللَّه تَعَالَى وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِتَدْبِيرِ شَيْءٍ فإنه لا يمكنه تدبير شَيْءٌ آخَرُ إِلَّا الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ أَمَّا الْعَاقِلُ فَإِنَّهُ إِذَا تَأَمَّلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلِمَ أَنَّهُ تَعَالَى يُدَبِّرُ عَالَمَ الْأَجْسَامِ وَعَالَمَ الْأَرْوَاحِ وَيُدَبِّرُ الْكَبِيرَ كَمَا يُدَبِّرُ الصَّغِيرَ فَلَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَلَا يَمْنَعُهُ تَدْبِيرٌ عَنْ تَدْبِيرٍ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ غَيْرُ مُشَابِهٍ لِلْمُحْدَثَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: يُفَصِّلُ الْآياتِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى إِلَهِيَّتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الدَّلَائِلَ الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: الْمَوْجُودَاتُ الْبَاقِيَةُ الدَّائِمَةُ كَالْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الدَّلَائِلِ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وَالثَّانِي: الْمَوْجُودَاتُ الْحَادِثَةُ الْمُتَغَيِّرَةُ، وَهِيَ الْمَوْتُ بَعْدَ الْحَيَاةِ، وَالْفَقْرُ بَعْدَ الْغِنَى، وَالْهَرَمُ بَعْدَ الصِّحَّةِ، وَكَوْنُ الْأَحْمَقِ فِي أَهْنَأِ الْعَيْشِ، وَالْعَاقِلِ الذَّكِيِّ فِي أَشَدِّ الْأَحْوَالِ، فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْأَحْوَالِ دَلَالَتُهَا عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ ظَاهِرَةٌ بَاهِرَةٌ. وَقَوْلُهُ:
يُفَصِّلُ الْآياتِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَحْدُثُ بَعْضُهَا عَقِيبَ بَعْضٍ عَلَى سَبِيلِ التَّمْيِيزِ وَالتَّفْصِيلِ.
ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَاعْلَمْ أَنَّ الدَّلَائِلَ الْمَذْكُورَةَ كَمَا تَدُلُّ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ الْحَكِيمِ فَهِيَ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَتَدْبِيرِهَا عَلَى عَظَمَتِهَا وَكَثْرَتِهَا فَلَأَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْحَشْرِ وَالنَّشْرِ كَانَ أَوْلَى
يُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّه عَلَيْهِ إِنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ/ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ دُفْعَةً وَاحِدَةً فَقَالَ كَمَا يَرْزُقُهُمُ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَكَمَا يَسْمَعُ نِدَاءَهُمْ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمُ الْآنَ دُفْعَةً وَاحِدَةً.
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا قَدَرَ عَلَى إِبْقَاءِ الْأَجْرَامِ الْفَلَكِيَّةِ وَالنَّيِّرَاتِ الْكَوْكَبِيَّةِ فِي الْجَوِّ الْعَالِي وَإِنْ كَانَ الْخَلْقُ عَاجِزِينَ عَنْهُ، وَكَمَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُدَبِّرَ من فوق العرش إلى ما تحت الثرى بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ فَكَذَلِكَ يُحَاسِبُ الْخَلْقَ بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ وَمِنَ الْأَصْحَابِ مَنْ تَمَسَّكَ بِلَفْظِ اللِّقَاءِ عَلَى رُؤْيَةِ اللَّه تَعَالَى وَقَدْ مَرَّ تَقْرِيرُهُ في هذا الكتاب مرارا وأطوارا.
تم الجزء الثامن عَشَرَ، وَيَلِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى الْجُزْءُ التاسع عشر، وأوله قوله تعالى وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ من سورة الرعد. أعان اللَّه على إكماله.

صفحة رقم 527
مفاتيح الغيب
عرض الكتاب
المؤلف
أبو عبد الله محمد بن عمر (خطيب الري) بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي
الناشر
دار إحياء التراث العربي - بيروت
سنة النشر
1420
الطبعة
الثالثة
عدد الأجزاء
1
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية