سورة الرّعد
جاء من طريق مجاهد عن ابن عباس. وعلي بن أبي طلحة أنها مكية، وروي ذلك عن سعيد بن جبير قال سعيد ابن منصور في سننه: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر قال: سألت ابن جبير عن قوله تعالى: وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ [الرعد: ٣٩] هل هو عبد الله بن سلام؟ فقال: كيف وهذه السورة مكية. وأخرج مجاهد عن ابن الزبير، وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس، ومن طريق ابن جريج. وعثمان عن عطاء عنه، وأبو الشيخ عن قتادة أنها مدنية إلا أن في رواية الأخير استثناء قوله تعالى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ [الرعد: ٣١] الآية فإنها مكية، وروي أن أولها إلى آخر وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً [الرعد: ٣١]. الآية مدني وباقيها مكي. وفي الإتقان يؤيد القول بأنها مدنية ما أخرجه الطبراني وغيره عن أنس أن قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرعد: ٨] إلى قوله سبحانه: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرعد: ١٣] نزل في قصة أربد بن قيس وعامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال:
والذي يجمع به بين الاختلاف أنها مكية إلا آيات منها، وهي ثلاث وأربعون آية في الكوفي، وأربع في المدني، وخمس في البصري، وسبع في الشامي. ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه قال فيما تقدم: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: ١٠٥] فأجمل سبحانه الآيات السماوية والأرضية ثم فصل جل شأنه ذلك هنا أتم تفصيل، وأيضا أنه تعالى قد أتى هنا مما يدل على توحيده عز وجل ما يصلح شرحا لما حكاه عن يوسف عليه السلام من قوله: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: ٣٩] وأيضا في كل من السورتين ما فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم، هذا مع اشتراك آخر تلك السورة وأول هذه فيما فيه وصف القرآن كما لا يخفى. وجاء في فضلها ما أخرجه ابن أبي شيبة. والمروزي في الجنائز أنه كان يستحب إذا حضر الميت أن يقرأ عنده سورة الرعد فإن ذلك يخفف عن الميت وأنه أهون لقبضه وأيسر لشأنه، وجاء في ذلك أخبار أخر نصوا على وضعها والله تعالى أعلم.
المر أخرج ابن جرير، وأبو الشيخ عن ابن عباس أن معنى ذلك أنا الله أعلم وأرى وهو أحد أقوال مشهورة في مثل ذلك تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ جعل غير واحد الكتاب بمعنى السورة وهو بمعنى المكتوب صادق عليها من غير اعتبار تجوز، والإشارة إلى آياتها باعتبار أنها لتلاوة بعضها والبعض الآخر في معرض التلاوة صارت كالحاضرة أو لثبوتها في اللوح أو مع الملك، والمعنى تلك الآيات السورة الكاملة العجيبة في بابها، واستفيد هذا على ما قيل من اللام، وذلك أن الإضافة بيانية فالمآل ذلك الكتاب، والخبر إذا عرف بلام الجنس أفاد المبالغة وأن هذا المحكوم عليه اكتسب من الفضيلة ما يوجب جعله نفس الجنس وأنه ليس نوعا من أنواعه. وحيث إنه في الظاهر كالممتنع أريد ذلك.
وجوز أن يكون المراد بالكتاب القرآن، وتِلْكَ إشارة إلى آيات السورة، والمعنى آيات هذه السورة آيات القرآن الذي هو الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف بذلك المعروف به من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب، والظاهر أن المراد جميعه. وجوز أن يراد به المنزل حينئذ، ورجح إرادة القرآن بأنه المتبادر من مطلق الكتاب المستغني عن النعت وبه يظهر جميع ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف وفيه بحث، وأيّا ما كان فلا محذور في حمل آيات الكتاب على تلك كما لا يخفى، وقيل: الإشارة- بتلك- إلى ما قص سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام من أنباء الرسل عليهم السلام المشار إليها في آخر السورة المتقدمة بقوله سبحانه:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ [يوسف: ١٠٢] وجوز على هذا أن يراد بالكتاب ما يشمل التوراة والإنجيل، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد. وقتادة.
وجوز ابن عطية هذا على تقدير أن تكون الإشارة إلى- المر- مرادا بها حروف المعجم أيضا وجعل ذلك مبتدأ أولا وتِلْكَ مبتدأ ثانيا وآياتُ خبره والجملة خبر الأول والرابط اشارة، وأما قوله سبحانه وتعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ فالظاهر أن الموصول فيه مبتدأ وجملة أُنْزِلَ من الفعل ومرفوعه صلته ومِنْ رَبِّكَ متعلق- بأنزل- والْحَقُّ خبر، والمراد بالموصول عند كثير القرآن كله والكلام استدراك على وصف السورة فقط بالكمال، وفي أسلوبه قول فاطمة الأنمارية وقد قيل لها: أي بنيك أفضل؟ ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل والله إنهم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها، وذلك كما أنها نفت التفاضل آخرا بإثبات الكمال لكل واحد دلالة على أن كمال كل لا يحيط به الوصف وهو إجمال بعد التفصيل لهذا الغرض، كذلك لما أثبت سبحانه لهذه السورة خصوصا الكمال استدركه بأن كل المنزل كذلك لا يختص به سورة دون أخرى للدلالة المذكورة، وهو على ما قيل معنى بديع ووجه بليغ ذكره صاحب الكشاف، وقيل: إنه لتقرير ما قبله والاستدلال عليه لأنه إذا كان كل المنزل عليه حقا فذلك المنزل أيضا حق ضرورة أنه من كل المنزل فهو كامل لأنه لا أكمل من الحق والصدق، ولخفاء أمر الاستدلال قال العلامة البيضاوي أنه كالحجة على ما قبله، ولعل الأول أولى ومع ذا لا يخلو عن خفاء أيضا، ولو قيل: المراد بالكمال فيما تقدم الكمال الراجع إلى الفصاحة والبلاغة ويكون ذلك وصفا للمشار إليه بالإعجاز من جهة ذلك، ويكون هذا وصفا له بخصوصه على تقدير أن يكون فيه وضع الظاهر موضع الضمير أو لما يشمله وغيره على تقدير أن لا يكون فيه ذلك بكونه حقا مطابقا للواقع إذ لا تستدعي الفصاحة والبلاغة الحقية كما يشهد به الرجوع إلى المقامات الحريرية لم يبعد كل البعد فتدبر.
وجوز الحوفي كون مِنْ رَبِّكَ هو الخبر والْحَقُّ خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق أو خبر بعد خبر أو كلاهما خبر واحد كما قيل في الرمان حلو حامض، وهو إعراب متكلف، وجوز أيضا كون الموصول في محل خفض عطفا على الْكِتابِ والْحَقُّ حينئذ خبر مبتدأ محذوف لا غير.
قيل: والعطف من عطف العام على الخاص أو إحدى الصفتين على الأخرى كما قالوا في قوله:
هو الملك القرم وابن الهمام البيت، وبعضهم يجعله من عطف الكل على الجزء أو من عطف أحد المترادفين على الآخر، ولكل وجهة، وإذا أريد بالكتاب ما روي عن مجاهد، وقتادة فأمر العطف ظاهر، وجوز أبو البقاء كون الَّذِي نعتا للكتاب بزيادة الواو في الصفة كما في: أتاني كتاب أبي حفص والفاروق والنازلين والطيبين، وتعقب بأن الذي ذكر في زيادة الواو للإلصاق خصه صاحب المغني بما إذا كان النعت جملة، ولم نر من ذكره في المفرد.
وأجاز الحوفي أيضا كون الموصول معطوفا على آياتُ وجعل الْحَقُّ نعتا له وهو كما ترى. ثم المقصود على تقدير أن يكون الْحَقُّ خبر مبتدأ مذكور أو محذوف قصر الحقية على المنزل لعراقته فيها وليس في ذلك ما يدل على أن ما عداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه، وساق بعض نفاة القياس هذه الآية بناء على تضمنها الحصر في معرض الاستدلال على نفي ذلك فقالوا: الحكم المستنبط بالقياس غير منزل من عند الله تعالى وإلا لكان من يحكم به كافرا لقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: ٤٤] وكل ما ليس منزلا من عند الله تعالى ليس بحق لهذه الآية لدلالتها على أن لا حق إلا ما أنزله الله تعالى، والمثبتون لذلك أبطلوا ما ذكروه في المقدمة الأولى بأن المراد بعدم الحكم الإنكار وعدم التصديق أو المراد من لم يحكم بشيء أصلا مما أنزل الله تعالى، ولا شك أنه من شأن للكفرة أو المراد بما أنزله هناك التوراة بقرينة ما قبله، ونحن غير متعبدين بها فيختص باليهود ويكون المراد الحكم بكفرهم إذ لم يحكموا بكتابهم، ونحن نقول بموجبه كما بين في شرح المواقف، وما ذكروه في المقدمة الثانية بأن المراد بالمنزل من الله تعالى ما يشمل الصريح وغيره فيدخل فيه القياس لاندراجه في حكم المقيس عليه المنزل من عنده سبحانه وقد جاء في المنزل صريحا فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: ٢] وهو دال على ما حقق في محله على حسن اتباع القياس على أنك قد علمت المقصود من الحصر.
ويحتمل أيضا على ما قيل أن يكون المراد هو الحق لا غيره من الكتب الغير المنزلة أو المنزلة إلى غيره بناء على تحريفها ونسخها، وقد يقال: إن دليلهم منقوض بالسنة والإجماع، والجواب الجواب، ولا يخفى ما في التعبير عن القرآن بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة ما لم يسم فاعله، والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام من الدلالة على فخامة المنزل وتشريف المنزل والإيماء إلى وجه بناء الخبر ما لا يخفى وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ قيل هم كفار مكة، وقيل: اليهود والنصارى والأولى أن يراد أكثرهم مطلقا لا يُؤْمِنُونَ بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم كما قال شيخ الإسلام متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على سبيل الوصف دون الاخبار اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ أي خلقهن مرتفعات على طريقة سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه سبحانه رفعها بعد إن لم تكن كذلك بِغَيْرِ عَمَدٍ أي دعائم، وهو اسم جمع عند الأكثر والمفرد عماد كاهاب وأهب يقال: عمدت الحائط أعمده عمدا إذا دعمته فاعتمد واستند، وقيل: المفرد عمود، وقد جاء أديم وأدم وقصيم وقصم، وفعيل وفعول يشتركان في كثير من الأحكام،
وقيل: إنه جمع ورجح الأول بما سنشير إليه إن شاء الله تعالى قريبا.
وقرأ أبو حيوة ويحيى بن وثاب «عمد» بضمتين، وهو جمع عماد كشهاب وشهب أو عمود كرسول ورسل ويجمعان في القلة على أعمدة، والجمع لجمع السموات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها العمد لا العماد، والجار والمجرور في موضع الحال أي رفعها خالية عن عمد تَرَوْنَها استئناف لا محل له من الإعراب جيء به للاستشهاد على كون السموات مرفوعة كذلك كأنه قيل: ما الدليل على ذلك؟ فقيل: رؤيتكم لها بغير عمد فهو كقولك: أنا بلا سيف ولا رمح تراني.
ويحتمل أن يكون الاستئناف نحويا بدون تقدير سؤال وجواب والأول أولى، وجوز أن تكون الجملة في موضع الحال من السموات أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأن المخاطبين حين رفعها لم يكونوا مخلوقين، وأيّا ما كان فالضمير المنصوب للسموات.
وجوز كون الجملة صفة للعمد فالضمير لها واستدل لذلك بقراءة أبي «ترونه» لأن الظاهر أن الضمير عليها للعمد وتذكيره حينئذ لائح الوجه لأنه اسم جمع فلوحظ أصله في الإفراد ورجوعه إلى الرفع خلاف الظاهر، وعلى تقدير الوصفية يحتمل توجه النفي إلى الصفة والموصوف على منوال: ولا ترى الضب بها ينجحر. لأنها لو كانت لها عمد كانت مرئية وهذا في المعنى كالاستئناف، ويحتمل توجه إلى الصفة فيفيد أن لها عمدا لكنها غير مرئية وروي ذلك عن مجاهد وغيره، والمراد بها قدرة الله تعالى وهو الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض، فيكون العمد على هذا استعارة. وأخرج ابن حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: السماء على أربعة أملاك كل زاوية موكل بها ملك. وزعم بعضهم أن العمد جبل قاف فإنه محيط بالأرض والسماء عليه كالقبة، وتعقبه الإمام بأنه في غاية السقوط وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يمكن أن يكون مراده في وجه ذلك، وأنا لا أرى ما قبله يصح عن ابن عباس، فالحق أن العمد قدرة الله تعالى، وهذا دليل على وجود الصانع الحكيم تعالى شأنه وذلك لأن ارتفاع السموات على سائر الأجسام المساوية لها في الجرمية كما تقرر في محله واختصاصها بما يقتضي ذلك لا بد وأن يكون لمخصص ليس بجسم ولا جسماني يرجح بعض الممكنات على بعض بإرادته.
ورجح في الكشف استئناف الجملة بأن الاستدلال برفع هذه الأجرام دون عمد كاف، والاستشهاد عليه بكونه مشاهدا محسوسا تأكيد للتحقيق، ثم لا يخفى أن الضمير المنصوب في تَرَوْنَها إذا كان راجعا إلى السموات المرفوعة اقتضى ظاهر الآية أن المرئي هو السماء. وقد صرح الفلاسفة بأن المرئي هو كرة البخار وثخنها كما قال صاحب التحفة أحد وخمسون ميلا وتسع وخمسون دقيقة، والمجموع سبعة عشر فرسخا وثلث فرسخ تقريبا، وذكروا أن سبب رؤيتها زرقاء أنها مستضيئة دائما بأشعة الكواكب وما وراءها لعدم قبوله الضوء كالمظلم بالنسبة إليها فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة بالأشعة إلى الأجزاء التي هي كالمظلم رأى الناظر ما فوقه من المظلم بما يمازجه من الضياء الأرضي والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء وهو اللون اللازوردي، وذلك كما إذا نظرنا من جسم أحمر مشف إلى جسم أخضر فإنه يظهر لنا لون مركب من الحمرة والخضرة. وأجمعوا أن السموات التي هي الأفلاك لا ترى لأنها شفافة لا لون لها لأنها لا تحجب الأبصار عن رؤية ما وراءها من الكواكب وكل ملون فإنه يحجب عن ذلك. وتعقب ذلك الإمام الرازي بأنا لا نسلم أن كل ملون حاجب فإن الماء والزجاج ملونان لأنهما مرئيان ومع ذلك لا يحجبان. فإن قيل: فيهما حجب عن الابصار الكامل قلنا: وكيف عرفتم أنكم أدركتكم هذه الكواكب إدراكا تاما انتهى، على أن ما ذكروه لا يتمشى في المحدد إذ ليس وراءه شيء حتى يرى ولا في الفلك الذي يسمونه بفلك
الثوابت أيضا إذ ليس فوقه كوكب مرئي وليس لهم أن يقولوا لو كان كل منهما ملونا لوجب رؤيته لأنا نقول جاز أن يكون لونه ضعيفا كلون الزجاج فلا يرى من بعيد ولئن سلمنا وجوب رؤية لونه قلنا: لم لا يجوز أن تكون هذه الزرقة الصافية المرئية لونه وما ذكر أولا فيها دون إثباته كرة النار وما يقال: إنها أمر يحسن في الشفاف إذا بعد عمقه كما في ماء البحر فإنه يرى أزرق متفاوت الزرقة بتفاوت قعره قربا وبعدا فالزرقة المذكورة لون يتخيل في الجو الذي بين السماء والأرض لأنه شفاف بعد عمقه لا يجدي نفعا لأن الزرقة كما تكون لونا متخيلا قد تكون أيضا لونا حقيقيا قائما بالأجساد، وما الدليل على أنها لا تحدث إلا بذلك الطريق التخيلي فجاز أن تكون تلك الزرقة المرئية لونا حقيقيا لأحد الفلكين كذا قال بعض المحققين، وأنت تعلم أنه لا مانع عند المسلمين من كون المرئي هو السماء الدنيا المسماة بفلك القمر عند الفلاسفة بل هو الذي تقتضيه الظواهر، ولا نسلم أن ما يذكرونه من طبقات الهواء مانعا، وهذه الزرقة يحتمل أن تكون لونا حقيقيا لتلك السماء صبغها الله تعالى به حسبما اقتضته حكمته، وعليه الأثريون كما قال القسطلاني، ويؤيده ظاهر ما
صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء»، وفي رواية «الأرض من ذي لهجة أصدق من أبي ذر»
ويحتمل أن يكون لونا تخيليا في طبقة من طبقات الهواء الشفاف الذي ملأ الله به ما بين السماء والأرض ويكون لها في نفسها لون حقيقي الله تعالى أعلم بكيفيته ولا بعد في أن يكون أبيض وهو الذي يقتضيه بعض الأخبار لكنا نحن نراها من وراء ذلك الهواء بهذه الكيفية كما نرى الشيء الأبيض من وراء جام أخضر أخضر، ومن وراء جام أزرق أزرق وهكذا، وجاء في بعض الآثار أن ذلك من انعكاس لون جبل قاف عليها.
وتعقب بأن جبل قاف لا وجود له، وبرهن عليه بما يرده- كما قال العلامة ابن حجر- ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من طرق أخرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منها أن وراء أرضنا بحرا محيطا ثم جيلا يقال له قاف ثم أرضا ثم بحرا ثم جبلا وهكذا حتى عد سبعا من كل، وخرج بعض أولئك عن عبد الله بن بريدة أنه جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء، وعن مجاهد مثله. ونقل صاحب حل الرموز ان له سبع شعب وأن لكل سماء منها شعبة، وفي القلب من صحة ذلك ما فيه، بل أنا أجزم بأن السماء ليست محمولة إلا على كاهل القدرة، والظاهر أنها محيطة بالأرض من سائر جهاتها كما روي عن الحسن، وفي الزرقة الاحتمالان. بقي الكلام في رؤية باقي السموات وظاهر الآية يقتضيه وأظنك لا ترى ذلك وظاهر بعض الآيات يساعدك فتحتاج إلى القول بأن الباقي وإن لم يكن مرئيا حقيقة لكنه في حكم المرئي ضرورة أنه إذا لم يكن لهذا عماد لا يتصور أن يكون لما وراءه عماد عليه بوجه من الوجوه، ويؤول هذا إلى كون المراد ترونها حقيقة أو حكما بغير عمد، وجوز أن يكون المراد ترون رفعها أي السموات جميعا بغير ذلك. وفي الكشف ما يشير إليه وإذا جعل الضمير للعمد فالأمر ظاهر فتدبر، ومن البعيد الذي لا نراه زعم بعضهم أن تَرَوْنَها خبر في اللفظ ومعناه الأمر روها وانظروا هل لها من عمد ثُمَّ اسْتَوى سبحانه استواء يليق بذاته عَلَى الْعَرْشِ وهو المحدد بلسان الفلاسفة، وقد جاء في الأخبار من عظمه ما يبهر العقول، وجعل غير واحد من الخلف الكلام استعارة تمثيلية للحفظ والتدبير، وبعضهم فسر استوى باستولى، ومذهب السلف في ذلك شهير ومع هذا قد قمنا الكلام فيه، وأيّا ما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش كما قالوا في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [البقرة: ٢٩] لأن إيجاده قبل إيجاد السموات، ولا حاجة إلى إرادة ذلك مع القول بسبق الإيجاد وحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة، نعم قال بعضهم: إنها للتراخي الرتبي لا لأن الاستواء بمعنى القصد المذكور وهو متقدم بل لأنه صفة قديمة لائقة به تعالى شأنه وهو متقدم على رفع السموات أيضا وبينهما تراخ
في الرتبة وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما كُلٌّ من الشمس والقمر يَجْرِي يسير في المنازل والدرجات لِأَجَلٍ مُسَمًّى أي وقت معين، فإن الشمس تقطع الفلك في سنة والقمر في شهر لا يختلف جرى كل منهما كما في قوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها [يس: ٣٨] وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ [يس: ٣٩] وهو المروي عن ابن عباس، وقيل: أي كل يجري لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره وهي إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [التكوير: ١، ٢] وهذا مراد مجاهد من تفسير الأجل المسمى بالدنيا، قيل: والتفسير الحق ما روي عن الحبر، وأما الثاني فلا يناسب الفصل به بين التسخير والتدبير. ثم إن غايتهما متحدة والتعبير- بكل يجري- صريح في التعدد وما للغاية إلى دون اللام، ورد بأنه إن أراد أن التعبير بذلك صريح في تعدد ذي الغاية فمسلم لكن لا يجديه نفعا، وإن أراد صراحته في تعدد الغاية فغير مسلم، واللام تجيء بمعنى إلى كما في المغني وغيره. وأنت تعلم لا يفيد أكثر من صحة التفسير الثاني فافهم، وما أشرنا إليه من المراد من كل هو الظاهر، وزعم ابن عطية أن ذكر الشمس والقمر قد تضمن ذكر الكواكب فالمراد من كل كل منهما ومما هو في معناهما من الكواكب والحق ما علمت يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي أمر العالم العلوي والسفلي، والمراد أنه سبحانه يقضي ويقدر ويتصرف في ذلك على أكمل الوجوه وإلا فالتدبير بالمعنى اللغوي لاقتضائه التفكر في دبر الأمور مما لا يصح نسبته إليه تعالى: يُفَصِّلُ الْآياتِ أي ينزلها ويبينها مفصلة، والمراد بها آيات الكتب المنزلة أو القرآن على ما هو المناسب لما قبل، أو المراد بها الدلائل المشار إليها فيما تقدم وبتفصيلها تبيينها، وقيل إحداثها على ما هو المناسب لما بعد.
والجملتان جوز أن يكونا مستأنفتين وأن يكونا حالين من ضمير اسْتَوى وسخر من تتمته بناء على أنه جيء به لتقرير معنى الاستواء وتبيينه أو جملة مفسرة له، وجوز أن يكون يُدَبِّرُ حالا من فاعل سَخَّرَ ويُفَصِّلُ حالا من فاعل يُدَبِّرُ، واللَّهُ الَّذِي إلخ على جميع التقادير مبتدأ وخبر، وجوز أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والموصول صفته وجملة يُدَبِّرُ خبره وجملة يُفَصِّلُ خبرا بعد خبر، ورجح كون ذلك مبتدأ وخبرا في الكشف بأن قوله تعالى الآتي: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ عطف عليه على سبيل التقابل بين العلويات والسفليات وفي المقابل تتعين الخبرية فكذلك في المقابل ليتوافقا، ولدلالته على أن كونه كذلك هو المقصود بالحكم لا أنه ذريعة إلى تحقيق الخبر وتعظيمه كما في الوجه الآخر، ثم قال: وهو على هذا جملة مقررة لقوله سبحانه: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وعدل عن ضمير الرب إلى الاسم المظهر الجامع لترشيح التقرير كأنه قيل: كيف لا يكون منزل من هذه أفعاله الحق الذي لا أحق منه، وفي الإتيان بالمبتدأ والخبر معرفتين ما يفيد تحقيق إن هذه الأفعال دون مشاركة لا سيما وقد جعلت صلات للموصول، وهذا أشد مناسبة للمقام من جعله وصفا مفيدا تحقيق كونه تعالى مدبرا مفصلا مع التعظيم لشأنهما كما في قول الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا | بيتا دعائمه أعز وأطول |
تقتضي خلافها لأن المعلومية عليهما والمقصود بالإفادة قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ أي لكم تتفكروا وتحققوا كمال قدرته سبحانه فتعلموا أن من قدر على ذلك قدر على الإعادة والجزاء، وحاصله أنه سبحانه فعل كل ذلك لذلك، وعلى الوجه الآخر فعل الأخيرين لذلك مع أن الكل له ثم قال: وهذا مما يرجح الوجه الأول أيضا كما يرجحه أنه ذكر تبيين الآيات وهي الرفع وما تلاه فإنه ذكرها ليستدل بها على قدرته تعالى وعلمه ولا يستدل بها إلا إذا كانت معلومة فيقتضي كونها صفة.
فإن قيل: لا بد في الصلة أن تكون معلومة سواء كانت صفة أو خبرا يقال: إذا كان ذلك صلة دل على انتساب الآيات إلى الله تعالى وإذا كان خبرا دل على انتسابها إلى موجود مبهم وهو غير كاف في الاستدلال فتأمل. وقرأ النخعي وأبو رزين. وأبان بن تغلب عن قتادة «ندبر». «نفصل» بالنون فيهما وكذا روى أبو عمرو الداني عن الحسن ووافق في «نفصل» بالنون الخفاف. وعبد الوهاب عن أبي عمرو، وهبيرة عن حفص، وقال صاحب اللوامح: جاء عن الحسن. والأعمش «نفصل» بالنون، وقال المهدوي: لم يختلف في يُدَبِّرُ وليس كما قال لما سمعت، ثم أنه تعالى لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال عز شأنه: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي بسطها طولا وعرضا، قال الأصم: البسط المد إلى ما لا يرى منتهاه، ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها، وقيل: كانت مجتمعة فدحاها من مكة من تحت البيت، وقيل: كانت مجتمعة عند بيت المقدس فدحاها وقال سبحانه لها: اذهبي كذا وكذا وهو المراد بالمد، ولا يخفى أنه خلاف ما يقتضيه المقام. واستدل بالآية على أنها مسطحة غير كرية، والفلاسفة مختلفون في ذلك فذهب فريق منهم إلى أنها ليست كرية وهؤلاء طائفتان. فواحدة تقول: إنها محدبة من فوق مسطحة من أسفل فهي كقدح كب على وجه الماء. وأخرى تقول بعكس ذلك، وذهب الأكثرون منهم إلى أنها كرية أما في الطول فلأن البلاد المتوافقة في العرض أو التي لا عرض لها كلما كانت أقرب إلى الغرب كان طلوع الشمس وسائر الكواكب عليها متأخرا بنسبة واحدة ولا يعقل ذلك إلا في الكرة، وأما في العرض فلأن السالك في الشمال كلما أوغل فيه ازداد القطب ارتفاعا عليه بحسب إيغاله فيه على نسبة واحدة بحيث يراه قريبا من سمت رأسه وكذلك تظهر له الكواكب الشمالية وتخفى عنه الكواكب الجنوبية، والسالك الواغل في الجنوب بالعكس من ذلك، وأما فيما بينهما فلتركب الأمرين. وأورد عليهم الاختلاف المشاهد في سطحها فأجابوا عنه بأن ذلك لا يقدح في أصل الكرية الحسية المعلومة بما ذكر، فإن نسبة ارتفاع أعظم الجبال على ما استقر عليه استقراؤهم وانتهت إليه آراؤهم وهو جبل دماوند فيما بين الري وطبرستان أو جبل في سرنديب إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى ذراع.
واعترض ذلك بأنه هب أن ما ذكرتم كذلك فما قولكم فيما هو مغمور في الماء؟ فإن قالوا: إذا كان الظاهر كريا فالباقي كذلك لأنها طبيعة واحدة. قلنا: فالمرجع حينئذ إلى البساطة واقتضاؤها الكرية الحقيقية ولا شك أنه يمنعها التضاريس وإن لم تظهر للحس لكونها في غاية الصغر، لكن أنت تعلم أن أرباب التعليم يكتفون بالكرية الحسية في السطح الظاهر فلا يتجه عليهم السؤال عن المغمور ولا يليق بهم الجواب بالرجوع إلى البساطة، والحق الذي لا ينكره إلا جاهل أو متجاهل أن ما ظهر منها كري حسا، ولذلك كرية الفلك تختلف أوقات الصلاة في البلاد فقد يكون الزوال ببلد ولا يكون ببلد آخر وهكذا الطلوع والغروب وغير ذلك، وكرية ما عدا ما ذكر لا يعلمها إلا الله تعالى. نعم إنها لعظم جرمها الظاهر يشاهد كل قطعة وقطر منها كأنه مسطح وهكذا كل دائرة عظيمة وبذلك يعلم أنه لا تنافي بين المد وكونها كرية. وزعم ابن عطية أن ظاهر الشريعة يقتضي أنها مسطحة وكأنه يقول بذلك وهو خلاف ما يقتضيه الدليل. وهي عندهم ثلاث طبقات الطبقة الصرفة المحيطة بالمركز ثم الطبقة الطينية ثم الطبقة المخالطة التي تتكون
فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات، والصرفة منها غير ملونة عند بعضهم، ومال ابن سينا إلى أنها ملونة، واحتج عليه بأن الأرض الموجودة عندنا وإن كانت مخلوطة بغيرها ولكنا قد نجد فيها ما يكون الغالب عليه الأرضية فلو كانت الأرض البسيطة شفافة لكان يجب أن نرى في شيء من أجزاء الأرض مما ليس متكونا تكونا معدنيا شيئا فيه اشفاف ولكان حكم الأرض في ذلك حكم الماء والهواء فإنهما وإن امتزجا إلا أنهما ما عدما الاشفاف بالكلية.
واختلف القائلون بالتلون فمنهم من قال: إن لونها هو الغبرة، ومنهم من زعم أنه السواد وزعم أن الغبرة إنما تكون إذا خالطت الأجزاء الأرضية أجزاء هوائية فبسببها ينكسر ويحصل الغبرة، وأما إذا اجتمعت تلك الأجزاء بحيث لا يخالطها كثير هوائية اشتد السواد وذلك مثل الفحم قبل أن يترمد فإن النار لا عمل لها إلا في تفريق المختلفات فهي لما حللت ما في الخشب من الهوائية واجتمعت الأجزاء الأرضية من غير أن يتخللها شيء غريب ظهر لون أجزائها وهو السواد، ثم إذا رمدته اختلطت بتلك الأجزاء أجزاء هوائية فلا جرم ابيضت مرة أخرى. والذي صح في الخبر وقد سبق إطلاق الغبراء على الأرض وهو محتمل لأن تكون سائر طبقاتها كذلك ولأن يكون وجهها الأعلى كذلك، نعم جاء في بعض الآثار أن في أسفل الأرض ترابا أبيض وما ذكر من الطبقات مما لا يصادم خبرا صحيحا في ذلك، وكونها سبع طبقات بين كل طبقة وطبقة كما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وفي كل خلق غير مسلم، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: ١٢] لا يثبته كما ستعلم إن شاء الله تعالى، والخبر في ذلك غير مسلم الصحة أيضا، ومثل ذلك فيما أرى ما روي عن كعب أنه قال لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: إن الله تعالى جعل مسيرة ما بين المشرق والمغرب خمسمائة سنة فمائة سنة في المشرق لا يسكنها شيء من الحيوان لا جن ولا انس ولا دابة وليس في ذلك شجرة ومائة سنة في المغرب كذلك وثلاثمائة سنة فيما بين المشرق والمغرب يسكنها الحيوان، وكذا ما أخرجه ابن حاتم عن عبد الله بن عمر من أن الدنيا مسيرة خمسمائة عام أربعمائة عام خراب ومائة عمران، والمقرر عند أهل الهندسة والهيئة غير هذا. فقد ذكر القدماء منهم أن محيط دائرة الأرض الموازية لدائرة نصف النهار ثمانية آلاف فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة واحدة وهي عندهم اثنان وعشرون فرسخا وتسعا فرسخ في ثلاثمائة وستين محيط الدائرة العظمى على الأرض، والمتأخرون أن ذلك ستة آلاف وثمانمائة فرسخ حاصلة من ضرب فراسخ درجة وهي عندهم تسعة عشر فرسخا إلا تسع فرسخ في المحيط المذكور، وعلى القولين التفاوت بين ما يقوله المهندسون ومن معهم وما نسب لغيرهم ممن تقدم أمر عظيم والحق في ذلك مع المهندسين.
وزعموا أن الموضع الطبيعي للأرض هو الوسط من الفلك وأنها بطبعها تقتضي أن تكون مغمورة بالماء ساكنة في حاق الوسط منه لكن لما حصل في جانب منها تلال وجبال ومواضع عالية وفي جانب آخر ضد ذلك لأسباب ستسمعها بعد إن شاء الله تعالى وكان من طبع الماء أن يسيل من المواضع العالية إلى المواضع العميقة لا جرم انكشف الجانب المشرف من الأرض وسال الماء إلى الجوانب العميقة منها. وللكواكب في زعمهم تأثير في ذلك بحسب المسامتات التي تتبدل عند حركاتها خصوصا الثوابت والأوجات والحضيضات المتغيرة في أمكنتها. وحكم أصحاب الأرصاد أن طول البر المنكشف نصف دور الأرض وعرضه أحد أرباعها إلى ناحية الشمال، وفي تعيين أي الربعين الشماليين منكشف تعذر أو تعسر كما قال صاحب التحفة، وأما ما عدا ذلك فقال الإمام: لم يقم دليل على كونه مغمورا في الماء ولكن الأشبه ذلك إذ الماء أكثر من الأرض أضعافا لأن كل عنصر يجب أن يكون بحيث لو استحال بكليته إلى عنصر آخر كان مثله، والماء يصغر حجمه عند الاستحالة أرضا ومع ذلك لو كان في بعض المواضع من الأرباع الثلاثة عمارة قليلة لا يعتد بها، وأما تحت القطبين فلا يمكن أن يكون عمارة لاشتداد البرد: وإنما حكموا بأن
المعمور الربع لأنهم لم يجدوا في أرصاد الحوادث الفلكية كالخسوفات وقرانات الكواكب التي لا اختلاف منظر لها تقدما في ساعات الواغلين في المشرق لتلك الحوادث على ساعات الواغلين في المغرب زائدا على اثنتي عشرة ساعة مستوية وهي نصف الدور لأن كل ساعة خمسة عشر جزءا من أجزاء معدل النهار تقريبا وضرب خمسة عشر في اثني عشر مائة وثمانون. ونحن نقول بوجود الخراب وانه أكثر من المعمور بكثير وأكثر المعمور شمالي ولا يوجد في الجنوب منه إلا مقدار يسير، لكنا نقول: ما زعموه سببا للانكشاف غير مسلم ونسند كون الأرض بحيث وجدت صالحة لسكنى الحيوانات وخروج النبات إلى قدرته تعالى واختياره سبحانه وإلا فمن أنصف علم أن لا سبيل للعقل إلى معرفة سبب ذلك على التحقيق وقال: إنه تعالى فعل ذلك في الأرض لمجرد مشيئته الموافقة للحكمة.
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها عن ذلك، وفواعل يكون جمع فاعل إذا كان صفة مؤنث كحائض أو صفة ما لا يعقل مذكر كجمل بازل وبوازل أو اسما جامدا أو ما جرى مجراه كحائط وحوائط وانحصار مجيئه جمعا لذلك في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء لا مطلقا، والجمع هنا في صفة ما لا يعقل، قيل: فلا حاجة إلى جعل المفرد هنا راسية صفة لجمع القلة أعني أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعني جبالا انتظامه لطائفة من جموع القلة وينزل كل منها منزلة مفردة كما قيل، على أنه لا مجال لذلك لأن جمعية كل من صيغتي الجمعين إنما هي لشمول الأفراد لا باعتبار شمول جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منهما جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل اه.
وتعقب بأنه لعل من قال: إن الرواسي هنا جمع راسية صفة أجبل لا يلتزم ما ذكر وأنه إذا صح إطلاق أجبل راسية على جبال قطر مثلا صح إطلاق الجبال على جبال جميع الأقطار من غير اعتبار جعل الجبال جمعا لجموع القلة نعم لا يصح أن يكون جبال جمع أجبل لأنه يصير حينئذ جمع الجمع وهو خلاف ما صرح به أهل اللغة. وجعل راسية صفة جبل لا أجبل والتاء فيه للمبالغة لا للتأنيث كما في- علامة- يرد عليه أن تاء المبالغة في فاعلة غير مطرد.
وقال أبو حيان: إنه غلب على الجبال وصفها بالرواسي ولذا استغنوا بالصفة عن الموصوف وجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وهو مما لا حاجة إليه لما سمعت، وأورد عليه أيضا أن الغلبة تكون بكثرة الاستعمال والكلام في صحته من أول الأمر ففيما ذكره دور، وأجيب بأن كثرة استعمال الرواسي غير جار على موصوف يكفي لمدعاه وفيه تأمل، وكذا لا حاجة إلى ما قيل: إنه جمع راسية صفة جبل مؤنث باعتبار البقعة وكل ذلك ناشىء من الغفلة عما ذكره محققو علماء العربية، هذا والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها،
وفي الخبر «لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله تعالى الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة: ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال؟ قال: نعم الحديد، فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد؟ قال: نعم النار، فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من النار؟ قال: نعم الماء فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من الماء؟ قال: نعم الهواء، فقالوا: ربنا خلقت خلقا أعظم من الهواء؟ قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله»
وأول جبل وضع على الأرض كما أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء أبو قبيس، ومجموع ما يرى عليها من الجبال مائة وسبعة وثمانون جبلا (١) وأبى الفلاسفة كون استقرار الأرض بالجبال واختلفوا في سبب ذلك فالقائلون بالكرية منهم من جعله جذب الفلك لها من جميع الجوانب فيلزم أن
تقف في الوسط كما يحكى عن صنم حديدي في بيت مغناطيسي الجوانب كلها فإنه وقف في الوسط لتساوي الجذب من كل جانب. ورد بأن الأصغر أسرع انجذابا إلى الجاذب من الأكبر فما بال المدرة لا تنجذب إلى الفلك بل تهرب عنه إلى المركز، وأيضا إن الأقرب أولى بالانجذاب من الأبعد فالمدرة المقذوفة إلى فوق أولى بالانجذاب على أصلهم فكان يجب أن لا تعود، ومنهم من جعله دفع الفلك بحركته لها من كل الجوانب كما إذا جعل شيء من التراب في قارورة كرية ثم أديرت على قطبيها إدارة سريعة فإنه يعرض وقوف التراب في وسطها لتساوي الدفع من كل جانب ورد بأن الدفع إذا كانت قوته هذه القوة فما باله لا يحس به، وأيضا ما بال هذا الدفع لا يجعل حركة الرياح والسحب إلى جهة بعينها، وأيضا ما باله لم يجعل انتقالنا إلى المغرب أسهل من انتقالنا إلى المشرق، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل كلما كان أعظم أيضا لأن اندفاع الأعظم من الدافع أبطأ من اندفاع الأصغر، وأيضا يجب أن تكون حركة الثقيل النازل ابتداء أسرع من حركته انتهاء لأنه عند الابتداء أقرب إلى الفلك، وغير القائلين بها منهم من جعلها غير متناهية من جانب السفل وسبب سكونها عندهم أنها لم يكن لها مهبط تنزل فيه، ويرد دليل تناهي الأجسام، ومنهم من قال بتناهيها وجعل السبب طفوها على الماء أما مع كون محدبها فوق ومسطحها أسفل وأما مع العكس، ورد بأن مجرد الطفو لا يقتضي السكون على أن فيه عند الفلاسفة بعد ما فيه، وذهب محققوهم إلى أن سكونها لذاتها لا لسبب منفصل، قال في المباحث المشرقية: والوجه المشترك في إبطال ما قالوا في سبب السكون أن يقال: جميع ما ذكرتموه من الجذب والدفع وغيرهما أمور عارضة وغير طبيعية ولا لازمة للماهية فيصح فرض ماهية الأرض عارية عنها فإذا قدرنا وقوع هذا الممكن فإما أن تحصل في حيز معين أولا تحصل فيه وحينئذ إما أن تحصل في كل الاحياز أو لا تحصل في شيء منها والأخيران ظاهرا الفساد فتعين الأول وهو أن تختص بحيز معين ويكون ذلك لطبعها المخصوص ويكون حينئذ سكونها في الحيز لذاتها لا لسبب منفصل، وإذا عقل ذلك فليعقل في اختصاصها بالمركز أيضا، ثم ذكر في تكون الجبال مباحث: الأول الحجر الكبير إنما يتكون لأن حرا عظيما يصادق طينا لزجا إما دفعة أو على سبيل التدريج.
وأما الارتفاع فله سبب بالذات وسبب بالعرض، أما الأول فكما إذا نقلت الريح الفاعلة للزلزلة طائفة من الأرض وجعلتها تلّا من التلال، وأما الثاني فإن يكون الطين بعد تحجره مختلف الأجزاء في الرخاوة والصلابة وتتفق مياه قوية الجري أو رياح عظيمة الهبوب فتحفر الأجزاء الرخوة وتبقي الصلبة ثم لا تزال السيول والرياح تؤثر في تلك الحفر إلى أن تغور غورا شديدا ويبقى ما تنحرف عنه شاهقا، والأشبه أن هذه المعمورة قد كانت في سالف الدهر مغمورة في البحار فحصل هناك الطين اللزج الكثير ثم حصل بعد الانكشاف (١) وتكونت الجبال، ومما يؤيد هذا الظن في كثير من الأحجار إذا كسرناها أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف ثم لما حصلت الجبال وانتقلت البحار حصل الشهوق إما لأن السيول حفرت ما بين الجبال وإما لأن ما كان من هذه المنكشفات أقوى تحجرا وأصلب طينة إذا انهد ما دونه بقي أرفع وأعلى، إلا أن هذه أمور لا تتم في مدة تفي التواريخ بضبطها. والثاني سبب عروق الطين في الجبال يحتمل أن يكون من جهة ما تفتت منها وتترب وسالت عليه المياه ورطبته أو خلطت به طينها الجيد، وأن يكون من جهة أن
القديم من طين البحر غير متفق الجوهر منه ما يقوى تحجره ومنه ما يضعف وأن يكون من جهة أنه يعرض للبحر أن يفيض قليلا قليلا على سهل وجبل فيعرض للسهل أن يصير طينا لزجا مستعدا للتحجر القوي وللجبل أن يتفتت كما إذا نقعت آجرة وترابا في الماء ثم عرضت الآجرة والطين على النار فإنه حينئذ تتفتت الآجرة ويبقى الطين متحجرا.
والثالث قد نرى بعض الجبال منضودا ساقا فساقا فيشبه أن يكون ذلك لأن طينته قد ترتبت هكذا بأن كان ساق قد ارتكم أولا ثم حدث بعده في مدة أخرى ساق آخر فارتكم وكان قد سال على كل ساق من خلاف جوهره فصار حائلا بينه وبين الساق الآخر فلما تحجرت المادة عرض للحائل أن انتثر عما بين الساقين. هذا وتعقب ما ذكروه في سبب التكون بأنه لا يخفى أن اختصاص بعض من أجزاء الأرض بالصلابة وبعض آخر منها بالرخاوة مع استواء نسبة تلك الأجزاء كلها إلى الفلكيات التي زعموا أنها المعدات لها قطعا للمجاورة والملاصقة الحاصلة بين الأجزاء الرخوة والصلبة يستدعي سببا مخصصا وعند هذا الاستدعاء يقف العقل ويحيل ذلك الاختصاص على سبب من خارج هو الفاعل المختار جل شأنه فليت شعري لم لم يفعل ذلك أولا حذفا للمؤنة. نعم لا يبعد أن يكون ذلك من أسباب تكونها بإرادة الله تعالى عند من يقول من المليين وغيرهم بالوسائط لا عند الأشاعرة إذ الكل عندهم مستند إليه سبحانه ابتداء فلا يتصور واسطة حقيقة على رأيهم وما ذكر من الأسباب أمور لا تفيد إلا ظنا ضعيفا. وحديث رؤية أجزاء الحيوانات المائية كالأصداف كذلك أيضا فإنا كثيرا ما نرى ذلك في مواضع المطر. وقد أخبرني من أثق به أنه شاهد ضفادع وقعت مع المطر، على أن ذلك لا يتم على تقدير أن يكون المكشوف من الأرض قد انكشف في مبدأ الفطرة ولم يكن مغمورا بالماء ثم انكشف، وهو مما ذهب إليه بعض محققي الفلاسفة أيضا. واعترضوا على القائلين بأن الانكشاف قد حصل بعد بأن أقوى أدلته أن حضيض الشمس في جانب الجنوب فقرب الشمس إلى الأرض هناك أكثر من جانب الشمال بقدر ثخن المتمم من ممثلها فتشتد بذلك الحرارة هناك فانجذب الماء من الشمال إلى الجنوب لأن الحرارة جذابة للرطوبة فلذا انكشف الربع الشمالي فإذا انتقل الحضيض إلى جانب الشمال انعكس الأمر. ويرد عليه أنه لو كان كذلك لكان الربع الشمالي الآخر أيضا مكشوفا إذ لا فرق بين الربعين في ذلك وفي التزام ذلك بعد على أنه لم يلتزمه أحد.
ثم إن وجود الجبال في المغمور وجودها في المعمور يستدعي أنه كان معمورا وأن الحضي إض كان في غير جهته اليوم وهو قول بأن البر لا يزال يكون بحرا والبحر لا يزال يكون برا بتبدل جهتي الأوج والحضيض فيكون المنكشف تارة جانب الشمال وأخرى جانب الجنوب وحيث إن ذلك إنما يكون على سبيل التدريج يقتضي أن نشاهد اليوم شيئا من جانب الجنوب منكشفا ومن جانب الشمال مغمورا ولا نظن وجود ذلك ولو كان لاشتهر، فإن أوج الشمس اليوم في عاشرة السرطان وحركته في كل سنة دقيقة تقريبا فيكون من الوقت الذي انتقل فيه من الجانب الشمالي إلى اليوم آلاف عديدة من السنين يغمر فيها كثير ويعمر كثير. نعم يحكى أن جزيرة قبرس كانت متصلة بالبر ثم حال البحر بينهما لكنه على تقدير ثبوته ليس مما نحن فيه ولا نسلم إن يكي دنيا مما حدث انكشافها لجواز أن تكون منكشفة من قبل، فالحق أن هذا البر بعد أن وجد لم يصر بحرا وهذا البحر المحيط بعد أن أحاط لم يصر برا وهو الذي تقتضيه الأخبار الإلهية والآثار النبوية. نعم جاء في بعض الآثار ما ظاهره أن الأرض المسكونة كانت مكشوفة في مبدأ الفطرة كأثر الياقوتة، وفي بعض آخر منها ما ظاهره أنها كانت مغمورة كخبر ابن عباس أن الله تعالى لما أراد أن يخلق الخلق أمر الريح فأبدت عن حشفة ومنها دحيت الأرض ما شاء الله تعالى في الطول والعرض فجعلت تميد فجعل عليها الجبال الرواسي، وفي التوراة ما هو نص في ذلك ففي أول سفر الخليقة منها أول ما خلق الله تعالى
السماء والأرض وكانت الأرض غامرة مستبحرة وكان هناك ظلام وكانت رياح الإله تهب على وجه الماء فشاء الله تعالى أن يكون نور فكان ثم ذكر فيه أنه لما مضى يوم ثان شاء الله تعالى أن يجتمع الماء من تحت السماء إلى موضع واحد ويظهر اليبس فكان كذلك وسمى الله سبحانه اليبس أرضا ومجتمع الماء بحارا، وفيه أيضا إن خلق النيرين كان في اليوم الثالث، وهو آب عن جعل سبب الانكشاف ما سمعت عن قرب من قرب الشمس، وما أشارت إليه هذه الآية ونطق به غيرها من الآيات من كون الجبال سببا لاستقرار الأرض وانها لولاها لمادت أمر لا يقوم على أصولنا دليل يأباه فنؤمن به وإن لم نعلم ما وجه ذلك على التحقيق، ويحتمل أن يكون وجهه أن الله تعالى خلق الأرض حسبما اقتضته حكمته صغيرة بالنسبة إلى سائر الكرات وجعل لها مقدارا من الثقل معينا ووضعها في المكان الذي وضعها فيه من الماء وأظهر منها ما أظهر وليس ذلك إلا بسبب مشيئته تعالى التابعة لحكمته سبحانه لا لأمر اقتضاه ذاتها فجعلت تميد لاضطراب أمواج البحر المحيط بها فوضع عليها من الجبال ما ثقلت به بحيث لم يبق للأمواج سلطان عليها وهذا كما يشاهد في السفن حيث يضعون فيها ما يثقلها من أحجار وغيرها لنحو ذلك، وكون نسبة ارتفاع أعظم الجبال إليها النسبة السابقة لا يضرنا في هذا المقام لأن الحجم أمر والثقل أمر آخر فقد يكون ذو الحجم الصغير أثقل من ذي الحجم الكبير بكثير، لا يقال: إن خلقها ابتداء بحيث لا تزحزحها الأمواج كان ممكنا فلم لم يفعله سبحانه وتعالى بل خلقها بحيث تحركها الأمواج ثم وضع عليها الجبال لدفع ذلك؟ لأنا نقول إنما فعل سبحانه هكذا لما فيه من الحكم التي هو جل شأنه بها أعلم، وهذا السؤال نظير أن يقال: إن خلق الإنسان ابتداء بحيث لا يؤثر فيه الجوع والعطش مثلا شيئا كان ممكنا فلم لم يفعله تعالى بل خلقه بحيث يؤثران فيه ثم خلق له ما يدفع به ذلك ليدفعه به وله نظائر بعد كثيرة، وليس ذلك إلا ناشئا عن الغفلة عما يترتب على ما صدر منه تعالى من الحكم، ولعل الحكمة فيما نحن فيه إظهار مزيد عظمته جلت عظمته للملائكة عليهم السلام فإن ذلك مما يوقظ جفن الاستعظام ألا تراهم كيف قالوا حين رأوا ما رأوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الجبال إلخ.
ويقال لمن لم يؤمن بهذا بين أنت لنا حكمة تقدم بعض الأشياء على بعض في الخلق كيفما كان التقدم وكذا حكمة خلق الإنسان ونحوه محتاجا وخلق ما يزيل احتياجه دون خلقه ابتداء على وجه لا يحتاج معه إلى شيء، فإن بين شيئا قلنا بمثله فيما نحن فيه، ثم إنا نقول: ليس حكمة خلق الجبال منحصرة في كونها أوتادا للأرض وسببا لاستقرارها بل هناك حكم كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى.
وقد ذكر الفلاسفة للجبال منافع كثيرة قالوا: إن مادة السحب والعيون والمعدنيات هي البخار فلا تتكون إلا في الجبال أو فيما يقرب منها. أما العيون فلأن الأرض إذا كانت رخوة نشفت الأبخرة عنها فلا يجتمع منها قدر يعتد به فإذن لا تجتمع إلا في الأرض الصلبة والجبال أصلب الأرضين فلا جرم كانت أقواها على حبس البخار حتى يجتمع ما يصلح أن يكون مادة للعيون، ويشبه أن يكون مستقر الجبل مملوءا ماء ويكون الجبل في حقنه الأبخرة مثل الانبيق الصلب المعد للتقطير لا يدع شيئا من البخار يتحلل وقعر الأرض التي تحته كالقرع والعيون كالأذناب التي في الأنابيق والأودية والبخار كالقوابل، ولذلك أكثر العيون إنما تنفجر من الجبال وأقلها في البراري وهو مع هذا لا يكون إلا إذا كانت الأرض صلبة، وأما إن أكثر السحب تكون في الجبال فلوجوه: أحدها أن في باطن الجبال من النداوات ما لا يكون في باطن الأرضين الرخوة، وثانيها: أن الجبال بسبب ارتفاعها أبرد فلا جرم يبقى على ظاهرها من الانداء والثلوج ما لا يبقى على ظاهر الأرضين، وثالثها: إن الأبخرة الصاعدة تكون في الجبال، وإذا ثبت ذلك ظهر أن أسباب تراكم السحب في الجبال أكثر لأن المادة فيها ظاهرا وباطنا أكثر والاحتقان أشد والسبب المحلل وهو الحر أقل، وأما
المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض (١) العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها، وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام «لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت»
على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا للمصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك.
وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات، وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا: إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الأشرف يجب أن يكون أشرف الاحياز وهو الوسط فإذن هي في الوسط وهذا من الإقناعات الضعيفة، ومع ذلك يرد عليه أنا لا نسلم شرافة النار على الأرض مطلقا فإنها إن ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور. أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك، وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض. وثالثها أن الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك، وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها، على أنا لو سلمنا الأشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرقي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو الا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والأجرام الفكلية، ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة وهم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الأجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء، والحكمة تقتضي سكون الأكبر وتحرك الأصغر، وهذا أيضا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة، وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفي ما فيه، والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وأنها فيه كبطيخة خضراء في حوض. وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه. وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما
صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت»
على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه إشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وأمن العود إليها حيث إن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه، وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجي برؤه فإن وقعت
في الزائدة هلك العليل فأكلهم من ذلك أدخل في البشرى. ومنع بعضهم صحة الأخبار الدالة على أنها ليست على الماء بلا واسطة لا سيما الخبر الطويل الذي ذكره البغوي في سورة «ن» ولم ينكر صحة الخبر في أن
أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت
إلا أنه قال: المراد بالحوت فيه حوت ما بدليل ما
رواه سلطان المحدثين البخاري «أول ما يأكله أهل الجنة زيادة كبد حوت يأكل منه سبعون ألفا»
بتنكير لفظ حوت، ونظير ذلك في صحيح مسلم حيث ذكر فيه أنه تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يكفأها الجبار بيده كما يكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة وإن ادامهم ثور ونون يأكل من زائدة كبدهما سبعون ألفا، وذكر حال الأرض فيه لا يعين مراد الخصم فإنه يجوز أن يكون الجمع بين ذلك للإشارة إلى خراب الدنيا وانقطاع أمر الاستعداد للمعاش وانصرام الحياة العنصرية المائية أما الإشارة إلى الأول فظاهر، وأما إلى الثاني فبالاستيلاء على الثور وأكل زائدة كبده فإنه عمدة عدة الحارث المهتم لأمر معاشه
وفي الخبر «كلكم حارث وكلكم همام»
وأما الإشارة إلى الثالث فبالاستيلاء على الحوت وأكل زائدة كبده أيضا فإنه حيوان عنصري مائي لا يمكن أن يحيا سويعة إذا فارق الماء، وبهذا يظهر المناسبة التامة بين ما اشتمل عليه الخبر، ولا يبعد أن يكون ظهور الحياة الدنيوية بصورة الحوت وما يحتاج إليه فيها من أسباب الحراثة الضرورية في أمر المعاش بصورة الثور وكل الصيد في جوف الفراء، ويكون ذلك من قبيل ظهور الموت في صورة الكبش الأملح في ذلك اليوم، وقال بعض العارفين في سر تخصيص الكبد: إنه بيت الدم وهو بيت الحياة ومنه تقع قسمتها في البدن إلى القلب وغيره، وبخار ذلك الدم هو النفس المعبر عنه بالروح الحيواني ففي كونه طعاما لأهل الجنة بشارة بأنهم أحياء لا يموتون. وذكر أنه يستخرج من الثور الطحال وهو في الحيوان بمنزلة الأوساخ في البدن فإنه يجتمع فيه أوساخ البدن مما يعطيه البدن من الدم الفاسد فيعطى لأهل النار يأكلونه، وكان ذلك من الثور لأنه بارد يابس كطبع الموت، وجهنم على صورة جاموس والغذاء لأهل النار من طحاله أشد مناسبة منه فلما فيه من الدمية لا يموت أهل النار ولما أنه من أوساخ البدن ومن الدم الفاسد المؤلم لا يحيون ولا ينعمون فما يزيدهم أكله إلا مرضا وسقما.
ونقل عن الغزالي والعهدة على الناقل أنه ﷺ سئل تارة ما تحت الأرض؟ فقال: الحوت وسئل أخرى فقال:
الثور،
وعنى عليه الصلاة والسلام بذلك البرجين الذين هما من البروج الاثني عشر المعلومة وقد كان كل منهما وتد الأرض وقت السؤال ولو كان الوتد إذ ذاك العقرب مثلا لقال عليه الصلاة والسلام العقرب تحت الأرض. وأنت تعلم أن ذلك بمعزل عن مقاصد الشارع صلى الله عليه وسلم، ولا يتم على ما وقفت عليه من أن الأرض على متن الثور والثور على ظهر الحوت والحوت على الماء، والقول بأن المراد أن الأرض فوق الثور باعتبار أنه وتدها حين الإخبار والثور فوق الحوت باعتبار أنه من البروج الشمالية والحوت من البروج الجنوبية والبروج الشمالية في غالب المعمورة تعد فوق البروج الجنوبية والحوت فوق الماء باعتبار أنه ليس بينه وبينه حائل يرى لا يقدم عليه الا ثور أو حمار. وبعضهم يؤول خبر الترتيب بأن المراد منه الإشارة إلى أن عمارة الأرض موقوفة على الحراثة وهي موقوفة على السعي والاضطراب وذلك الثور من مبادئ الحراثة والحوت لا يكاد يسكن عن الحركة في الماء وهي كما ترى والذي ينبغي أن يعول عليه الإيمان بما جاء عن رسول الله ﷺ إذا صح فليس وراءه عليه الصلاة والسلام حكيم، والترتيب الذي يذكره الفلاسفة لم يأتوا له ببرهان مبين وليس عندهم فيه سوى ما يفيد الظن، وحينئذ فيمكن القول بترتيب آخر. نعم لا ينبغي القول بترتيب يكذبه الحس ويأباه العقل الصريح وإن جاء مثل ذلك عن الشارع وجب تأويله كما لا يخفى (١) وذكر بعض
الفضلاء أنه لم يجىء في ترتيب الأجرام العلوية والسفلية وشرح أحوالها كما فعل الفلاسفة عن الشارع ﷺ لما أن ذلك ليس من المسائل المهمة في نظره عليه الصلاة والسلام، وليس المهم إلا التفكر فيها والاستدلال بها على وحدة الصانع وكماله جل شأنه وهو حاصل بما يحس منها، فسبحان من رفع السماء بغير عمد ومد الأرض وجعل فيها رواسي وَأَنْهاراً جمع نهر وهو مجرى الماء الفائض وتجمع أيضا على نهر ونهور وأنهر وتطلق على المياه السائلة على الأرض وضمها إلى الجبال وعلق بهما فعلا واحدا من حيث إن الجبال سبب لتكونها على ما قيل. وتعقب بأنه مبني على ما ذهب إليه بعض الفلاسفة من إن الجبال لتركبها من أحجار صلبة إذا تصاعدت إليها الأبخرة احتبست فيها وتكاملت فتنقلب مياها وربما خرقتها فخرجت، وذكر أن الذي تدل عليه الآثار أنها تنزل من السماء لكن لما كان نزولها عليها أكثر كانت كثيرا ما تخرج الأنهار منها، ويكفي هذا لتشريكهما في عامل واحد وجعلهما جملة واحدة، وكأنهم عنوا بالنزول من السماء على الجبال نزول ماء المطر من السماء التي هي أحد الأجرام العلوية عليها، والأكثرون أن النزول من السحاب، والمراد من السماء جهة العلو وهو الذي تحكم به المشاهدة، وقد أسلفنا لك ما يتعلق بذلك أول الكتاب فتذكر.
والأنهار التي جعلها الله تعالى في الأرض كثيرة، وذكر بعضهم أنها مائة وستة وتسعون نهرا (٢) وقيل: هي أكثر من ذلك، وجاء في أربعة منها أنها من الجنة،
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله ﷺ سيحان، وجيحان، والفرات، والنيل كل من أنهار الجنة»
والأولان بالألف بعد الحاء وهما نهران في أرض الأرمن فجيحان نهر المصيصة وسيحان نهر أدنه، وقول الجوهري في صحاحه جيحان نهر بالشام غلط أو أنه أراد المجاز من حيث إنه ببلاد الأرمن وهي مجاورة للشام، وهما غير سيحون وجيحون بالواو فإن سيحون نهر الهند وهو يجري من جبال بأقاصيها مما يلي العين إلى أن ينصب في البحر الحبشي مما يلي ساحل الهند، ومقدار جريه أربعمائة فرسخ، وجيحون نهر بلخ يجري من أعين إلى أن يأتي خوارزم فيتفرق بعضه في أماكن ويمضي باقيه إلى البحيرة التي عليها القرية المعروفة بالجرجانية أسفل خوارزم يجري منه إليها السفن طولها مسيرة شهر وعرضها نحو ذلك، وأما قول القاضي عياض هذه الأنهار الأربعة أكبر أنهار بلاد الإسلام فالنيل بمصر والفرات بالعراق وسيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون ببلاد خراسان فقد قال النووي: إن فيه إنكارا من أوجه. أحدها قوله: الفرات بالعراق وليست بالعراق وإنما هي فاصلة بين الشام والجزيرة. الثاني قوله: سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء مترادفة وليس كذلك بل سيحان غير سيحون وجيحان غير جيحون باتفاق الناس. والثالث قوله: ببلاد خراسان إنما سيحان وجيحان ببلاد الأرمن بقرب الشام انتهى.
وقد يجاب عن الأول بنحو ما أجيب به عن الجوهري، ولا يخفى أنه بعد زعم الترادف يصح الحكم بأنهما ببلاد خراسان كما يصح الحكم بأنهما ببلاد الأرمن، وفي كون هذه الأنهار من الجنة تأويلان: الأول أن المراد تشبيه مياهها بمياه الجنة والإخبار بامتيازها على ما عداها ومثله كثير في الكلام. والثاني ما ذكره القاضي عياض أن الإيمان عم بلادها وأن الأجسام المتغذية منها صائرة إلى الجنة وهذا ليس بشيء. ولورد إلى اعتبار التشبيه أي إنها مثل أنهار الجنة في أن المتغذين من مائها المؤمنون لكان أوجه، وقال النووي: الأصح أن الكلام على ظاهره وأن لها مادة من الجنة وهي موجودة اليوم عند أهل السنة.
ويأبى التأويل الأول ما
في صحيح مسلم أيضا من حديث الإسراء وحدث نبي الله ﷺ أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهر إن الباطنان فنهران في الجنة (١) وأما الظاهران فالفرات والنيل،
وضمير أصلها لسدرة المنتهى كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره.
والقاضي عياض قال هنا: إن هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهي في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها. وتعقبة النووي بأن ذلك ليس بلازم بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، قيل: ولعل الله تعالى يوصل مياه هاتيك الأنهار بقدرته الباهرة إلى محالها التي يشاهد خروجها منها من حيث لا يراها أحد وما ذلك على الله بعزيز، والظاهر أن المراد أصل مياهها الخارجة من محالها لا هي وما ينضم إليها من السيول وغيرها، وكأني أرى بعض الناس لا يلتزمون ذلك في جميع ما يجري في هاتيك الأنهار، وبعضهم أيضا يجعل الأخبار في هذا الشأن إشارات إلى أمور أنفسية فقط وليس مما ترتضيه الأنفس المرضية. نعم أنا لا أمنع التأويل مع بقاء الأمر آفاقيا وليس عدم اعتقاد الظاهر مما يخل بالدين كما لا يخفى على من لا تعصب عنده.
وللاخباريين في هذه الأنهار كلام طويل تمجه أسماع ذوي الألباب ولا يجري في أنهار قلوبهم ولا أراه يصلح إلا للإلقاء في البحر.
وجاء في بعض الأخبار مرفوعا «نهران مؤمنان ونهران كافران أما المؤمنان فالنيل والفرات وأما الكافران فدجلة وجيحون»
وحمل ذلك على أنه ﷺ شبه النهرين الأولين لنفعهما بسهولة بالمؤمن والنهرين الأخيرين بالكافر لعدم نفعهما كذلك أنهما إنما يخرج في الأكثر ماؤهما بآلة ومشقة وإلا فوصف ذلك بالإيمان والكفر على الحقيقة غير ظاهر، ثم إن أفضل الأنهار كما قال غير واحد النيل وباقيها على السواء. وزاد بعضهم في عداد ما هو من الجنة دجلة وروي في ذلك خبرا عن مقاتل عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وليس مما يعول عليه، والله تعالى أعلم وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلق- بجعل- في قوله تعالى: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع لكن اثنينية ذلك اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضربين وصنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك.
وقيل: المعنى خلق في الأرض من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين حين مدها ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوعت، وتعقب أنه دعوى بلا دليل مع أن الظاهر خلافه فإن النوع الناطق المحتاج إلى زوجين خلق ذكره أولا فكيف في الثمرات وتكون واحد من كل أولا كاف في التكون والوجه ما ذكر أولا، وجوز أن يتعلق الجار- بجعل- الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية الجعل.
وزعم بعضهم أن المراد بالزوجين على تقدير تعلق الجار بجعل السابق الشمس والقمر، وقيل: الليل. والنهار وكلا القولين ليس بشيء يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي يلبسه مكانه فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا، ففيه اسناد ما لمكان الشيء إليه، وفي جعل الجو مكانا للنهار تجوز لأن الزمان لا مكان له والمكان إنما هو للضوء الذي هو لازمه،
وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: ٥] بجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس، قيل: والأول أوجه وأبلغ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملهما إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض.
وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر «يغشّي» بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيما وخلق الثمرات واغشاء الليل النهار، وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه لَآياتٍ باهرة قيل: هي آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها- ففي- على معناها فإن تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها، وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك لإنسان دون الحيوان، ولا يقال: إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا
روي تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى إذ كان الله سبحانه منزها أن يوصف بصورة.
وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها، والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية.
وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكبية فرده الله تعالى بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجر لا للزرع إلى غير ذلك مُتَجاوِراتٌ أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض، وأخرج عن الحسن أنه فسر ذلك بالأهواز. وفارس. والكوفة.
والبصرة، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات، وفي بعض المصاحف «وقطعا متجاورات» بالنصب أي وجعل في الأرض قطعا وَجَنَّاتٌ أي بساتين كثيرة (١) مِنْ أَعْنابٍ أي من أشجار الكرم وَزَرْعٌ من كل نوع من أنواع الحبوب، لمراعاة أصله حيث كان مصدرا، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى إن منها شفافا لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفى، ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب. وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنات في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها، وتأخير قوله تعالى: وَنَخِيلٌ لئلا يقع بينها
وبين صفتها وهي قوله تعالى: صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ فاصلة أو يطول الفصل بين المتعاطفين، وصنوان جمع صنو وهو الفرع الذي يجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل، ومنه قيل: للعم صنو، وكسر الصاد في الجمع كالمفرد هو اللغة المشهورة وبها قرأ الجمهور، ولغة تميم وقيس صِنْوانٌ بالضم كذئب وذؤبان وبذلك قرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والسلمي. وابن مصرف، ونقله الجعبري في شرح الشاطبية عن حفص.
وقرأ الحسن، وقتادة بالفتح، وهو على ذلك اسم جمع كالسعدان لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته، وقرأ الحسن «جنات» بالنصب عطفا عند بعض على «زوجين» مفعول «جعل» و «من كل الثمرات» حينئذ حال مقدمة لا صلة «جعل» لفساد المعنى عليه أن جعل فيها زوجين حال كونه من كل الثمرات وجنات من أعناب، ولا يجب هنا تقييد المعطوف بقيد المعطوف عليه.
وزعم بعضهم أن العطف على رَواسِيَ وقال أبو حيان: الأولى إضمار فعل لبعد ما بين المتعاطفين أو بالجر عطفا على كُلِّ الثَّمَراتِ على أن يكون هو مفعولا بزيادة مِنْ في الإثبات وزَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ حالا منه، والتقدير وجعل فيها من كل الثمرات حال كونها صنفين، فلعل عدم نظم قوله تعالى: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ في هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض خلق الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها- على ما قيل- الإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع. وقرأ جمع من السبعة وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ بالجر على أن العطف على أَعْنابٍ وهو كما في الكشف من باب- متلقدا سيفا ورمحا- أو المراد أن في الجنات فرجا مزروعة بين الأشجار وإلا فلا يقال للمزرعة وحدها جنة وهذا أحسن منظرا وأنزه. وادعى أبو حيان أن في جعل الجنة من الأعناب تجوزا لأن الجنة في الحقيقة هي الأرض التي فيها الأعناب يُسْقى أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرأ أكثر السبعة بالتأنيث مراعاة للفظ وهي قراءة الحسن. وأبي جعفر، قيل: والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي بِماءٍ واحِدٍ لا اختلاف في طبعه سواء كان السقي من ماء الأمطار أو من ماء الأنهار، وقيل: إن الثاني أوفق بقوله سبحانه: وَنُفَضِّلُ أي مع وجود أسباب التشابه بمحض قدرتنا وإحساننا بَعْضَها عَلى بَعْضٍ آخر منها فِي الْأُكُلِ لمكان التأنيث، وأمال فتحة القاف حمزة والكسائي والأكل بضم الهمزة والكاف وجاء تسكينها ما يؤكل، وهو هنا الثمر والحب، وقول بعضهم:
أي في الثمر شكلا وقدرا ورائحة وطعما من باب التغليب، وقرأ حمزة والكسائي «يفضل» بالياء على بناء الفاعل ردا على يُدَبِّرُ ويُفَصِّلُ ويُغْشِي وقرأ يحيى بن يعمر وهو أول من نقط المصحف. وأبو حيوة والحلبي عن عبد الوارث بالياء على بناء المفعول ورفع «بعضها» وفيه ما لا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فصل من أحوال القطع وغيرها لَآياتٍ كثيرة عظيمة باهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعلمون على قضية عقولهم فإن من عقل هاتيك الأحوال العجيبة وخروج الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتلاصقة مع اتحاد ما تسقى به بل وسائر أسباب نموها لا يتلعثم في الجزم بأن لذلك صانعا حكيما قادرا مدبرا لها لا يعجزه شيء، وقيل: المراد أن من عقل ذلك لا يتوقف في الجزم بأن من قدر على إبداع ما ذكر قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس ولعل ما ذكرناه أولى. ثم إن الأحوال وإن كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا أنها قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونه آية- ففي- تجريدية مثلها في قوله تعالى: لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ [فصلت: ٢٨] على المشهور. وجوز أن يكون المشار إليه الأحوال الكلية، والآيات إفرادها الحادثة شيئا فشيئا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها- ففي- على معناها ومنهم من فسر الآيات بالدلالات لتبقى في على ذلك وهو كما ترى، وحيث كانت دلالة
هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق سبحانه كونها آيات بمحض التعقل كما قال أبو حيان وغيره، ولذلك- على ما قيل- لم يتعرض جل شأنه لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة إلى التفكر في ذلك أيضا، وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين، ولبعض الرجاز فيما تشير إليه الآية:
والأرض فيها عبرة للمعتبر... تخبر عن صنع مليك مقتدر
تسقى بماء واحد أشجارها... وبقعة واحدة قرارها
والشمس والهواء ليس يختلف... وأكلها مختلف لا يأتلف
لو أن ذا من عمل الطبائع... أو أنه صنعة غير صانع
لم يختلف وكان شيئا واحدا... هل يشبه الأولاد إلا الوالدا
الشمس والهواء يا معاند... والماء والتراب شيء واحد
فما الذي أوجب ذا التفاضلا... إلا حكيم لم يرده باطلا
وأخرج ابن جرير عن الحسن في هذه الآية أنه قال: هذا مثل ضربه الله تعالى لقلوب بني آدم كانت الأرض في يد الرحمن طينة واحدة فسطحها وبطحها فصارت قطعا متجاورة فينزل عليها الماء من السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرها وشجرها وتخرج نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبثها وكلتاهما تسقى بماء واحد فلو كان الماء ملحا قيل إنما استسبخت هذه من قبل الماء، كذلك الناس خلقوا من آدم عليه السلام فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب فتخشع وتخضع، وتقسو قلوب فتلهو وتسهو، ثم قال: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزيادة أو نقصان قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [الإسراء: ٨٢] اهـ قال أبو حيان وهو شبيه بكلام الصوفية وَإِنْ تَعْجَبْ أي إن يقع منك عجب يا محمد فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ بعد مشاهدة الآيات الدالة على عظيم قدرته تعالى أي فليكن عجبك من قولهم: أَإِذا كُنَّا تُراباً إلى آخره فإنه الذي ينبغي أن يتعجب منه، ورفع عجب على أنه خبر مقدم وقَوْلُهُمْ مبتدأ مؤخر، وقدم الخبر للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم أمرا عجيبا، وفي البحر أنه لا بد من تقدير صفة- لعجب- لأنه لا يتمكن المعنى بمطلق فيقدر الله تعالى أعلم فعجب أي عجب أو فعجب غريب، وإذا قدرناه موصوفا جاز أن يعرب مبتدأ للمسوغ وهو الوصف ولا يضر كون الخبر معرفة، وذلك كما قال سيبويه في- كم مالك- ان كم مبتدأ لوجود المسوغ فيه وهو الاستفهام، وفي نحو اقصد رجلا خير منه أبوه إن خير مبتدأ للمسوغ أيضا وهو العمل، ونقل أبو البقاء القول بأن عجب بمعنى معجب ثم قال:
فعلى هذا يجوز أن يرتفع قَوْلُهُمْ به. وتعقب بأنه لا يجوز ذلك لأنه لا يلزم من كون شيء بمعنى شيء أن يكون حكمه في العمل حكمه فمعجب يعمل وعجب لا يعمل، ألا ترى أن فعلا كذبح وفعلة كقبض وفعلة كغرفة بمعنى مفعول ولا يعمل عمله فلا تقول مررت برجل ذبح كبشه أو قبض ماله أو غرفة ماؤه، بمعنى مذبوح كبشه ومقبوض ماله ومغروف ماؤه وقد نصوا على أن هذه تنوب في الدلالة لا العمل عن المفعول، وحصر النحويون ما يرفع الفاعل في أشياء ولم يعدوا المصدر إذا كان بمعنى اسم الفاعل منها.
والظاهر أن أَإِذا كُنَّا إلى آخره في محل نصب مقول لقول محكي به، والاستفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار، وجوز أن يكون في محل رفع على البدلية من قَوْلُهُمْ على أنه بمعنى المقول وهو على ما قال أبو حيان: إعراب متكلف وعدول عن الظاهر، وعليه فالعجب تكلمهم بذلك وعلى الأول كلامهم ذلك، والعامل في
إِذا ما دل عليه قوله تعالى: أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو نعاد، والجديد ضد الخلق والبالي، ويقال:
ثوب جديد أي كما فرغ من عمله وهو فعيل بمعنى مفعول كأنه قطع من نسجه، وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له، وتكرير الهمزة في أَإِنَّا لتأكيد الإنكار، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم ترابا بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تنتصب إِذا بكنا لأنها مضافة إليها ولا بجديد لأن ما بعد أن لا يعمل فيما قبلها وكذا الاستفهام. ورد الأول في المغني بأن إِذا عند من يقول بأن العامل فيها شرطها وهو المشهور غير مضافة كما يقوله الجميع إذا جزمت كما في قوله:
وإذا تصبك خصاصة فتحمل قيل: فالوجه في رد ذلك أن عمله فيها موقوف على تعيين مدلولها وتعيينه ليس إلا بشرطها فيدور، ونظر فيه الشهاب بأنها عندهم بمنزلة متى وأيان غير معينة بل مبهمة كما ذكره القائلون به وبه صرح في المغني أيضا.
وقيل: معنى الآية إن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم عجيب حقيق أن يتعجب منه.
وتعقبه في البحر بأنه ليس مدلول اللفظ لأنه جعل فيه متعلق عجبه ﷺ هو قولهم في إنكار البعث وجواب الشرط هو ذلك القول فيتحد الشرط والجزاء إذ تقديره إن تعجب من إنكارهم البعث فاعجب من قولهم في إنكار البعث وهو غير صحيح. ورد بأن ذلك مما اتحد فيه الشرط والجزاء صورة وتغايرا حقيقة كما في
قوله صلى الله عليه وسلم: «من كانت هجرته إلى الله تعالى ورسوله فهجرته إلى الله تعالى ورسوله»
وقولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى وهو أبلغ في الكلام لأن معناه أنه أمر لا يكتنه كنهه ولا تدرك حقيقته وأنه أمر عظيم.
وذهب بعض إلى أن الخطاب في إِنْ تَعْجَبْ عام، والمعنى إن تعجب يا من نظر ما في هذه الآيات وعلم قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذا قدرته على البعث وهو أهون شيء عليه، وقيل: المعنى إن تجدد منك التعجب لإنكارهم البعث فاستمر عليه فإن إنكارهم ذلك من الأعاجيب، وقيل: المراد إن كنت تريد أيها المريد عجبا فهلم فإن من أعجب العجب إنكارهم البعث، واختلف القراء في الاستفهامين إذا اجتمعا في أحد عشر موضعا هذا. وفي المؤمنين. والعنكبوت. والنمل. والسجدة والواقعة. والنازعات. وبني إسرائيل في موضعين وكذا في الصافات، فقرأ نافع. والكسائي بجعل الأول استفهاما والثاني خبرا إلا في العنكبوت والنمل فعكس نافع وجمع الكسائي بين الاستفهامين في العنكبوت وأما في النمل فعلى أصله إلا أنه زاد نونا.
وقرأ ابن عامر بجعل الأول خبرا والثاني استفهاما إلا في النمل والنازعات فعكس وزاد في النمل نونا كالكسائي وإلا في الواقعة فقرأ باستفهامين وهي قراءة باقي السبعة في هذا الباب إلا ابن كثير وحفصا فإنهما قرآ في العنكبوت بالخير في الأول والاستفهام في الثاني وهم على أصولهم في اجتماع الهمزتين من تخفيف وتحقيق وفصل بين الهمزتين أُولئِكَ مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون للبعث ريثما عاينوا من آيات ربهم الكبرى ما يرشدهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وتمادوا في ذلك فإن إنكار قدرته عز وجل إنكار له سبحانه لأن الإله لا يكون عاجزا مع ما في ذلك من تكذيبه جل شأنه وتكذيب رسله المتفقون عليه عليهم السلام وَأُولئِكَ مبتدأ خبره جملة قوله تعالى: الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وفيه احتمالان: الأول أن يكون المراد وصفهم بذلك في الدنيا فهو تشبيه وتمثيل لحالهم في امتناعهم عن الإيمان وعدم الالتفات إلى الحق بحال طائفة في أعناقهم أغلال وقيود لا يمكنهم الالتفات معها كقوله:
كيف الرشاد وقد خلفت في نفر | لهم عن الرشد أغلال وأقياد |
وأورد على ذلك أن هُمْ ليس ضمير فصل لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر يكون اسما معرفة أو مثل المعرفة في أنه لا يقبل حرف التعريف كأفعل التفضيل وهذا ليس كذلك، وأجيب بأن المراد بالفصل الضمير المنفصل وأنه أتى به وجعل الخبر جملة مع أن الأصل فيه الإفراد لقصد الحصر والتخصيص المذكور كما في هو عارف.
وقال بعضهم: لعل القائل بما ذكر لا يتبع النحاة في الاشتراط المذكور كما أن الجرجاني والسهيلي جوزا ذلك إذا كان الخبر مضارعا واسم الفاعل مثله وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة التي هددوا بها على الإصرار على الكفر استهزاء وتكذيبا قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي العافية والسلامة منها، والمراد بكونها قبلها أن سؤالها قبل سؤالها أو أن سؤالها قبل انقضاء الزمان المقدر لها، وأخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هؤلاء مشركو العرب استعجلوا بالشر قبل الخير فقالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال:
٣٢] وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ جمع مثلة كسمرة وسمرات وهي العقوبة الفاضحة، وفسرها ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالعقوبة المستأصلة للعضو كقطع الاذن ونحوه سميت بها لما بين العقاب والمعاقب به من المماثلة كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٠] أو هي مأخوذة من المثال بمعنى القصاص يقال: أمثلت الرجل من صاحبه وأقصصته بمعنى واحد أو هي من المثل المضروب لعظمها.
والجملة في موضع الحال لبيان ركاكة رأيهم في الاستعجال بطريق الاستهزاء أي يستعجلونك بذلك مستهزئين بإنذارك منكرين لوقوع ما أنذرتهم إياه والحال أنه قد مضت العقوبات الفاضحة النازلة على أمثالهم من المكذبين المستهزئين. وقرأ مجاهد. والأعمش «المثلات» بفتح الميم والثاء، وعيسى بن عمرو في رواية الأعمش. وأبو بكر بضمهما وهو لغة أصلية، ويحتمل أنه أتبع فيه العين للفاء، وابن وثاب بضم الميم وسكون الثاء وهي لغة تميم، وابن مصرف بفتح الميم وسكون الثاء وهي لغة الحجازيين وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ عظيمة لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أنفسهم بالذنوب والمعاصي، والجار والمجرور في موضع الحال من الناس والعامل فيها هو العامل في صاحبها وهو مَغْفِرَةٍ أي إنه تعالى لغفور للناس مع كونهم ظالمين: قيل: وهذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة وهو جواز مغفرة الكبائر والصغائر بدون توبة لأنه سبحانه ذكر المغفرة مع الظلم أي الذنب ولا يكون معه إلا قبل التوبة لأن
التائب من الذنب كمن لا ذنب له،
وأول ذلك المعتزلة بأن المراد مغفرة الصغائر لمجتنب الكبائر أو مغفرتها لمن تاب أو المراد بالمغفرة معناها اللغوي وهو الستر بالإمهال وتأخير العقاب إلى الآخرة كأنه قيل: إنه تعالى لا يعجل للناس العقوبة وإن كانوا ظالمين بل يستر عليهم بتأخيرها. واعترض التأويل بالتخصيص بأنه تخصيص للعام من غير دليل. وأجيب بأن صفحة رقم 101
الكفر قد خص بالإجماع فيسري التخصيص إلى ذلك. وتعقب الأخير بأنه في غاية البعد لأنه كما قال الإمام لا يسمى مثله مغفرة وإلا لصح أن يقال: الكفار مغفورون. ورد بأن المغفرة حقيقتها في اللغة الستر وكونهم مغفورين بمعنى مؤخر عذابهم إلى الآخر لا محذور فيه وهو المناسب لاستعجالهم العذاب. وأجيب بأن المراد أن ذلك مخالف للظاهر ولاستعمال القرآن، وذكر العلامة الطيبي أنه يجب تأويل الآية بأحد الأوجه الثلاثة لأنها بظاهرها كالحث على الظلم لأنه سبحانه وعد المغفرة البالغة مع وجود الظلم. وتعقب ذلك في الكشف فقال: فيه نظر لأن الأسلوب يدل على أنه تعالى بليغ المغفرة لهم مع استحقاقهم لخلافها لتلبسهم بما العقاب أولى بهم عنده، والظاهر أن التأويل بناء على مذهب الاعتزال. وأما على مذهب أهل السنة فإنما يؤول لو عم الظلم الكفر، ثم قال: والتأويل بالستر والإمهال أحسن فيكون قوله تعالى: وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لتحقيق الوعيد بهم وإن كانوا تحت ستره وإمهاله، ففيه إشارة إلى أن ذلك إمهال لا إهمال. والمراد بالناس إما المعهودون وهم المستعجلون المذكورون قبل أو الجنس دلالة على كثرة الهالكين لتناولهم وأضرابهم وهذا جار على المذهبين، وكذا اختار الطيبي هذا التأويل وقال هو الوجه. والآية على وزان قوله تعالى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان: ٦] على ما ذكره الزمخشري في تفسيره وأنت قد سمعت ما له وما عليه فتدبر. واختار غير واحد إرادة الجنس من الناس وهو مراد أيضا في «شديد العقاب».
والتخصيص بالكفار غير مختار. ويؤيد ذلك ما
أخرجه ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لما نزلت هذه الآية وَإِنَّ رَبَّكَ إلخ قال رسول الله ﷺ «لولا عفو الله تعالى وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد»
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم المستعجلون كما روي عن قتادة، وكأنه إنما عبر عنهم بذلك نعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا:
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ مثل آيات موسى وعيسى عليهما السلام من قلب العصا حية وإحياء الموتى عنادا أو مكابرة وإلا ففي أدنى آية أنزلت عليه عليه الصلاة والسلام غنية وعبرة لأولي الألباب، والتعبير بالمضارع استحضارا للحال الماضية، وجوز أن يكون إشارة إلى أن ذلك القول ديدنهم، وتنوين آيَةٌ للتعظيم وجوز أن يكون للوحدة.
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار من سوء عاقبة ما نهى الله تعالى عنه كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل بما لا مزيد عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامهم الحجر بالإتيان بما اقترحوه وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ أي نبي داع إلى الحق مرشد إليه بآية تليق به وبزمانه، والتنكير للإبهام وروي هذا عن قتادة أيضا.
ومجاهد، وعليه فقوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى استئناف جوابا عن سؤال من يقول: لماذا لم يجابوا إلى المقترح فتنقطع حجتهم ولعلهم يهتدون؟ بأن ذلك أمر مدبر ببالغ العلم ونافذ القدرة لا عن الجزاف واتباع آرائهم السخاف، وجوز أن يراد بالهادي هو الله تعالى وروي ذلك عن ابن عباس. والضحاك. وابن جبير، فالتنوين فيه للتفخيم والتعظيم، وتوجيه الآية على ذلك أنهم لما أنكروا الآيات عنادا لكفرهم الناشئ عن التقليد ولم يتدبروا الآيات قيل:
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ لا هاد مثبت للإيمان في صدورهم صاد لهم عن جحودهم فإن ذلك إلى الله تعالى وحده وهو سبحانه القادر عليه، وعلى هذا قيل: يجوز أن يكون قوله سبحانه: اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف أي هو الله ويكون ذلك تفسيرا- لهاد- ويَعْلَمُ جملة مقررة لاستقلاله تعالى بالهداية كالعلة لذلك، ويجوز أن يكون جملة اللَّهُ يَعْلَمُ مقررة ويكون من باب إقامة الظاهر، مقام المضمر كأنه هو تعالى يعلم أي ذلك الهادي، والأول بعيد جدا، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، وابن جرير عن عكرمة. وأبي الضحى أن المنذر والهادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجه ذلك بأن
هادٍ عطف على مُنْذِرٌ ولِكُلِّ قَوْمٍ متعلق به قدم عليه للفاصلة. وفي ذلك دليل على عموم رسالته ﷺ وشمول دعوته، وفيه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بالجار والمجرور والنحويون في جوازه مختلفون، وقد يجعل هادٍ خبر مبتدأ مقدر أي وهو هاد أو وأنت هاد، وعلى الأول فيه التفات، وقال أبو العالية: الهادي العمل، وقال علي بن عيسى: هو السابق إلى الهدى ولكل قوم سابق سبقهم إلى الهدى. قال أبو حيان: وهذا يرجع إلى أن الهادي هو النبي لأنه الذي يسبق إلى ذلك وعن أبي صالح أنه القائد إلى الخير أو إلى الشر والكل كما ترى. وقالت الشيعة: إنه علي كرم الله تعالى وجهه ورووا في ذلك أخبارا، وذكر ذلك القشيري منا.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه والديلمي وابن عساكر عن ابن عباس قال: لما نزلت إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ الآية وضع رسول الله ﷺ يده على صدره فقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي كرم الله تعالى وجهه فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وصححه وابن عساكر أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: رسول الله ﷺ المنذر وأنا الهادي، وفي لفظ والهادي رجل من بني هاشم
- يعني نفسه..
واستدل بذلك الشيعة على خلافة علي كرم الله وجهه بعد رسول الله ﷺ بلا فصل. وأجيب بأنا لا نسلم صحة الخبر، وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار عند أهل الأثر، وليس في الآية دلالة على ما تضمنه بوجه من الوجوه، على أن قصارى ما فيه كونه كرم الله تعالى وجهه به يهتدي المهتدون بعد رسول الله ﷺ وذلك لا يستدعي إلا إثبات مرتبة الإرشاد وهو أمر والخلافة التي نقول بها أمر لا تلازم بينهما عندنا.
وقال بعضهم: إن صح الخبر يلزم القول بصحة خلافة الثلاثة رضي الله تعالى عنهم حيث دل على أنه كرم الله تعالى وجهه على الحق فيما يأتي ويذر وأنه الذي يهتدي به وهو قد بايع أولئك الخلفاء طوعا ومدحهم وأثنى عليهم خيرا ولم يطعن في خلافتهم فينبغي الاقتداء به والجري على سننه في ذلك ودون إثبات خلاف ما أظهر خرط القتاد.
وقال أبو حيان: إنه ﷺ على فرض صحة الرواية إنما جعل عليا كرم الله تعالى وجهه مثالا من علماء الأمة وهداتها إلى الدين فكأنه عليه الصلاة والسلام قال: يا علي هذا وصفك فيدخل الخلفاء الثلاث وسائر علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم بل وسائر علماء الأمة، وعليه فيكون معنى الآية إنما أنت منذر ولكل قوم في القديم والحديث إلى ما شاء الله تعالى هداة دعاة إلى الخير اه وظاهره أنه لم يحمل تقديم المعمول في خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على الحصر الحقيقي وحينئذ لا مانع من القول بكثرة من يهتدي به، ويؤيد عدم الحصر ما جاء عندنا من
قوله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»
وأخبار أخر متضمنة لإثبات من يهتدي به غير علي كرم الله تعالى وجهه، وأنا أظنك لا تلتفت إلى التأويل ولا تعبأ بما قيل وتكتفي بمنع صحة الخبر وتقول ليس في الآية مما يدل عليه عين ولا أثر هذا، وما يحتمل أن تكون مصدرية أي يعلم حمل كل أنثى من أي الإناث كانت، والحمل على هذا بمعنى المحمول، وأن تكون موصولة والعائد محذوف أي الذي تحمله في بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لا بعد تكامل الخلق فقط، وجوز أن تكون نكرة موصوفة ويَعْلَمُ قيل متعدية إلى واحد فهي عرفانية، ونظر فيه بأن المعرفة لا يصح استعمالها في علم الله تعالى وهو ناشئ من عدم المعرفة بتحقيق ذلك وقد تقدم، وجوز أن تكون استفهامية معلقة- ليعلم- وهي مبتدأ أو مفعول مقدم والجملة سادة مسد المفعولين، أي يعلم أي شيء تحمل وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردة عليه طورا فطورا، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر المتبادر، وكما جوز في «ما» هذه هذه الأوجه جوزت في ما بعدها أيضا، ووجه مناسبة الآية لما قبلها قد علم مما سبق، وقيل: وجهها أنه لما تقدم إنكارهم البعث
وكان من شبههم تفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها نبه سبحانه بهذه الآية على إحاطة علمه جل شأنه إزاحة لشبهتهم وقيل: وجهها أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه عز وجل على إحاطة علمه تعالى ليفيد أنه جلت حكمته إنما ينزل العذاب حسبما يعلم من المصلحة والحكمة، وفي مصحف أبي ومر ما قيل في نظيره ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ [فاطر: ١١، فصلت: ٤٧] وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ أي ما تنقصه وما تزداده في الجثة كالخديج والتام وروي ذلك عن ابن عباس، وفي المدة كالمولود في أقل مدة الحمل والمولود في أكثرها وفيما بينهما وهو رواية أخرى عن الحبر، قيل: إن الضحاك ولد لسنتين، وإن هرم (١)
بن حيان لأربع ومن ذلك سمي هرما، وإلى كون أقصى مدة الحمل أربع سنين ذهب الشافعي، وعند مالك أقصاها خمس، وعند الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أقصاها سنتان وهو المروي عن عائشة رضي الله عنها، فقد أخرج ابن جرير عنها لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما تتحرك فلكة مغزل، وفي العدد كالواحد فما فوق، قيل: ونهاية ما عرف أربعة فإنه يروى أن شريك (٢)
بن عبد الله بن أبي نمير القرشي كان رابع أربعة وهو الذي وقف عليه إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه، وقال الشافعي عليه الرحمة: أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة وهذا من النوادر، وقد اتفق مثله لكن ما زاد على اثنين لضعفه لا يعيش إلا نادرا.
وما يحكى أنه ولد لبعضهم أربعون في بطن واحدة كل منهم مثل الإصبع وأنهم عاشوا كلهم فالظاهر أنه كذب، وقيل: المراد نقصان دم الحيض وازدياده وروي ذلك عن جماعة، وفيه جعل الدم في الرحم كالماء في الأرض يغيض تارة ويظهر أخرى، وغاض جاء متعديا ولازما كنقص وكذا ازداد وهو مما اتفق عليه أهل اللغة، فإن جعلتهما لازمين لا يجوز أن تكون «ما» موصولة أو موصوفة لعدم العائد، وإسناد الفعلين كيفما كانا إلى الأرحام فإنهما على اللزوم لما فيها وعلى التعدي لله جل شأنه وعظم سلطانه وَكُلُّ شَيْءٍ من الأشياء عِنْدَهُ سبحانه بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه ولا ينقص عنه كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر: ٤٩] فإن كل حادث من الأعراض والجواهر له في كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه ولعل حال المعدوم معلوم بالدلالة إذا قلنا: إن الشيء هو الموجود وعند ظرف متعلق بمحذوف وقع صفة لشيء أو لكل وبِمِقْدارٍ خبر كُلُّ وجوز أن يكون الظرف متعلقا بمحذوف وقع حالا من- مقدار- وهو في الأصل صفة له لكنه لما قدم أعرب حالا وفاء بالقاعدة وأن يكون ظرفا لما يتعلق به الجار، والمراد بالعندية الحضور العلمي بل العلم الحضوري على ما قيل، فإن تحقق الأشياء في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتب الوجود والاستعداد لذلك علم بالنسبة إليه تعالى، وقيل: معنى عنده في حكمه عالِمُ الْغَيْبِ أي الغائب عن الحس وَالشَّهادَةِ أي الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الغيب السر والشهادة العلانية، وقيل: الأول المعدوم والثاني الموجود ونقل عن بعضهم أنه قال: إنه سبحانه لا يعلم الغيب على معنى أن لا غيب بالنسبة إليه جل شأنه والمعدومات مشهودة له تعالى بناء على القول برؤية المعدوم كما برهن عليه الكوراني في رسالة ألفها لذلك، ولا يخفى ما في ذلك من مزيد الجسارة على الله تعالى والمصادمة لقوله جل شأنه: عالِمُ الْغَيْبِ ولا ينبغي لمسلم أن يتفوه بمثل هذه الكلمة التي تقشعر من سماعها أبدان المؤمنين نسأل الله تعالى أن يوفقنا للوقوف عند حدنا ويمن علينا بحسن الأدب معه سبحانه،
(٢) ويعد من التابعين اه منه.
ورفع عالِمُ على أنه خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «عالم» بالنصب على المدح، وهذا الكلام كالدليل على ما قبله من قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ إلخ.
الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي كل شيء دونه الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء في ذاته وعلمه وسائر صفاته سبحانه، وجوز أن يكون المعنى الكبير الذي يجل عما نعته به الخلق من صفات المخلوقين ويتعالى عنه، فعلى الأول المراد تنزيهه سبحانه في ذاته وصفاته عن مداناة شيء منه وعلى هذا المراد تنزيهه تعالى عما وصفه الكفرة به فهو رد لهم كقوله جل شأنه: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون: ٩١، الصافات: ١٥٩] قال العلامة الطيبي: إن معنى الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ بالنسبة إلى مردوفه وهو عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ
هو العظيم الشأن الذي يكبر عن صفات المخلوقين ليضم مع العلم العظمة والقدرة بالنظر إلى ما سبق من قوله تعالى ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى إلى آخر ما يعيد التنزيه عما يزعمه النصارى والمشركون ورفع الْكَبِيرُ على انه خبر بعد أن يكون عالِمُ مبتدأ وهو خبره سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ أخفاه في نفسه ولم يتلفظ به، وقيل: تلفظ به بحيث لم يسمع نفسه دون غيره وَمَنْ جَهَرَ بِهِ من يقابل ذلك بالمعنيين وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ مبالغ في الاختفاء كأنه مختف بِاللَّيْلِ وطالب للزيادة وَسارِبٌ بِالنَّهارِ أي ظاهر فيه كما روي عن ابن عباس، وهو على ما قال جمع في الأصل اسم فاعل من سرب إذا ذهب في سربه أي طريقه، ويكون بمعنى تصرف كيف شاء قال الشاعر:
إني سربت وكنت غير سروب | وتقرب الأحلام غير قريب |
وكل أناس قاربوا قيد فحلهم | ونحن خلعنا قيده فهو سارب |
تعال فإن عاهدتني لا تخونني | نكن مثل من يا ذئب يصطحبان |
ولقد أمر على اللئيم يسبني فهو والأول سواء لكن الأول نص، وإن أريد المعهود حقيقة أو تقديرا لزم إيهام خلاف المقصود لما مر، وقيل:
في الكلام موصول محذوف والتقدير ومن هو سارب كقول أبي فراس:
فليت الذي بيني وبينك عامر... وبيني وبين العالمين خراب
وقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
وهو ضعيف جدا لما فيه من حذف الموصول مع صدر الصلة، وقد ادعى الزمخشري أن أحد الحذفين سائغ لكن اجتماعهما منكر من المنكرات بخلاف البيتين، وقال أبو حيان: إن حذف من هنا وإن كان للعلم به لا يجوز (١)
عند البصريين ويجوز عند الكوفيين، وزعم بعضهم أن المقصود استواء الحالتين سواء كانتا لواحد أو لاثنين، والمعنى سواء استخفاؤه وسروبه بالنسبة إلى علم الله تعالى فلا حاجة إلى توجيه الآية بما مر، وكذا حال ما تقدمه فعبر بأسلوبين والمقصود واحد.
وتعقب بأنه لا تساعده العربية لأن مَنْ لا تكون مصدرية ولا سابك في الكلام. وزعم ابن عطية جواز أن تكون الآية متضمنة ثلاثة أصناف فالذي يسر طرف والذي يجهر طرف مضاد للأول والثالث متلون يعصى بالليل مستخفيا ويظهر البراءة بالنهار وهو كما ترى. ومن الغريب ما نقل عن الأخفش وقطرب تفسير المستخفي بالظاهر فإنه وإن كان موجودا في كلامهم بهذا المعنى لكن يمنع عنه في الآية ما يمنع، ثم إن في بيان علمه تعالى بما ذكر بعد بيان شمول علمه سبحانه الأشياء كلها ما لا يخفى من الاعتناء بذلك.
لَهُ الضمير راجع إلى من تقدم ممن أسر بالقول وجهر به إلى آخره باعتبار تأويله بالمذكور وإجرائه مجرى اسم الإشارة وكذا المذكورة بعده مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه وكلاءته جمع معقبة من عقب مبالغة في عقبه إذا جاء على عقبة وأصله من العقب وهو مؤخر الرجل ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة كأن أحدهم يطأ عقب الآخر، فالتفعيل للتكثير وهو إما في الفاعل أو في الفعل لا للتعدية لأن ثلاثيه متعد بنفسه، ويجوز أن يكون إطلاق المعقبات على الملائكة عليهم السلام باعتبار أنهم يعقبون أقوال الشخص وأفعاله أي يتبعونها ويحفظونها بالكتابة. وقال الزمخشري: إن أصله معتقبات فهو من باب الافتعال فادغمت التاء في القاف كقوله تعالى: وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ [التوبة:
٩٠] أي المعتذرون. وتعقب بأنه وهم فاحش فإن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين، وقد نص الصرفيون على أن القاف والكاف كل منهما لا يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما، والتاء في معقبة للمبالغة كتاء- نسابة- لأن الملائكة عليهم السلام غير مؤنثين، وقيل: هي للتأنيث بمعنى أن معقبة صفة جماعة منهم، فمعنى معقبات جماعات كل جماعة منها معقبة وليس معقبة جمع معقب، وذكر الطبري أنه جمعه وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات وهو كما ترى لكن أوله أبو حيان بأنه أراد بقوله: جمع معقب أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب فصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد وتشبيه ذلك بما ذكر من حيث المعنى لا من حيث صناعة النحو، فبين أن معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع وإن معقبات من حيث استعمل جمعا لمعقبة المستعمل في الجمع كرجالات الذي هو جمع رجال.
وقرأ أبي وإبراهيم «معاقيب» وهو جمع كما قال الزمخشري جمع معقب أو معقبة بتشديد القاف فيهما والياء عوض من حذف إحدى القافين في التكسير، وقال ابن جني: إنه تكسير معقب كمطعم ومطاعيم ومقدم ومقاديم كأنه جمع على معاقبة ثم حذفت الهاء من الجمع وعوضت الياء عنها ولعله الأظهر، وقرئ «معتقبات» من اعتقب مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ متعلق بمحذوف وقع صفة لمعقبات أو حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا له، فالمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه أو هو متعلق بمعقبات ومِنْ لابتداء الغاية، فالمعنى أن المعقبات تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال أي تحفظ جميع أعماله، وجوز أن يكون متعلقا بقوله تعالى: يَحْفَظُونَهُ والجملة صفة معقبات أو حال (١)
من الضمير في الظرف.
وقرأ أبي «من بين يديه ورقيب من خلفه» وابن عباس «ورقباء من خلفه» وروى مجاهد عنه أنه قرأ «له معقبات من خلفه ورقيب من بين يديه يحفظونه» مِنْ أَمْرِ اللَّهِ متعلق بما عنده ومِنْ للسببية أي يحفظونه من المضار بسبب أمر الله تعالى لهم بذلك، ويؤيد ذلك أن عليا كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وزيد بن علي. وجعفر بن محمد. وعكرمة رضي الله تعالى عنهم قرؤوا «بأمر الله» بالباء وهي ظاهرة في السببية.
وجوز أن يتعلق بذلك أيضا لكن على معنى يحفظونه من بأسه تعالى متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له أي يحفظونه باستدعائهم من الله تعالى أن يمهله ويؤخر عقابه ليتوب أو يطلبون من الله تعالى أن يغفر له ولا يعذبه أصلا، وقال في البحر: إن معنى الكلام يصير على هذا الوجه إلى التضمين أي يدعون له بالحفظ من نقمات الله تعالى.
وقال الفراء وجماعة: في الكلام تقديم وتأخير أي له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وروي هذا عن مجاهد. والنخعي. وابن جريج فيكون مِنْ أَمْرِ اللَّهِ متعلقا بمحذوف وقع صفة لمعقبات أي كائنة من أمره تعالى، وقيل: إنه لا يحتاج في هذا المعنى إلى دعوى تقديم وتأخير بأن يقال: إنه سبحانه وصف المعقبات بثلاث صفات. احداها كونها كائنة من بين يديه ومن خلفه. وثانيتها كونها حافظة له. وثالثتها كونها كائنة من أمره سبحانه، وإن جعل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ متعلقا- بيحفظونه- يكون هناك صفتان الجملة والجار والمجرور، وتقديم الوصف بالجملة على الوصف به سائغ شائع في الفصيح، وكأن الوصف بالجملة الدالة على الديمومة في الحفظ لكونه آكد قدم على الوصف الآخر. وأخرج ابن أبي حاتم. وابن جرير. وأبو الشيخ عن ابن عباس أن المراد بالمعقبات الحرس الذين يتخذهم الأمراء لحفظهم من القتل ونحوه، وروي مثله عن عكرمة، ومعنى يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أنهم يحفظونه من قضاء الله تعالى وقدره ويدفعون عنه ذلك في توهمه لجهله بالله تعالى. ويجوز أن يكون من باب الاستعارة التهكمية على حد ما اشتهر في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، الانشقاق: ٢٤] فهو مستعار لضده وحقيقته لا يحفظونه. وعلى ذلك يخرج قول بعضهم: إن المراد لا يحفظونه لا على أن هناك نفيا مقدرا كما يتوهم، والأكثرون على أن المراد بالمعقبات الملائكة.
وفي الصحيح «يتعاقب فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر»
وذكروا أن مع العبد غير الملائكة الكرام الكاتبين ملائكة حفظة،
فقد أخرج أبو داود. وابن المنذر وابن أبي الدنيا. وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: لكل عبد حفظة يحفظونه لا يخر عليه حائط أو يتردى في بئر أو تصيبه دابة حتى إذا جاء القدر الذي قدر له خلت عنه الحفظة فأصابه ما شاء الله تعالى أن يصيبه.
وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني والصابوني عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ «وكل بالمؤمن (١)
ثلاثمائة وستون ملكا يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل من الذباب في اليوم الصائف وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كلهم باسط يديه فاغر فاه وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».
وأخرج ابن جرير عن كنانة العدوي قال: دخل عثمان رضي الله تعالى عنه على رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله أخبرني عن العبد كم معه من ملك؟ فقال: ملك عن يمينك على حسناتك وهو أمير على الذي على الشمال إذا عملت حسنة كتبت عشرا فإذا عملت سيئة قال الذي على الشمال للذي على اليمين: أأكتب؟ قال: لا لعله يستغفر الله تعالى ويتوب فإذا قال ثلاثا قال: نعم اكتب أراحنا الله تعالى منه فبئس القرين ما أقل مراقبته لله سبحانه وأقل استحياءه منه تعالى يقول الله جل وعلا: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: ١٨] وملكان من بين يديك وملكان من خلفك يقول الله تعالى: لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وملك قابض على ناصيتك فإذا تواضعت لله تعالى رفعك وإذا تجبرت على الله تعالى قصمك وملك قائم على فيك لا يدع أن تدخل الحية فيه وملكان على عينك فهؤلاء عشرة أملاك ينزلون على كل بني آدم في النهار وينزل مثلهم في الليل».
والاخبار في هذا الباب كثيرة. واستشكل أمر الحفظ بأن المقدر لا بد من أن يكون وغير المقدر لا يكون بدا فالحفظ من أي شيء. وأجيب بأن من القضاء والقدر ما هو معلق فيكون الحفظ منه ولهذا حسن تعاطي لأسباب وإلا فمثل ذلك وارد فيها بأن يقال: إن الأمر الذي نريد أن نتعاطاه إما أن يكون مقدرا وجوده فلا بد أن يكون أو مقدرا عدمه فلا بد أن لا يكون فما الفائدة في تعاطيه والتشبث بأسبابه؟. وتعقب هذا أن ما ذكر إنما حسن منا لجهلنا بأن ما نطلبه من المعلق أو من غيره والمسألة المستشكلة ليست كذلك، وأنت تعلم أن الله تعالى جعل في المحسوسات أسبابا محسوسة وربط بها مسبباتها حسبما تقتضيه حكمته الباهرة ولو شاء لأوجد المسببات من غير أسباب لفناه جل شأنه الذاتي ولا مانع من أن يجعل في الأمور الغير المحسوسة أسبابا يربط بها المسببات كذلك، وحينئذ يقال: إنه جلت عظمته جعل أولئك الحفظة أسبابا للحفظ كما جعل في المحسوس نحو الجفن للعين سببا لحفظها مع أنه ليس سببا إلا للحفظ مما لم يبرم من قضائه وقدره جل جلاله، والوقوف على الحكم بأعيانها مما لم نكلف به، والعلم بأن أفعاله تعالى لا تخلو عن الحكم والمصالح على الإجمال مما يكفي المؤمن، ويقال نحو هذا في أمر الكرام الكاتبين فهم موجودون بالنص وقد جعلهم الله تعالى حفظة لأعمال العبد كاتبين لها ونحن نؤمن بذلك وإن لم نعلم ما قلمهم وما مدادهم وما قرطاسهم وكيف كتابتهم وأين محلهم وما حكمة ذلك مع أن علمه تعالى كاف في الثواب والعقاب عليها وكذا تذكر الإنسان لها وعلمه بها يوم القيامة كاف في دفع ما عسى أن يختلج في صدره عند معاينة ما يترتب عليها، ومن الناس من خاض في بيان الحكمة وهو أسهل من بيان ما معها.
وذكر الإمام الرازي في جواب السؤال عن فائدة جعل الملائكة عليهم السلام موكلين علينا كلاما طويلا فقال:
اعلم أن ذلك غير مستبعد لأن المنجمين اتفقوا على أن التدبير في كل يوم لكوكب على حدة وكذا القول في كل ليلة، ولا شك أن لتلك الكواكب أرواحا عندهم فتلك التدبيرات المختلفة لتلك الأرواح في الحقيقة، وكذا القول في تدبير الهيلاج والكدخداه على ما يقولون. وأما أصحاب الطلسمات فهذا الكلام مشهور على ألسنتهم فإنهم يقولون:
أخبرنا الطباع التام بكذا، ومرادهم به أن لكل إنسان روحا فلكية تتولى صلاح مهماته ودفع بلياته وآفاته، وإذا كان هذا متفقا عليه بين قدماء الفلاسفة وأصحاب الأحكام فكيف يستبعد مجيئه في الشرع.
وتمام التحقيق فيه أن الأرواح البشرية مختلفة في جواهرها وطبائعها فبعضها خيرة وبعضها شريرة وبعضها حرة وبعضها نذلة وبعضها قوية القهر وبعضها ضعيفته، وكما أن الأمر في الأرواح البشرية كذلك فكذلك القول في الأرواح الفلكية، ولا شك أن الأرواح الفلكية في كل باب وصفة أقوى من الأرواح البشرية، وكل طائفة من الأرواح البشرية تكون متشاركة في طبيعة خاصة وصفة مخصوصة وتكون في مرتبة روح من الأرواح الفلكية مشاكلة لها في الطبيعة والخاصية، فتكون تلك الأرواح البشرية كأنها أولاد لذلك الروح الفلكي وإذا كان الأمر كذلك فإن ذلك الروح الفلكي يكون معينا على مهماتها ومرشدا لها إلى مصالحها وعاصما إياها عن صنوف الآفات، وهذا كلام ذكره محققو الفلاسفة، وبذلك يعلم أن ما وردت به الشريعة أمر مقبول عند الكل فلا يمكن استنكاره اه.
ولعل مقصوده بذلك تنظير أمر الحفظة مع العبد بأمر الأرواح الفلكية معه على زعم الفلاسفة في الجملة، وإلا فما يقوله المسلمون في أمرهم أمر وما يقوله الفلاسفة في أمر تلك الأرواح أمر آخر وهيهات هيهات أن نقول بما قالوا فإنه بعيد عما جاء عن الشارع عليه الصلاة والسلام بمراحل، ثم ذكر عليه الرحمة من فوائد الحفظة للأعمال أن العبد إذا علم أن الملائكة عليهم السلام يحضرونه ويحصون عليه أعماله وهم- هم- كان أقرب إلى الحذر عن ارتكاب المعاصي، كمن يكون بين يدي أناس أجلاء من خدام الملك موكلين عليه فإنه لا يكاد يحاول معصية بينهم، وقد ذكر ذلك غيره ولا يخلو عن حسن، ثم نقل عن المتكلمين في فائدة الصحف المكتوبة أنها وزنها يوم القيامة فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ، ويظهر كل من الأمرين للخلائق.
وتعقبه القاضي بأن ذلك بعيد لأن الأدلة قد دلت على أن كل واحد قبل مماته عند المعاينة يعلم أنه من السعداء أو من الأشقياء والعياذ بالله تعالى فلا يجوز توقف حصول المعرفة على الميزان، ثم أجاب بأنه لا يمتنع أيضا ما ذكرناه لأمر يرجع إلى حصول سرور العبد عند الخلق العظيم بظهور أنه من أولياء الله تعالى لهم وحصول ضد ذلك لمن كان من أعداء الله تعالى، ولا يخفى أن هذا مبني على أن الذي يوزن هو الصحف وهو أحد أقوال في المسألة. نعم ذهب إليه جمع من الأجلّة لحديث البطاقة والسجلات المشهور، وكذا على أن الكتابة على معناها الظاهر وهو الذي ذهب إليه أهل الحديث بل وغيرهم فيما أعلم ونقل (١)
عن حكماء الإسلام معنى آخر فقال: إن الكتابة عبارة عن نقوش مخصوصة وضعت بالاصطلاح لتعريف بعض المعاني المخصوصة فلو قدرنا كون تلك النقوش دالة على تلك المعاني بأعيانها وذواتها كانت تلك الكتابة أقوى وأكمل، وحينئذ نقول: إن الإنسان إذا أتى بعمل من الأعمال مرات كثيرة متوالية حصل في نفسه بسبب ذلك ملكة قوية راسخة، فإن كانت تلك الملكة ملكة في أعمال نافعة في السعادات الروحانية عظم ابتهاجه بعد الموت، وإن كانت تلك الملكة ملكة ضارة في الأحوال الروحانية عظم تضرره بها بعد، ثم قال: إذا ثبت هذا فنقول: إن التكرير الكثير إن كان سببا لحصول تلك الملكة الراسخة كان لكل واحد من تلك الأعمال أثر في حصول تلك الملكة، وذلك الأثر وإن كان غير محسوس إلا أنه حاصل في الحقيقة، وإذا عرف هذا ظهر أنه لا يحصل للإنسان لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويحصل منه في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو آثار
الشقاوة قل أو كثر، وهذا هو المراد من كتب الأعمال عند حكماء الإسلام والله تعالى العالم بحقائق الأمور انتهى، وقد رأيت ذلك لبعض الصوفية.
وأنت تعلم أنه خلاف ما نطقت به الآيات والأخبار، ونحن في أمثال هذه الأمور لا نعدل عن الظاهر ما أمكن، والحق أبلج وما بعد الحق إلا الضلال هذا. ومن الناس من جعل ضمير «له» لمن الأخير والأول أولى، ومنهم من جعله لله تعالى وما بعده- لمن- وفيه تفكيك للضمائر من غير داع، ومنهم من جعله للنبي ﷺ وهو عليه الصلاة والسلام معلوم من السياق وقد تقدم الأخبار عنه ﷺ في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [يونس: ٢٠] الآية.
واستدل على ذلك بما
أخرجه ابن المنذر. وابن أبي حاتم. والطبراني في الكبير. وابن مردويه، وأبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس أن أربد بن قيس وعامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله ﷺ فانتحيا إليه وهو عليه الصلاة والسلام جالس فجلسا بين يديه فقال عامر: ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي ﷺ لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم قال: أتجعل لي إن أسلمت الأمر بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ليس ذلك لك ولا لقومك ولكن لك أعنة الخيل قال: فاجعل لي الوبر ولك المدر فقال صلى الله عليه وسلم: لا فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلا ورجلا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يمنعك الله تعالى، وفي رواية وأبناء قيلة- يريد الأوس والخزرج- فلما خرجا قال عامر: يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث فاضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلته لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية ويكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام عليه الصلاة والسلام معه فخليا إلى الجدار ووقف عامر يكلمه وسل أربد السيف فلما وضع يده عليه يبست على قائمة فلم يستطع سله وأبطأ على عامر فالتفت رسول الله ﷺ فرأى أربد وما يصنع فانصرف عنهما وقال عامر لأربد: مالك؟ قال: وضعت يدي على قائم سيفي فيبست فلما خرجا حتى إذا كانا بالرقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسيد بن حضير فوقع بهما أسيد قال: اشخصا يا عدوي الله تعالى لعنكم الله تعالى فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال: هذا أسيد بن حضير الكتائب فقال: أما والله إن كان حضير صديقا لي، ثم إن الله سبحانه أرسل على أربد صاعقة فقتلته وخرج عامر حتى إذا كان بوادي الجريد أرسل الله تعالى عليه قرحة فأدركه الموت، وفي رواية أنه كان يصيح يا لعامر أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية فأنزل الله تعالى فيهما اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى إلى قوله سبحانه: لَهُ مُعَقِّباتٌ إلى آخره ثم قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا صلى الله عليه وسلم، وجاء في رواية أخرى عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: هذه للنبي عليه الصلاة والسلام خاصة،
والأكثرون على اعتبار العموم. وسبب النزول لا يأبى ذلك والله تعالى أعلم، ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر إحاطة علمه بالعباد وإن لهم معقبات يحفظونهم من أمره جل شأنه نبه على لزوم الطاعة ووبال المعصية فقال عز من قائل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعمة والعافية حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ما اتصفت به ذواتهم من الأحوال الجميلة لا ما أضمروه ونووه فقط، والمراد بتغيير ذلك تبديله بخلافه لا مجرد تركه،
وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه مرفوعا يقول الله تعالى: «وعزتي وجلالي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما كرهت من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي وما من أهل قرية ولا أهل بيت ولا رجل ببادية كانوا على ما أحببت من طاعتي ثم تحولوا عنها إلى ما كرهت من معصيتي إلا تحولت لهم عما يحبون من رحمتي إلى ما يكرهون من عذابي» أخرجه ابن أبي شيبة وأبو الشيخ وابن مردويه.
واستشكل ظاهر الآية حيث أفادت أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك
خلاف ما قررته الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة ومنه قوله سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥]
وقوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل «أنهلك وفينا الصالحون؟ نعم إذا كثر الخبث»
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله سبحانه بعقاب»
في أشياء كثيرة وأيضا قد ينزل الله تعالى بالعبد مصائب يزيد بها أجره، وقد يستدرج المذنب بترك ذلك.
وأولها ابن عطية لذلك بأن المراد حتى يقع تغيير ما منهم أو ممن هو منهم كما غير سبحانه بالمنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم والحق أن المراد أن ذلك عادة الله تعالى الجارية في الأكثر لا أنه سبحانه لا يصيب قوما إلا بتقدم ذنب منهم فلا إشكال، قيل: ولك أن تقول: إن قوله سبحانه:
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ تتميم لتدارك ما ذكر وفيه تأمل، والسوء بجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وغيرهما من أنواع البلاء، ومَرَدَّ مصدر ميمي أي فلا رد له، والعامل في إِذا ما دل عليه الجواب لأن معمول المصدر وكذا ما بعد الفاء لا يتقدم عليه، والتقدير كما قال أبو البقاء وقع أو لم يرد أو نحو ذلك، والظاهر أن إِذا للكلية، وقد جاءت كذلك في أكثر الآيات وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ سبحانه مِنْ والٍ يلي أمورهم من ضر ونفع ويدخل في ذلك دخولا أوليا دفع السوء عنهم، وقيل: الأول إشارة إلى نفي الدافع بالدال وهذا إشارة إلى نفي الرافع بالراء لئلا يتكرر ولا حاجة إلى ذلك كما لا يخفى. واستدل بالآية على أن خلاف مراد الله تعالى محال.
واعترض بأنها إنما تدل على أنه تعالى إذا أراد بقوم سوءا وجب وقوعه ولا تدل على أن كل مراد له تعالى كذلك ولا على استحالة خلافه بل على عدم وقوعه، وأجيب بأنه لا فرق بين إرادة السوء وإرادة غيره لكن اقتصر على إرادة الأول لأن الكلام في الانتقام من الكفار وهو أبلغ في تخويفهم فإذا امتنع رد السوء فغيره كذلك، والمراد بالاستحالة عدم الإمكان الوقوعي لا الذاتي ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر، ومن أعجب ما قيل: إن الجمهور احتجوا بالآية على أن المعاصي مما يشملها السوء وإنها بخلقه تعالى، ومن الناس من جعل الآية متعلقة بقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ [الرعد: ٦] إلى آخره وبين ذلك أبو حيان بما لا يرتضيه إنسان، وقيل: إن فيها إيذانا بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما في أنفسهم من الفطرة فاستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى هذا.
ووقف ابن كثير على هادٍ وكذا واقٍ
حيث وقع وعلى والٍ هنا وباقٍ في النحل بإثبات الياء وباقي السبعة وقفوا بحذفها. وفي الإقناع لأبي جعفر ابن الباذش عن ابن مجاهد الوقف في جميع الباب لابن كثير بالياء وهذا لا يعرفه المكيون، وفيه أيضا عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش أنه خيره في الوقف في جميع الباب بين أن يقف بالياء وأن يقف بحذفها كذا في البحر، وفيه أنه أثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية ياء «المتعال» وقفا ووصلا وهو الكثير في لسان العرب وحذفها الباقون وصلا ووقفا لأنها كذلك رسمت في الإمام.
واستشهد سيبويه لحذفها في الفواصل والقوافي وأجاز غيره حذفها مطلقا ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين وأل معاقبة له إجراء المعاقب مجرى المعاقب.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من الصاعقة وَطَمَعاً في الغيث قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن أنه قال: خوفا لأهل البحر وطمعا لأهل البر. وعن قتادة خوفا للمسافر من أذى المطر وطمعا للمقيم في نفعه، وعن الماوردي خوفا من العقاب وطمعا في الثواب، والمراد من البرق معناه المتبادر وعن ابن عباس أن المراد به الماء فهو مجاز من باب إطلاق الشيء على ما يقارنه غالبا.
ونصب خَوْفاً وَطَمَعاً على أنهما مفعول له- ليريكم- واتحاد فاعل العلة والفاعل المعلل ليس شرطا للنصب
مجمعا، ففي شرح الكافية للرضي وبعض النحاة لا يشترط تشاركهما في الفاعل وهو الذي يقوى في ظني وإن كان الأغلب هو الأول. واستدل على جواز عدم التشارك بما ذكرناه في حواشينا على شرح القطر للمصنف.
وفي همع الهوامع وشرط الأعلم والمتأخرون المشاركة للفعل في الوقت والفاعل ولم يشترط ذلك سيبويه ولا أحد من المتقدمين، واحتاج المشترطون إلى تأويل هذا للاختلاف في الفاعل فإن فاعل الإراءة هو الله تعالى وفاعل الطمع والخوف غيره سبحانه فقيل: في الكلام مضاف مقدر وهو إرادة أي يريكم ذلك إرادة أن تخافوا وتطمعوا فالمفعول له المضاف المقدر وفاعله وفاعل الفعل المعلل به واحد، وقيل: الخوف والطمع موضوعان موضع الإخافة والأطماع كما وضع النبات موضع الإنبات في قوله تعالى: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] والمصادر ينوب بعضها عن بعض أو هما مصدران محذوفا الزوائد كما في شرح التسهيل، وقيل: إنهما مفعول له باعتبار أن المخاطبين رائين لأن إراءتهم متضمنة لرؤيتهم والخوف والطمع من أفعالهم فهم فعلوا الفعل المعلل بذلك وهو الرؤية فيرجع إلى معنى قعدت عن الحرب جبنا وهذا على طريقة قول النابغة الذبياني:
وحلت بيوتي في يفاع ممنع | يخال به راعي الحمولة طائرا |
حذارا على أن لا تنال مقادتي | ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا |
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ قيل: هو اسم للصوت المعلوم والكلام على حذف مضاف أي سامعو الرعد أو الإسناد مجازي من باب الإسناد للحامل والسبب، والباء في قوله سبحانه: بِحَمْدِهِ للملابسة، والجار والمجرور في موضع الحال أي يسبح السامعون لذلك الصوت ملتبسين بحمد الله تعالى فيضجون بسبحان الله والحمد لله.
وقيل: لا حذف ولا تجوز في الإسناد وإنما التجوز في التسبيح والتحميد حيث شبه دلالة الرعد بنفسه على صفحة رقم 112
تنزيهه تعالى عن الشريك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي ودلالته على فضله جل شأنه ورحمته بحمد الحامد لما فيهما من الدلالة على صفات الكمال، وقيل: إنه مجاز مرسل استعمل في لازمه، وقيل: الرعد اسم ملك فإسناد التسبيح والتحميد إليه حقيقة.
قال في الكشف: والأشبه في الآية الحمل على الإسناد المجازي ليتلاءم الكلام فإن الرعد في المتعارف يقع على الصوت المخصوص وهو الذي يقرن بالذكر مع البرق والسحاب والكلام في إراءة الآيات الدالة على القدرة الباهرة وإيجادها وتسبيح ملك الرعد لا يلائم ذلك، أما حمل الصوت المخصوص للسامعين على التسبيح والحمد فشديد الملاءمة جدا، وإذا حمل على الإسناد حقيقة فالوجه أن يكون اعتراضا دلالة على اعتراف الملك الموكل بالسحاب وسائر الملاءمة بكمال قدرته سبحانه جلت قدرته وجحود الإنسان ذلك، وأنت تعلم أن تسبيح الملائكة على ما ادعى أنه الأشبه يبقى كالاعتراض في البين، والذي اختاره أكثر المحدثين كون الإسناد حقيقيا بناء على أن الرعد اسم للملك الذي يسوق السحاب،
فقد أخرج أحمد. والترمذي وصححه. والنسائي. وآخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن اليهود سألوا رسول الله ﷺ فقالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ملك من ملائكة الله تعالى موكل بالسحاب بيديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال عليه الصلاة والسلام: صوته فقالوا: صدقت،
والأخبار في ذلك كثيرة، واستشكل بأنه لو كان علما للملك لما ساغ تنكيره وقد نكر في البقرة، وأجيب بأن له إطلاقين ثانيهما إطلاقه على نفس الصوت والتنكير على هذا الإطلاق، وقال ابن عطية: وقيل: إن الرعد ريح تخفق بين السحاب، وروي ذلك عن ابن عباس، وتعقبه أبو حيان بقوله: وهذا عندي لا يصح فإن ذلك من نزغات الطبيعيين وغيرهم.
وقال الإمام: إن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وسائر الآثار العلوية، وهو عين ما قلنا: من أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء فكيف يليق بالعاقل الإنكار اه. وتعقبه أبو حيان أيضا بأن غرضه جريان ما يتخيله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبدا، ولقد صدق رحمه الله تعالى في عدم صحة التطبيق بين ما جاءت به الشريعة وما نسجته عناكب أفكار الفلاسفة. نعم إن ذلك ممكن في أقل قليل من ذاك وهذا، والمشهور عن الفلاسفة أن الريح تحتقن في داخل السحاب ويستولي البرد على ظاهره فيتجمد السطح الظاهر ثم إن ذلك الريح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولد من ذلك حركة عنيفة وهي موجبة للسخونة وليس البرق والرعد إلا ما حصل من الحركة وتسخينها، وأما السحاب فهو أبخرة متصاعدة قد بلغت في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء لكن لما لم يقو البرد تكاثفت بذلك القدر من البرد واجتمعت وتقاطرت ويقال للمتقاطر مطر. ورد الأول بأنه خلاف المعقول من وجوه. أحدها أنه لو كان الأمر كما ذكر لوجب أن يكون كلما حصل البرق حصل الرعد وهو الصوت الحادث من تمزيق السحاب ومعلوم أنه كثيرا ما يحدث البرق القوي من غير حدوث الرعد.
ثانيها أن السخونة الحاصلة بسبب قوة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد وعند حصول هذا المعارض القوي كيف تحدث النارية بل يقال: النيران العظيمة تنطفئ بصب الماء عليها والسحاب كله ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية. ثالثها أن من مذهبكم أن النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوة المحاكمة الحاصلة في أجزاء السحاب لكن من أين حدث ذلك اللون الأحمر؟ ورد الثاني بأن الأمطار مختلفة فتارة
تكون قطراتها كبيرة وتارة تكون صغيرة وتارة تكون متقاربة وأخرى تكون متباعدة إلى غير ذلك من الاختلافات وذلك مع أن طبيعة الأرض واحدة وطبيعة الشمس المسخنة للبخارات واحدة يأبى أن يكون ذلك كما قرروا، وأيضا التجربة دالة على أن للتضرع والدعاء في انعقاد السحاب ونزول الغيث أثرا عظيما وهو يأبى أن يكون ذلك للطبيعة والخاصية فليس كل ذلك إلا بإحداث محدث حكيم قادر يخلق ما يشاء كيف يشاء، وقال بعض المحققين: لا يبعد أن يكون في تكون ما ذكر أسباب عادية كما في الكثير من أفعاله تعالى وذلك لا ينافي نسبته إلى المحدث الحكيم القادر جل شأنه، ومن أنصف لم يسعه إنكار الأسباب بالكلية فإن بعضها كالمعلوم بالضرورة وبهذا أنا أقول، وقد تقدم بعض الكلام في هذا المقام.
وكان ﷺ كما أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة إذا هبت الريح أو سمع صوت الرعد تغير لونه حتى يعرف ذلك في وجهه الشريف ثم يقول للرعد: «سبحان من سبحت له وللريح اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا».
وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد. والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر «كان رسول الله ﷺ إذا سمع صوت الرعد والصواعق قال: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك».
وأخرج أبو داود في مراسيله عن عبيد الله بن أبي جعفر «أن قوما سمعوا الرعد فكبروا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم الرعد فسبحوا ولا تكبروا»
وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس «أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول إذا سمع الرعد: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».
وأخرج ابن مردويه. وابن جرير عن أبي هريرة قال: «كان ﷺ إذا سمع الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده».
وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أي ويسبح الملائكة عليهم السلام من هيبته تعالى وإجلاله جل جلاله، وقيل: الضمير يعود على الرعد، والمراد بالملائكة أعوانه جعلهم الله تعالى تحت يده خائفين خاضعين له وهو قول ضعيف وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ جمع صاعقة وهي كالصاقعة في الأصل الهدة الكبيرة إلا أن الصقع يقال في الأجسام الأرضية والصعق في الأجسام العلوية، والمراد بها هنا النار النازلة من السحاب مع صوت شديد فَيُصِيبُ سبحانه بِها مَنْ يَشاءُ أصابته بها فيهلكه، قيل: وهذه النار قيل تحصل من احتكاك أجزاء السحاب، واستدل بما أخرجه ابن المنذر. وابن مردويه عن ابن عباس قال: الرعد ملك اسمه الرعد وصوته هذا تسبيحه فإذا اشتد زجره احتك السحاب واصطدم من خوفه فتخرجه الصواعق من بينه، وقال الفلاسفة: إن الدخان المحتبس في جوف السحاب إذا نزل ومزق السحاب قد يشتعل بقوة التسخين الحاصل من الحركة الشديدة والمصاكة العنيفة وإذا اشتعل فلطيفه ينطفئ سريعا وهو البرق وكثيفه لا ينطفئ حتى يصل إلى الأرض وهو الصاعقة، وإذا وصل إليها فربما صار لطيفا ينفذ في المتخلخل ولا يحرقه بل يبقى منه أثر سواد ويذيب ما يصادمه من الأجسام الكثيفة المندمجة فيذيب الذهب والفضة في الصرة مثلا ولا يحرقها إلا ما أحرق من المذوب، وقد أخبر أهل التواتر بأن صاعقة وقعت منذ زمان بشيراز على قبة الشيخ الكبير أبي عبد الله بن خفيف قدس سره فأذابت قنديلا فيها ولم تحرق شيئا منها، وربما كان كثيفا غليظا جدا فيحرق كل شيء أصابه، وكثيرا ما يقع على الجبل فيدكه دكا، وقد يقع على البحر فيغوص فيه ويحرق ما فيه من الحيوانات، وربما كان جرم الصاعقة دقيقا جدا مثل السيف فإذا وصل إلى شيء قطعه بنصفين ولا يكون مقدار الانفراج إلا قليلا، ويحكى أن صبيا كان نائما بصحراء فأصابت الصاعقة ساقيه فسقطت رجلاه ولم يخرج دم لحصول الكي من حرارتها، وهذا الذي قالوه في سبب تكونها ليس بالبعيد عما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في ذلك، ومادتها على ما نقل بعضهم عن ابن سينا أجسام نارية فارقتها السخونة وصارت لاستيلاء البرودة على جوهرها متكاثفة،
وقال الإمام في شرح الإشارات: الصواعق على ما نقل عن الشيخ تشبه الحديد تارة والنحاس تارة والحجر تارة وهو ظاهر في أن مادتها ليست كذلك وإلا لما اختلفت، ومن هنا قيل: إن مادتها الأبخرة والأدخنة الشبيهة بمواد هذه الأجسام، وقيل: إنها نار تخرج من فم الملك الموكل بالسحاب إذا اشتد زجره. واخرج ابن أبي حاتم. وأبو الشيخ عن أبي عمران الجوني قال: إن بحورا من نار دون العرش يكون منها الصواعق، وإذا صح ما روي عن الحبر لا يعدل عنه.
وقد أخرج سعيد بن منصور. وابن المنذر عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال «من صوت الرعد فقال سبحانه الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير فإن أصابته صاعقة فعلي ديته».
وأخرج ابن أبي حاتم. وغيره عن أبي جعفر قال: «الصاعقة تصيب المؤمن والكافر ولا تصيب ذاكرا»
وفي خبر مرفوع ما يؤيده، وقد أهلكت أربد كما علمت، وقد أشار إلى ذلك أخوه لأمه لبيد العامري بقوله يرثيه:
أخشى على أربد، الحتوف ولا | أرهب نوء السماك والأسد |
فجعني البرق والصواعق بال | فارس يوم الكريهة النجد |
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال: أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أم من ذهب أم من نحاس؟ فنزلت عليه صاعقة فأهلكته فنزلت.
ومِنْ مفعول فَيُصِيبُ والكلام على ما في البحر من باب الأعمال وقد أعمل فيه الثاني إذ كل من يُرْسِلُ وفَيُصِيبُ يطلب مِنْ ولو أعمل الأول لكان التركيب ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو أعمال الثاني، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر علمه النافذ في كل شيء واستواء الظاهر والخفي عنده تعالى وما دل على قدرته الباهرة ووحدانيته قال جل شأنه: وَهُمْ أي الذين كفروا وكذبوا الرسول ﷺ وأنكروا آياته يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذبون ما يصفه الصادق به من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس ومجازاتهم، فالمراد بالمجادلة فيه تعالى المجادلة في شأنه سبحانه وما أخبر به عنه جل شأنه، وهي من الجدل بفتحتين أشد الخصومة، وأصله من الجدل بالسكون وهو فتل الحبل ونحوه لأنه يقوي به ويشد طاقاته.
وقال الراغب: أصل ذلك من جدلت الحبل أي أحكمت فتله كأن المتجادلين يفتل كل واحد منهما الآخر عن رأيه، وقيل: الأصل في الجدال الصراع وإسقاط الإنسان صاحبه على الجدالة وهي الأرض الصلبة، وإلى تفسير الآية بما ذكر ذهب الزمخشري، قال في الكشف: وفي كلامه إشارة إلى أن في الكلام التفاتا لأن قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب وإن شئت فتأمل من قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ إلى قوله سبحانه: الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ. ثم التفت من الخطاب إلى الغيبة وحسن موقعهما، أما الأول فما فيه من تخصيص الوعيد المدمج في سَواءٌ مِنْكُمْ ولهذا ذيل بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ إلى مِنْ والٍ وفيه من التهديد ما لا يخفى على ذي بصيرة، والحث على طلب النجاة وزيادة التقريع في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ وفي مجيء سَواءٌ مِنْكُمْ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ بعد قوله تعالى: اللَّهُ يَعْلَمُ هكذا من دون حرف النسق لأن الأول مقرر لقوله سبحانه: اللَّهُ يَعْلَمُ من زيادة الادماج المذكور تحقيقا للعلم والثاني مقرر لما ضمن من الدلالة على القدرة في قوله تعالى: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ مع رعاية نمط التعديد على أسلوب الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: ١، ٢] ما يبهر الألباب ويظهر للمتأمل في وجه الاعجاز التنزيلي العجب العجاب، وأما الثاني فما فيه من صفحة رقم 115
الدلالة على أنهم مع وضوح الآيات وتلاوتها عليهم والتنبيه البالغ ترغيبا وترهيبا لم يبالوا بها بالة فكأنه يشكوا جنايتهم إلى من يستحق الخطاب أو كمن يدمدم في نفسه أني أصنع بهم وأفعل كيت وكيت جزاء ما ارتكبوه ليرى ما يريد أن يوقع بهم، وعلى هذا فقوله تعالى: هُمْ إلى آخره معطوف على قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ المعطوف على وَيَسْتَعْجِلُونَكَ والعدول عن الفعلية إلى الاسمية وطرح رعاية التناسب للدلالة على أنهم ما ازدادوا بعد الآيات إلا عنادا «وأما الذين كفروا فزادتهم رجسا إلى رجسهم» (١)
وجاز أن يقال: إنه معطوف على هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ على معنى هو الذي يريكم هذه الآيات الكوامل الدالة على القدرة والرحمة وأنتم تجادلون فيه سبحانه وهذا أقرب مأخذا والأول أملأ بالفائدة اه ومخايل التحقيق ظاهرة عليه وزعم الطيبي أن الأنسب لتأليف النظم أن يكون هذا تسلية لحبيبه صلى الله عليه وسلم، فإنه تعالى لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات كآيات موسى. وعيسى عليهما السلام وإنكارهم كون الذي جاء عليه الصلاة والسلام آيات سلاه جل شأنه بما ذكر كأنه قال: هون عليك فإنك لست مختصا بذلك فإنه مع ظهور الآيات البينات ودلائل التوحيد يجادلون في الله تعالى باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد ومع شمول علمه تعالى وكمال قدرته جل جلاله ينكرون الحشر والنشر ومع قهر سلطانه وشديد سطوته يقدمون على المكايدة والعناد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فليتأمل، ولا يستحسن العطف على يُرْسِلُ الصَّواعِقَ لعدم الاتساق، وجوز أن تكون الجملة حالا من مفعول فَيُصِيبُ أي يصيب بها من يشاء في حال جداله أو من مفعول يَشاءُ على ما قيل وهو كما ترى، ولا يعين سبب النزول الحالية كما لا يخفى وَهُوَ سبحانه وتعالى شَدِيدُ الْمِحالِ أي المماحلة وهي المكايدة من محل بفلان بالتخفيف إذا كاده وعرضه للهلاك، ومنه تمحل لكذا إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه فهو مصدر كالقتال، وقيل: هو اسم لا مصدر من المحل بمعنى القوة وحمل على ذلك قول الأعشى:
فرع نبل يهتز في غصن المج... د عظيم الندى شديد المحال
وقول عبد المطلب:
لا يغلبن صليبهم... ومحالهم عدوا محالك
وكأن أصله من المحل بمعنى القحط، وكلا التفسيرين مروي على ابن عباس، وقيل: هو مفعل لأفعال من الحول بمعنى القوة، وقال ابن قتيبة: هو كذلك من الحيلة المعروفة وميمه زائدة كميم مكان، وغلطه الأزهري بأنه لو كان مفعلا لكان كمرود ومحور، واعتذر عن ذلك بأنه أعل على غير قياس، وأيد دعوى الزيادة بقراءة الضحاك. والأعرج «المحال» بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال لأن الأصل توافق القراءتين، ويقال للحيلة أيضا المحالة ومنه المثل المرء يعجز لا المحالة، وقال أبو زيد: هو بمعنى النقمة وكأنه أخذه من المحل بمعنى القحط أيضا، وقال ابن عرفة: هو الجدال يقال: ما حل عن أمره أي جادل، وقيل: هو بمعنى الحقد وروي عن عكرمة وحملوه على التجوز.
وجوز أن يكون «المحال» بالفتح بمعنى الفقار وهو عمود الظهر وقوامه، قال في الأساس: يقال فرس قوي المحال أي الفقار الواحدة محالة والميم أصلية، ويكون ذلك مثلا في القوة والقدرة كما
جاء في الحديث الصحيح (٢)
«فساعد الله تعالى أسد وموساه أحد»
لأن الشخص إذا اشتد محاله كان منعوتا بشدة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه
(٢) في البحر والمراد أنه سبحانه لو أراد تحريمها بشق آذانها لخلقها كذلك فإنه سبحانه يقول لما أراد كن فيكون اه منه. [.....]
غيره، ألا ترى إلى قولهم: فقرته الفواقر وهو مثل لتوهين القوى، وبهذا الحمل لا يلزم إثبات الجسمية له تعالى، والجملة الاسمية في موضع الحال من الاسم الجليل لَهُ أي لله تعالى دَعْوَةُ الْحَقِّ أي الدعاء والتضرع الثابت الواقع في محله المجاب عند وقوعه، والإضافة للايذان بملابسة الدعوة للحق واختصاصها به وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضلال والضياع كما يقال: كلمة الحق والمراد أن إجابة ذلك له تعالى دون غيره، ويؤيده ما بعد كما لا يخفى (١)
وقيل: المراد بدعوة الحق الدعاء عند الخوف فإنه لا يدعى فيه إلا الله تعالى كما قال سبحانه: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: ٦٧] وزعم الماوردي أن هذا أشبه بسياق الآية، وقيل: الدعوة بمعنى الدعاء أي طلب الإقبال، والمراد به العبادة للاشتمال، والإضافة على طرز ما تقدم، وبعضهم يقول: إن هذه الإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة والكلام فيه شهير، وحاصل المعنى أن الذي يحق أن يعبد هو الله تعالى دون غيره.
ويفهم من كلام البعض- على ما قيل- أن الدعوة بمعنى الدعاء ومتعلقها محذوف أي للعبادة والمعنى أنه الذي يحق أن يدعى إلى عبادته دون غيره، ولا يخفى ما بين المعنيين من التلازم فإنه إذا كانت الدعوة إلى عبادته سبحانه حقا كانت عبادته جل شأنه حقا وبالعكس، وعن الحسن أن المراد من الحق هو الله تعالى، وهو- كما في البحر- ثاني الوجهين اللذين ذكرهما الزمخشري، والمعنى عليه كما قال: له دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجب، والأول ما أشرنا إليه أولا وجعل الحق فيه مقابل الباطل.
وبين صاحب الكشف حاصل الوجهين بأن الكلام مسوق لاختصاصه سبحانه بأن يدعى ويعبد ردا لمن يجادل في الله تعالى ويشرك به سبحانه الأنداد ولا بد من أن يكون في الإضافة اشعار بهذا الاختصاص، فإن جعل الحق في مقابل الباطل فهو ظاهر، وإن جعل اسما من أسمائه تعالى كان الأصل لله دعوته تأكيدا للاختصاص من اللام والإضافة ثم زيد ذلك بإقامة الظاهر مقام المضمر معادا بوصف ينبئ عن اختصاصها به أشد الاختصاص فقيل: له دعوة المدعو الحق والحق من أسمائه سبحانه يدل على أنه الثابت بالحقيقة وما سواه باطل من حيث هو وحق بتحقيقه تعالى إياه فيتقيد بحسب كل مقام للدلالة على أن مقابله لا حقيقة له، وإذا كان المدعو من دونه بطلانه لعدم الاستجابة فهو الحق الذي يسمع فيجيب انتهى. وبهذا سقط ما قاله أبو حيان في الاعتراض على الوجه الثاني من أن مآله إلى الله دعوة الله وهو نظير قولك: لزيد دعوة زيد ولا يصح ذلك، واستغنى عما قال العلامة الطيبي في تأويله: من أن المعنى ولله تعالى الدعوة التي تليق أن تنسب وتضاف إلى حضرته جل شأنه لكونه تعالى سميعا بصيرا كريما لا يخيب سائله فيجيب الدعاء فإن ذلك كما ترى قليل الجدوى. ويعلم ما في الكشف وجه تعلق هذه الجملة بما تقدم، وقال بعضهم:
وجه تعلق هذه والجملة التي قبلها أعني قوله تعالى: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ إن كان سبب النزول قصة أربد. وعامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسوله صلى الله عليه وسلم
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «اللهم احبسهما عني بما شئت»
أو دلالة على رسوله ﷺ على الحق، وإن لم يكن سبب النزول ذلك فالوجه أن ذلك وعيد للكفرة على مجادلتهم الرسول ﷺ بحلول محاله بهم وتهديدهم بإجابة دعائه عليه الصلاة والسلام أن دعا عليهم أو بيان ضلالتهم وفساد رأيهم في عبادة غير الله تعالى، ويعلم مما ذكر وجه التعلق على بعض التفاسير إذا قلنا:
إن سبب النزول قصة اليهودي أو الجبار فتأمل.
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ أي الأصنام الذين يدعونهم أي المشركون، وحذف عائد الموصول في مثل ذلك كثير،
عن علي كرم الله تعالى وجهه أن دعوة الحق التوحيد
وعن ابن عباس ما هو أعم من ذلك فافهم اه منه.
وجوز أن يكون الموصول عبارة عن المشركين وضمير الجمع المرفوع عائد إليه ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي الأصنام وحذف لدلالة قوله تعالى: مِنْ دُونِهِ عليه لأن معناه متجاوزين له وتجاوزه إنما هو بعبادتها ويؤيد الوجه الأول قراءة البزدوي عن أبي عمرو «تدعون» بتاء الخطاب، وضمير لا يَسْتَجِيبُونَ عليه عائد على الَّذِينَ وعلى الثاني عائد على مفعول يَدْعُونَ وعلى كل فالمراد لا يستجيب الأصنام لَهُمْ أي للمشركين بِشَيْءٍ من طلباتهم إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي لا يستجيبون شيئا من الاستجابة وطرفا منها إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد يطلبه ويدعوه لِيَبْلُغَ أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه فاهُ وَما هُوَ أي الماء بِبالِغِهِ أي ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه وبسط يديه إليه، وجوز أبو حيان كون هُوَ ضمير الفم والهاء في بِبالِغِهِ ضمير الماء أي وما فوه ببالغ الماء لأن كلا منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحال.
وجوز بعضهم كون الأول ضمير باسط والثاني ضمير «الماء» قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون الأول عائدا على «باسط» والثاني عائدا على الفم لأن اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له لزم إبراز الفاعل فكان يجب على ذلك أن يقال: وما هو ببالغه الماء، والجمهور على ما سمعت أولا، والغرض- كما قال بعض المدققين- نفي الاستجابة على البت بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه، والحاصل أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة وبقائهم لذلك في الخسار بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة فهو لذلك في زيادة الكباد والبوار، والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل أبرز في معرض التهكم حيث أثبت أنهما استجابتان زيادة في التخسير والتحسير، فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر كما أشرنا إليه، والظاهر أن الاستجابة هناك مصدر من المبني للفاعل وهو الذي يقتضيه الفعل الظاهر، وجوز أن يكون من المبني للمفعول ويضاف إلى الباسط بناء على استلزام المصدر من المبني للفاعل للمصدر من المبني للمفعول وجودا وعدما فكأنه قيل: لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قول الفرزدق:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع | من المال إلا مسحت (١) أو مجلف |
أو مجلف. وأبو البقاء يجعل الاستجابة مصدر المبني للمفعول وإضافته إلى كَباسِطِ من باب إضافة المصدر إلى مفعوله كما في قوله تعالى: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ [فصلت: ٤٩] والفاعل ضمير «الماء» على الوجه الثاني في الموصول، وقد يراد من بسط الكفين إلى الماء بسطهما أي نشر أصابيعهما ومدها لشربه لا للدعاء، والإشارة إليه كما أشرنا إليه فيما تقدم، وعلى هذا قيل: شبه الداعون لغير الله تعالى بمن أراد أن يغرف الماء بيديه فبسطهما ناشرا أصابعه في أنهما لا يحصلان على طائل، وجعل بعضهم وجه الشبه قلة الجدوى، ولعله أراد عدمها لكنه بالغ بذكر القلة وإرادة العدم دلالة على هضم الحق وإيثار الصدق ولإشمام طرف من التهكم، والتشبيه على هذا من تشبيه المفرد المقيد كقولك لمن لا يحصل من سعيه على شيء: هو كالراقم على الماء فإن المشبه هو الساعي مقيدا بكون سعيه كذلك والمشبه به هو الراقم مقيدا بكونه على الماء كذلك فيما نحن
(٢) المسحت المهلك والمجلف بالجيم الذي بقيت منه بقية اه منه.
فيه، وليس من المركب العقلي في شيء على ما توهم. نعم وجه الشبه عقلي اعتباري والاستثناء مفرغ عن أعم عام الأحوال أي لا يستجيب الآلهة لهؤلاء الكفرة الداعين إلا مشبهين أعني الداعين بمن بسط كفيه ولم يقبضهما وأخرجهما كذلك فلم يحصل على شيء لأن الماء يحصل بالقبض لا بالبسط.
وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه أن ذلك تشبيه بعطشان على شفير بئر بلا رشاء ولا يبلغ قعر البئر ولا الماء يرتفع إليه،
وهو راجع إلى الوجه الأول وليس مغايرا له كما قيل. وعن أبي عبيدة أن ذلك تشبيه بالقابض على الماء في أنه لا يحصل على شيء، ثم قال: والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بذلك، وأنشد قول الشاعر:
فأصبحت فيما كان بيني وبينها | من الود مثل القابض الماء باليد |
وإني وإياكم وشوقا إليكم | كقابض ماء لم تسعه أنامله |
تعود بسط الكف حتى لو أنه | أراد انقباضا لم تطعه أنامله |
وجوز أن يكون النصب على العلة فالكره بمعنى الإكراه وهو مصدر المبني للمفعول ليتحد الفاعل بناء على اشتراط ذلك في نصب المفعول لأجله وهو عند من لم يشترط على ظاهره، وما قيل عليه من أن اعتبار العلية في الكره غير ظاهر لأنه الذي يقابل الطوع وهو الإباء ولا يعقل كونه علة للسجود فمدفوع بأن العلة ما يحمل على الفعل أو ما يترتب عليه لا ما يكون غرضا له وقد مر عن قرب فتذكره، وقيل: النصب على المفعولية المطلقة أي سجود طوع وكره وَظِلالُهُمْ أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ذلك منهم وهم الانس فقط أو ما يعمهم وكل كثيف. صفحة رقم 119
وفي الحواشي الشهابية ينبغي أن يرجع الضمير لمن في الأرض لأن من في السماء لا ظل له إلا أن يحمل على التغليب أو التجوز، ومعنى انقياد الظلال له تعالى أنها تابعة لتصرفه سبحانه ومشيئته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال، وأصل الظل- كما قال الفراء- مصدر ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وهو إما معكوس أو مستو وبينى على كل منهما أحكام ذكروها في محلها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ ظرف للسجود المقدر والباء بمعنى في وهو كثير، والمراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل للتأبيد، قيل: فلا يقال لم خص بالذكر؟ وكذا يقال: إذا كانا في موضع الحال من الظلال، وبعضهم يعلل ذلك بأن امتدادها وتقلصها في ذينك الوقتين أظهر.
والغدو جمع غداة كقنى وقناة، والآصال جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب، وقسل: هو جمع أصل جمع أصيل، وأصله أأصال بهمزتين فقلبت الثانية ألفا، وقيل: الغدو مصدر وأيد بقراءة ابن مجلز «الإيصال» بكسر الهمزة على أنه مصدر آصلنا بالمد أي دخلنا في الأصيل كام قاله ابن جني هذا، وقيل: إن المراد حقيقة السجود فإن الكفرة حالة الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى: وَكَرْهاً يخصون السجود به سبحانه قال تعالى: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت: ٦٥] ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال افهاما وعقولا بها تسجد لله تعالى شأنه كما خلق جل جلاله ذلك للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهرت فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. وجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها، وهذا على ما قيل: مبني على ارتكاب عموم المجاز في السجود المذكور في الآية بأن يراد به الوقوع على الأرض فيشمل سجود الظلال بهذا المعنى أو تقدير فعل مؤد ذلك رافع للظلال أو خبر له كذلك أو التزام أن إرادة ما ذكر لا يضر في الحقيقة لكونه بالتبعية والعرض أو أن الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز ولا يخفى ما في بعض الشقوق من النظر. وعن قتادة أن السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وقد عبر بالطوع عن سجود الملائكة عليهم السلام والمؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام فيسجد كرها اما نفاقا أو يكون الكره أول حالة فيستمر عليه الصفة وان صح إيمانه بعد، وقيل: الساجد طوعا من لا يثقل عليه السجود والساجد كرها من يثقل عليه ذلك. وعن ابن الأنباري الأول من طالت مدة إسلامه فألف السجود والثاني من بدأ بالإسلام إلى أن يألف، وأيّا ما كان- فمن- عام أريد به مخصوص إذ يخرج من ذلك من لا يسجد، وقيل: هو عام لسائر أنواع العقلاء والمراد- بيسجد- يجب أن يسجد لكن عبر عن الوجوب بالوقوع مبالغة.
واختار غير واحد في تفسير الآية ما ذكرناه أولا، ففي البحر والذي يظهر أن مساق الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد سبحانه منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر جل وعلا فالذين تعبدونهم كائنا ما كانوا داخلون تحت القهر لا يستطيعون نفعا ولا ضرا، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود وهي ليست أشخاصا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها سبحانه حسبما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره واعراضه داخلة تحت قهر إرادته تعالى كما قال سبحانه: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ [النحل: ٤٨] وكون المراد بالظلال الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف وأضعف منه ما قاله ابن الأنباري، وقياسها على الجبال ليس بشيء لأن الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به وإنما معنى سجودها ميلها من جانب إلى جانب واختلاف أحوالها كما أراد سبحانه وتعالى. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل ما قيل أولا وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الاضطرار والشدة لله تعالى لا يجدي فإن سجوده للصنم حالة الاختيار والرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع والإعدام
له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه سبحانه وتعالى من تحقيق سجودهم له تعالى اه وفي تلك الأقوال بعد ما لا يخفى على الناقد البصير.
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تحقيق كما قال بعض المحققين لأن خالقهما ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله تعالى، وقيل: إنه سبحانه بعد أن ذكر انقياد المظروف لمشيئته تعالى ذكر ما هو كالحجة على ذلك من كونه جل وعلا خالق هذا الظرف العظيم الذي يبهر العقول ومدبره أي قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين اتخذوا من دونه أولياء من رب هذه الإجرام العظيم العلوية والسفلية؟ قُلِ اللَّهُ أمر ﷺ بالجواب إشعارا بأنه متعين للجوابية فهو عليه الصلاة والسلام والخصم في تقريره سواء، ويجوز أن يكون ذلك تلقينا للجواب ليبين لهم ما هم عليه من مخالفتهم لما علموه، وقيل: إنه حكاية لاعترافهم والسياق يأباه.
وقال مكي: إنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهته ﷺ فأمر باعلامهم به، ويبعده أنه تعالى قد أخبر بعلمهم في قوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] وحينئذ كيف يقال:
انهم جهلوا الجواب فطلبوه؟ نعم قال البغوي: روي أنه لما قال ﷺ ذلك للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت فأمره الله تعالى بالجواب، وهو يفرض صحته لا يدل على جهلهم كما لا يخفى قُلْ إلزاما لهم وتبكيتا أَفَاتَّخَذْتُمْ لأنفسكم مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ عاجزين لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وهي أعز عليهم منكم نَفْعاً يستجلبونه وَلا ضَرًّا يدفعونه عنها فضلا عن القدرة على جلب النفع للغير ودفع الضرر عنه، والهمزة للإنكار، والمراد بعد أن علمتموه رب السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء في غاية العجز عن نفعكم فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم سبب الإشراك، فالفاء عاطفة للتسبب والتفريع دخلت الهمزة عليه لأن المنكر الاتخاذ بعد العلم لا العلم ولا هما معا، ووصف الأولياء بما ذكر مما يقوي الإنكار ويؤكده، ويفهم- على ما قيل- من كلام البعض أن هذا دليل ثان على ضلالهم وفساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن ينفعوهم، واختلف في الدليل الأول فقيل: هو ما يفهم من قوله تعالى: قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ وقيل: هو ما يفهم من قوله سبحانه:
وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلخ فتدبر قُلْ تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها وَالْبَصِيرُ الذي هو الموحد العالم بذلك وإلى هذا ذهب مجاهد، وفي الكلام عليه استعارة تصريحية، وكذا على ما قيل: إن المراد بالأول الجاهل بمثل هذه الحجة بالثاني العالم بها، وقيل: إن الكلام على التشبيه والمراد لا يستوي المؤمن الكافر كما لا يستوي الأعمى والبصير فلا مجاز. ومن الناس من فسر الأول بالمعبود الغافل (١)
والثاني بالمعبود العالم بكل شيء وفيه بعد أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ التي هي عبارة عن الكفر والضلال وَالنُّورُ الذي هو عبارة عن الإيمان والتوحيد وروي ذلك عن مجاهد أيضا، وجمع الظلمات لتعدد أنواع الكفر ككفر النصارى وكفر المجوس والكفر غيرهم، وكون الكفر كله ملة واحدة أمر آخر.
و «أو» كما في البحر منقطعة وتقدر- ببل- والهمزة على المختار، والتقدير بل أهل تستوي، وهل وإن نابت عن الهمزة في كثير من المواضع فقد جامعتها أيضا كما في قوله:
أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأن تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، ويجوز فيها بعد أَمْ هذه أن يؤتى بها
لشبهها بالأدوات الاسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كما في قوله تعالى: أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ [يونس: ٣١] ويجوز أن لا يؤتى بها لأن «أم» متضمنة للاستفهام، وقد جاء الأمران في قوله:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم | أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم |
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته | أثر الأحبة يوم البين مشكوم |
وتعقبه الطيبي بأن إثبات التهكم تكلف فإنه ذكر الشيء وإرادة نقيضه استحقارا للمخاطب كما في قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: ٢١، التوبة: ٣٤، الانشقاق: ٢٤]، وهاهنا كَخَلْقِهِ جيء به مبالغة في إثبات العجز لآلهتهم على سبيل الاستدراج وإرخاء العنان، فإنه تعالى لما أنكر عليهم أولا اتخاذهم من دونه شركاء ووصفها بأنها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا فكيف تملك ذلك لغيرها أنكر عليهم ثانيا على سبيل التدرج وصف الخلق أيضا، يعني هب أن أولئك الشركاء قادرون على نفع أنفسهم وعلى نفع عبدتهم فهل يقدرون على أن يخلقوا شيئا، وهب أنهم قادرون على خلق بعض الأشياء فهل يقدرون على ما يقدر عليه الخالق من خلق السموات والأرض اه. والحق أن الآية ناعية عليهم متهكمة بهم فإن من لا يملك لنفسه شيئا من النفع والضر أبعد من أن يفيدهم ذلك، وكيف يتوهم فيه أنه خالق وأن يشتبه على ذي عقل فينبه على نفيه، وهذا المقدار يكفي في الغرض فافهم قُلْ تحقيقا للحق وإرشاد لهم اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من الجواهر والاعراض، ويلزم هذا أن لا خالق سواه لئلا يلزم التوارد وهو المقصود ليدل على المراد وهو نفي استحقاق غيره تعالى للعبادة والألوهية أي لا خالق سواه فيشاركه في ذلك الاستحقاق.
وبعموم الآية استدل أهل السنة على أن أفعال العباد مخلوقة له تعالى، والمعتزلة تزعم التخصيص بغير أفعالهم.
ومن الناس من يحتج أيضا لما ذهب إليه أهل الحق بالآية الأولى وهو كما ترى وَهُوَ الْواحِدُ المتوحد بالألوهية المنفرد بالربوبية الْقَهَّارُ الغالب على كل ما سواه ومن جملة ذلك آلهتهم فكيف يكون المغلوب شريكا له تعالى، وهذا على ما قيل كالنتيجة لما قبله، وهو يحتمل أن يكون من مقول القول وأن يكون جملة مستأنفة.
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ أي من جهتها على ما هو المشاهد، وقيل: منها نفسها ولا تجوز في الكلام. واستدل له بآثار الله تعالى أعلم بصحتها، وقيل: أنزل منها نفسها ماءً أي كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر باعتبار أن مباديه منها وذلك لتأثير الأجرام الفلكية في تصاعد البخار فيتجوز من مِنَ فَسالَتْ بذلك أَوْدِيَةٌ دافعة في مواقعه لا جميع الأودية إذ الأمطار لا تستوعب الأقطار وهو جمع واد.
قال أبو علي الفارسي: ولا يعلم أن فاعلا جمع على أفعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد كعالم وعليم وشاهد وشهيد وناصر ونصير. ثم إن وزن فاعل يجمع على أفعال كصاحب وأصحاب وطائر صفحة رقم 122
وأطيار. ووزن فعيل يجمع على أفعلة كجريب وأجربة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل وفعيل لا جرم يجمع فاعل جمع فعيل فيقال: واد وأودية ويجمع فعيل جمع فاعل يتيم وأيتام وشريف وأشراف اه. ونظير ذلك ناد وأندية وناج وأنجية قيل. ولا رابع لها. وفي شرح التسهيل ما يخالفه. والوادي الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة، وبه سميت الفرجة بين الجبلين ويطلق على الماء الجاري فيه، وهو اسم فاعل من ودي إذا سال فإن أريد الأول فالإسناد مجازي أو الكلام على تقدير مضاف كما قال الإمام أي مياه أودية، وإن أريد الثاني وهو معنى مجازي من باب اطلاق اسم المحل على الحال فالإسناد حقيقي، وإيثار التمثيل بالأودية على الأنهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين شأنها وما مثل بها كما سنشير إليه إن شاء الله تعالى بِقَدَرِها أي بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته سبحانه في نفع الناس، أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعي لكثرة الموارد، فإن موارد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من موارد السيل الجاري في الوادي الكبير، هذا إذا أريد بالأودية ما يسيل فيها أما إن أريد بها المعنى الحقيقي فالمعنى سالت مياها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفا أو يراد بضميرها مياها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين قاله شيخ الإسلام، والجار والمجرور على ما نقل عن الحوفي متعلق بسالت، وقال أبو البقاء: إنه في موضع الصفة لأودية، وجوز أن يكون متعلقا بأنزل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما. والأشهب العقيلي. وأبو عمرو في رواية «بقدرها» بسكون الدال وهي لغة في ذلك.
فَاحْتَمَلَ أي حمل وجاء افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر السَّيْلُ أي الماء الجاري في تلك الأودية والتعريف لكونه معهودا مذكوا بقوله تعالى: أَوْدِيَةٌ ولم يجمع لأنه كما قال الراغب مصدر بحسب الأصل، وفي البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في البحر أنه إنما عرف لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمن الفعل من المصدر وإن كان نكرة إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة، وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرا له أي الكذب، ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من سالت اه. وأورد عليه أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث والمذكور المعرف عين كما علمت. وأجيب بأنه بطريق الاستخدام. ورد بأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر حقيقيا كان أو مجازيا وهذا ليس كذلك لأن الأول مصدر أي حدث في ضمن الفعل وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك فكيف يتصور فيه الاستخدام.
نعم ما ذكروه أغلبي لا يختص بما ذكر فإن مثل الضمير اسم الإشارة وكذا الاسم الظاهر (١)
اه. وانظر هل يجوز أن يراد من السيل المعنى المصدري فلا يحتاج إلى حديث الاستخدام أم لا، وعلى الجواز يكون المعنى فاحتمل الماء المنزل من السماء بسبب السيل زَبَداً هو الغثاء الذي يطرحه الوادي إذا جاش ماؤه واضطربت أمواجه على ما قاله أبو الحجاج الأعلم، وهو معنى قول ابن عيسى: إنه وضر الغليان وخبثه، قال الشاعر:
وما الفرات إذا جاشت غواربه | ترمي أواذيه العبرين (٢) بالزبد |
(٢) أي الجانبين اهـ منه.
مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للمماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطن الذي شأنه الظهور في مبادئ الرأي من غير مداخلة في الحق وَمِمَّا يُوقِدُونَ ابتداء جملة كما روي عن مجاهد معطوفة على الجملة الأولى لضرب مثل آخر أي ومن الذي يفعلون الإيقاد عَلَيْهِ وضمير الجمع للناس أضمر مع عدم السبق لظهوره، وقرأ أكثر السبعة. وأبو جعفر. والأعرج. وشيبة «توقدون» بتاء الخطاب، والجار متعلق بما عنده وكذا قوله تعالى: فِي النَّارِ عند أبي البقاء والحوفي، قال أبو علي: قد يوقد على الشيء وليس في النار كقوله تعالى: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ [القصص: ٣٨] فإن الطين الذي أمر بالوقد عليه ليس في النار وإنما يصيبه لهبها، وقال مكي. وغيره: إن فِي النَّارِ متعلق بمحذوف وقع حالا من الموصول أي كائنا أو ثابتا فيها، ومنعوا تعلقه- بتوقدون- قالوا: لأنه لا يوقد على شيء الا وهو في النار والتعليق بذلك يتضمن تخصيص حال من حال أخرى، وقال أبو حيان: لو قلنا: إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار لجاز أيضا التعليق على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله تعالى: وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الأنعام: ٣٨] وقيل: إن زيادة ذلك للإشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد والمراد بالموصول نحو الذهب. والفضة. والحديد. والنحاس. والرصاص، وفي عدم ذكرها بأسمائها والعدول إلى وصفها بالإيقاد عليها المشعر بضربها بالمطارق لأنه لأجله وبكونها كالحطب الخسيس تهاون بها إظهارا لكبريائه جل شأنه على ما قيل، وهو لا ينافي كون ذلك ضرب مثل للحق لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون بذلك مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله تعالى: ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ فوفى كل من المقامين حقه فما قيل: إن الحمل على التهاون لا يناسب المقام لأن المقصود تمثيل الحق بها وتحقيرها لا يناسبه ساقط فتأمل.
ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له كما هو الظاهر، وقال الحوفي: إنه مصدر في موقع الحال أي مبتغين وطالبين اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلى المتخذ من الذهب والفضة واتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الحديد والرصاص وغير ذلك من الفلزات زَبَدٌ خبث مِثْلُهُ أي مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيا فوقه رفع زَبَدٌ على أنه مبتدأ خبره مِمَّا يُوقِدُونَ ومِنَ لابتداء الغاية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه. واستظهر أبو حيان كونها للتبعيض لأن ذلك الزبد بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ولم يرتضه بعض المحققين لإخلاله على ما قال بالتمثيل، وإنما لم يتعرض لإخراج ذلك من الأرض كما تعرض لعنوان إنزال الماء من السماء لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى كما أن للعنوان السابق دخلا فيه بل له إخلال بذلك كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة: يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ أي مثل الحق ومثل الباطل، والحذف للابناء (١)
على كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ من كل من السيل وما يوقدون عليه، وأفرد ولم يثن وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك فَيَذْهَبُ جُفاءً مرميا به يقال: جفا الماء بالزبد إذا قذفه ورمى به، ويقال:
أجفا أيضا بمعناه، وقال ابن الأنباري: جفاء أي متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وفرقته وجفأت الرجل صرعته، ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذا نشف، وقرئ «جفالا» باللام بدل الهمزة وهو بمعنى متفرقا أيضا أخذا من جفلت الريح الغيم كجفأت ونسبت هذه القراءة إلى رؤبة، قال ابن أبي حاتم: ولا يقرأ بقراءته لأنه كان يأكل الفأر يعني أنه كان أعرابيا جافيا، وعنه لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن، والنصب على الحالية وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ أي من الماء
الصافي الخالص من الغثاء والجوهر المعدني الخالص من الخبث فَيَمْكُثُ يبقى فِي الْأَرْضِ أما الماء فيبقى بعضه في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون ونحوها وأما الجوهر المعدني فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد بالمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها، وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل قيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكرهما فإن المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله، وقيل: النكتة في تقديم الزبد على ما ينفع أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره، والآية من الجمع والتقسيم كما لا يخفى.
وحاصل الكلام في الآيتين أنه تعالى مثل الحق وهو القرآن العظيم عند الكثير في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى بها النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة، ومثل الباطل الذي ابتلي به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما وإخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا.
وصح عن أبي موسى الأشعري أنه قال: «قال رسول الله ﷺ إن مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم مثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب اكتسبت الماء نفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به»
وقال ابن عطية: صدر الآية تنبيه على قدرة الله تعالى وإقامة الحجة على الكفرة فلما فرع من ذلك جعله مثالا للحق والباطل والإيمان والكفر واليقين في الشرع والشك فيه، وكأنه أراد بعطف الإيمان وما بعده التفسير للمراد بالحق والباطل. وعن ابن عباس جعل الزبد إشارة إلى الشك والخالص منه إشارة إلى اليقين كَذلِكَ أي مثل ذلك الضرب العجيب يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ في كل باب إظهار الكمال اللطف والعناية في الإرشاد، وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله سبحانه: «يضرب الله الحق والباطل» إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا. وبعد ما بين تعالى شأنه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقال سبحانه: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإن له لما فيه من تصوير المعقول بصورة المحسوس تأثيرا بليغا في تسخير النفوس، والجار والمجرور خبر مقدم، وقوله سبحانه: الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة كما قال قتادة. وغيره، وعن مجاهد الحياة الحسنى أي الطيبة التي لا يشوبها كدر أصلا. وعن ابن عباس أن المراد جزاء الكلمة الحسنى وهي لا إله إلا الله وفيه من البعد ما لا يخفى مبتدأ مؤخر وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ سبحانه وعاندوا الحق الجلي لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من أصناف الأموال جَمِيعاً بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أي بالمذكور مما في الأرض ومثله معه
جميعا ليتخلصوا عما بهم، وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، والموصول مبتدأ والجملة الشرطية خبره وهي على ما قيل واقعة موضع السوأى المقابلة للحسنى الواقعة في القرينة الأولى فكأنه قيل: وللذين لم يستجيبوا له السوأى. وتعقب بأن الشرطية وإن دلت على سوء حالهم لكنها بمعزل عن القيام مقام لفظ السوأى مصحوبا باللام الجارة الداخلة على الموصول أو ضميره وعليه يدور حصول المرام فالذي ينبغي أن يعول عليه أن الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبره أعني الجملة الظرفية خبرا عن الموصول في الحقيقة ومبينا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فكأنه قيل: والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده. واعتذر بأنه يمكن أن يكون المراد أن لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً إلى آخره الآية واقع موقع ذلك على معنى أن رعاية حسن المقابلة لقوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى تقتضي أن يقال: وللذين لم يستجيبوا له السوأى ولا يزاد على ذلك لكنه جيء بقوله سبحانه: لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ بدل ما ذكر، ولعل في كلام الطيبي ما يستأنس به لذلك. وإلى اعتبار السوأى في المقابلة ذهب أيضا صاحب الكشف قال: إن قوله تعالى لَوْ أَنَّ لَهُمْ في مقابلة الحسنى بدل السوأى مع زيادة تصوير وتحسير، وأوثر الإجمال في الأول دلالة على أن جزاء المستجيبين لا يدخل تحت الوصف فتدبر، والمراد بسوء الحساب أي الحساب السيء على ما روي عن إبراهيم النخعي. والحسن أن يحاسبوا بذنوبهم كلها لا يغفر لهم منها شيء وهو المعني بالمناقشة. وعن ابن عباس هو أن يحاسبوا فلا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم وَمَأْواهُمْ أي مرجعهم جَهَنَّمُ بيان لمؤدى ما تقدم وفيه نوع تأييد لتفسير الحسنى بالجنة وَبِئْسَ الْمِهادُ أي المستقر، والمخصوص بالذم محذوف أي مهادهم أو جهنم.
وقال الزمخشري: اللام في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا متعلقة بيضرب الله الأمثال وقوله سبحانه:
الْحُسْنى صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله عز وجل: وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا معطوف على الموصول الأول، وقوله جل وعلا: لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب، والمعنى كذلك يضرب الله تعالى الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين انتهى، قال أبو حيان: والتفسير الأول أولى لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأن فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف هذا ولأن تقدير الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا وإنما هو نفي الاستجابة الحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ولأنه حينئذ يكون لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ كلاما مفلتا أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم إلخ، ولو كان هنا حرف يربط لَوْ بما قبلها زال التفلت، وأيضا أنه يوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما: وتعقب بأنه لا كلام في أولوية التفسير الأول لكن كون ما ذكر وجها لها محل كلام إذ لا مقتضى في التفسير الثاني لتقييد الأمثال عموما بمثل هذين، ألا ترى قوله تعالى: كَذلِكَ ثم إن فيه تفهيم ثواب المستجيبين أيضا ألا يرى إلى القصر المستفاد من تقديم الظرف، وأيضا قوله تعالى:
الْحُسْنى صفة كاشفة لا مفهوم لها فإن الاستجابة لله تعالى لا تكون إلا حسنى وكيف يكون قوله سبحانه: لَوْ أَنَّ لَهُمْ إلخ مفلتا وقد قالوا: إنه كلام مبتدأ لبيان حال المستجيبين يعنون أنه استئناف بياني جواب للسؤال عن مآل حالهم ثم كيف يتوهم الاشتراك مع كون تخصيصه بالكافرين معلوما انتهى. قال بعض المحققين: إن ما ذكر متوجه
بحسب بادئ الرأي والنظرة الأولى أما إذا نظر بعين الإنصاف بعد تسليم أن ذاك أولى وأقوى علم أن ما قاله أبو حيان وارد فإن قوله تعالى: كَذلِكَ يقتضي أن هذا شأنه وعادته عز شأنه في ضرب الأمثال فيقتضي أن ما جرت به العادة القرآنية مقيد بهؤلاء وليس كذلك، وما ذكره المتعقب ولو سلم فهو خلاف الظاهر. وأما قوله: إن المستجيبين معلوم مما ذكره ففرق بين العلم ضمنا والعلم صراحة، وأما أن الصفة مؤكدة أولا مفهوم لها فخلاف الأصل أيضا، وكون الجملة غير مرتبطة بما قبلها ظاهر، والسؤال عن حال أحد الفريقين مع ذكرهما ملبس، وعود الضمير على ما قبله مطلقا هو المتبادر وما ذكر لا يدفع الإيهام. وفي إرشاد العقل السليم بعد نقل التفسير الأخير وحمل الأمثال فيه على الأمثال السابقة: وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل. نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله تعالى:
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [التحريم: ١١] ونظائره، على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال: كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين ويؤيد هذا ما في الكشف حيث قال: إن جعل لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا من تتمة الأمثال لا من صلة يضرب متكلف لأنهما مثلا الحق والباطل بالأصالة ومن صلة يَضْرِبُ أبعد لأن الأمثال إنما ضربت لمن يعقل.
ثم إن كون المراد بالأمثال الأمثال السابقة مبني على أن ما تقدم كان أمثالا والمشهور أنه مثلان، نعم أخرج ابن جرير. وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: هذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، وبعد هذا كله لا شك في سلامة التفسير الأول من القيل والقال وإنه الذي يستدعيه النظم الجليل لأن تمام حسن الفاصلة أن تكون كاسمها ولهذا انحط قول امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي | بصبح وما الإصباح منك بأمثل |
إذا كان مدحا فالنسيب المقدم | أكل فصيح قال شعرا متيم |
ومن باب الإشارة: المر أي الذات الأحدية واسمه العليم واسمه الأعظم ومظهره الذي هو الرحمة تِلْكَ آياتُ علامات الْكِتابِ الجامع الذي هو الوجود المطلق اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها أي بغير عمد مرئية بل بعمد غير مرئية، وجعل الشيخ الأكبر قدس سره عمادها الإنسان الكامل، وقيل: النفس المجردة التي تحركها بواسطة النفس المنطبعة وهي قوة جسمانية سارية في جميع أجزاء الفلك لا يختص بها جزء دون جزء لبساطته وهي بمنزلة الخيال فينا وفيه ما فيه، وقيل: رفع سموات الأرواح بلا مادة تعمدها بل مجردة قائمة بنفسها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالتأثير والتقويم، وقيل: عرش القلب بالتجلي وَسَخَّرَ الشَّمْسَ شمس الروح بإدراك المعارف الكلية واستشراف الأنوار العالية «والقمر» قمر القلب بإدراك ما في العالمين والاستمداد من فوق ومن تحت ثم قبول تجليات الصفات كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وهو كماله بحسب الفطرة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ في البداية بتهيئة الاستعداد وترتيب صفحة رقم 127
المبادئ يُفَصِّلُ الْآياتِ في النهاية بترتيب الكمالات والمقامات لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ عند مشاهدة آيات التجليات تُوقِنُونَ عين اليقين.
وقال ابن عطاء: يدبر الأمر بالقضاء السابق ويفصل الآيات بأحكام الظاهر لعلكم توقنون أن الله تعالى الذي يجري تلك الأحوال لا بد لكم من الرجوع إليه سبحانه وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ أي أرض قلوب أوليائه ببسط أنوار المحبة وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ المعرفة لئلا تتزلزل بغلبة هيجان المواجيد وجعل فيها أَنْهاراً من علوم الحقائق وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وهي ثمرات أشجار الحكم المتنوعة يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تجلى الجلال وتجلى الجمال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في آيات الله تعالى، قال أبو عثمان: الفكر إراحة القلب من وساوس التدبير، وقيل: تصفيته لوارد الفوائد، وقيل: الإشارة في ذلك إلى مد أرض الجسد وجعل رواسي العظام فيها وأنهار العروق وثمرات الأخلاق من الجود والبخل والفجور والعفة والجبن والشجاعة والظلم والعدل وأمثالها والسواد والبياض والحرارة والبرودة والملاسة والخشونة ونحوها، وتغشية ليل ظلمة الجسمانيات نهار الروحانيات وفي ذلك آيات لقوم يفتكرون في صنع الله تعالى وتطابق عالميه الأصغر والأكبر وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ فقلوب المحبين مجاورة لقلوب المشتاقين وهي لقلوب العاشقين وهي لقلوب الوالهين وهي لقلوب الهائمين وهي لقلوب العارفين وهي لقلوب الموحدين، وقيل: في أرض القلوب قطع متجاورات قطع النفوس وقطع الأرواح وقطع الأسرار وقطع العقول والأولى تنبت شوك الشهوات والثانية زهر المعارف والثالثة نبات كواشف الأنوار والرابعة أشجار نور العلم وفيها جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ أي أعناب العشق وَزَرْعٌ أي زرع دقائق المعرفة وَنَخِيلٌ أي نخل الإيمان صِنْوانٌ في مقام الفرق وَغَيْرُ صِنْوانٍ في مقام الجمع، وقيل: صنوان إيمان مع شهود وغير صنوان إيمان بدونه يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وهو التجلي الذي يقتضيه الجود المطلق وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ في الطعم الروحاني، وقيل: أشير أيضا إلى أن في أرض الجسد قطعا متجاورات من العظم واللحم والشحم والعصب وجنات من أشجار القوى الطبيعية والحيوانية والإنسانية من أعناب القوى الشهوانية التي يعصر منها هوى النفس والقوى العقلية التي يعصر منها خمر المحبة والعشق وزرع القوى الإنسانية ونخيل سائر الحواس الظاهرة والباطنة صنوان كالعينين والأذنين وغير صنوان كاللسان وآلة الفكر والوهم يسقى بماء واحد وهو ماء الحياة ونفضل بعضها على بعض في أكل الإدراكات والملكات كتفضيل مدركات العقل على الحس والبصر على اللمس وملكة الحكمة على العفة وهكذا وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ بعد ظهور الآيات أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ولم يعلموا أن القادر على ذلك قادر على أن يحيي الموتى.
وقيل: إن منشأ التعجب أنهم أنكروا الخلق الجديد يوم القيامة مع أن الإنسان في كل ساعة في خلق آخر جديد بل العالم بأسره في كل لحظة يتجدد بتبدل الهيئات والأحوال والأوضاع والصور، وإلى كون العالم كل لحظة في خلق جديد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره فعنده الجوهر وكذا العرض لا يبقى زمانين كما أن العرض عند الأشعري كذلك، وهذا عند الشيخ قدس سره مبني على أن الجواهر والأعراض كلها شؤونه تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا وهو سبحانه كل يوم أي وقت في شأن، وأكثر الناس ينكرون على الأشعري قوله بتجدد الأعراض، والشيخ قدس سره زاد في الشطرنج جملا ولا يكاد يدرك ما يقول بالدليل بل هو موقوف على الكشف والشهود، وقد اغتر كثير من الناس بظاهر كلامه فاعتقدوه من غير تدبر فضلوا وأضلوا أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ فلم يعرفوا عظمته سبحانه وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ فلا يقدرون أن يرفعوا رؤوسهم المنكسة إلى النظر في الآيات وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ
فِيها خالِدُونَ
لعظم ما أتوا به وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بمناسبة استعدادهم للشر وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ عقوبة أمثالهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أنفسهم باكتساب الأمور الحاجبة لهم عن النور ولم ترسخ فيهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ لمن رسخت فيه وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لعمى بصائرهم عن مشاهدة الآيات الشاهدة بالنبوة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ تشهد له ﷺ بذلك إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ما عليك إلا إنذارهم لا هدايتهم وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ هو الله تعالى، وقيل: لكل طائفة شيخ يعرفهم طريق الحق اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى فيعلم ما تحمل أنثى النفس من ولد الكمال أي ما في قوة كل استعداد وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ أي تنقص أرحام الاستعداد بترك النفس وهواها وَما تَزْدادُ بالتزكية وبركة الصحبة وَكُلُّ شَيْءٍ من الكمالات عِنْدَهُ سبحانه بِمِقْدارٍ معين على حسب القابلية سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في ممكن استعداده وَمَنْ جَهَرَ بِهِ بإبرازه إلى الفعل وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ ظلمة ظلمه نفسه وَسارِبٌ بِالنَّهارِ بخروجه من مقام النفس وذهابه في نهار نور الروح لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إشارة إلى سوابق الرحمة الحافظة له من خاطفات الغضب أو الإمدادات الملكوتية الحافظة له من جنب القوى الخيالية والوهمية والسبعية والبهيمية وإهلاكها إياه إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من النعم الظاهرة أو الباطنة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الاستعداد وقوة القبول قال النصرابادي: إن هذا الحكم عام لكن مناقشة الخواص فوق مناقشة العوام، وعن بعض السلف أنه قال: إن الفأرة مزقت خفي وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته وإلا لما سلطها علي وتمثل بقول الشاعر:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي | بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا |
إذا لم يكن عون من الله للفتى | فأول ما يجني عليه اجتهاده |
أظلت علينا منك يوما غمامة | أضاءت لنا برقا وأبطا رشاشها |
فلا غيمها يصحو فييأس طامع | ولا غيثها يأتي فيروي عطاشها |
ما كان ما أوليت من وصلنا | إلا سراجا لاح ثم انطفى |
صواعق السبحات الإلهية عند تجلي القهر الحقيقي المتضمن للّطف الكلي فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيحرقه عن بقية نفس،
وفي الخبر «إن لله تعالى سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»
وقال ابن الزنجاني: الرعد صعقات الملائكة والبرق ذفرات أفئدتهم والمطر بكاؤهم، وجعل الزمخشري هذا من بدع المتصوفة، وكأني بك تقول: إن أكثر ما ذكر في باب الإشارة من هذا الكتاب من هذا القبيل.
والجواب إنا لا ندعي إلا الإشارة وأما أن ذلك مدلول اللفظ أو مراد الله تعالى فمعاذ الله تعالى من أن يمر بفكري، واعتقاد ذلك هو الضلال البعيد والجهل الذي ليس عليه مزيد، وقد نص المحققون من الصوفية على أن معتقد ذلك كافر والعياذ بالله تعالى، ولعلك تقول: كان الأولى مع هذا ترك ذلك. فنقول: قد ذكر مثله من هو خير منا والوجه في ذكره غير خفي عليك لو أنصفت وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ بالتفكر في ذاته والنظر للوقوف على حقيقة صفاته وَهُوَ سبحانه شَدِيدُ الْمِحالِ في دفع الأفكار والأنظار عن حرم ذاته وحمى صفاته جل جلاله:
هيهات أن تصطاد عنقاء البقاء | بلعابهن عناكب الأفكار |
وقيل: الساجدون طوعا أهل الكشف والشهود والساجدون كرها أهل النظر والاستدلال أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من سماء روح القدس ماءً أي ماء العلم فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أي أودية القلوب بِقَدَرِها بقدر استعدادها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً من خبث صفات أرض النفس رابِياً طافيا على ذلك وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ نار العشق من المعارف والكشوف والحقائق والمعاني التي تهيج العشق ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب زينة النفس لكونها كمالات لها أَوْ مَتاعٍ من الفضائل الخلقية التي تحصل بسببها فإنها مما تتمتع به النفس ما زَبَدٌ خبث مِثْلُهُ كالنظر إليها ورؤيتها والإعجاب بها وسائر ما يعد من آفات النفس «فأما الزبد فيذهب جفاء» منفيا بالعلم «وأما ما ينفع الناس» من المعاني الحقة والفضائل الخالصة «فيمكث في الأرض» أرض النفس، وقال بعضهم: إنه تعالى شبه ما ينزل من مياه بحار ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله إلى قلوب الموحدين والعارفين والمكاشفين والمريدين بما ينزل من السماء إلى الأودية، فكما تحمل الأودية حسب اختلافها ماء المطر تحمل تلك القلوب مياه هاتيك البحار حسب اختلاف حواصلها وأقدار استعداداتها في المحبة والمعرفة والتوحيد، وكما أن قطرات الأمطار تكون في الأودية سيلا فيحتمل السيل زبدا وحثالة وما يكون مانعا من الجريان يكون تواتر أنوار الحق سبحانه سيل المعارف والكشوفات فيسيل في أودية القلوب فيحتمل من أوصاف البشرية وما دون الحق الذي يمنع القلوب من رؤية الغيوب ما يحتمله فيذهب جفاء فتصير حينئذ مقدسة عن زبد الرياء والسمعة والنفاق والخواطر المذمومة وتبقى سائحة في أنوار الأزل والأبد بلا مانع من العرش إلى الثرى، وشبه سبحانه أعمال الظاهر والباطن وما ينفتح بمفاتيحها من الغيب بجواهر الأرض من الذهب والفضة وغيرهما إذا أذيبا للانتفاع بهما وبين تعالى أن لهما زبدا مثل زبد السيل وأنه يذهب ويمكث أصلهما الصافي، فكذلك أعمال الظاهر والباطن تدخل في بودقة الإخلاص ويوقد عليهما نيران الامتحان فيذهب ما فيه حظ النفس صفحة رقم 130