أما قوله تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ فَكَلَامُ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لَا يُغَيِّرُ مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النِّعَمِ بِإِنْزَالِ الِانْتِقَامِ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالظَّاهِرُ لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِمَّا يَفْعَلُهُ تَعَالَى سِوَى الْعِقَابِ إِلَّا وَقَدْ يَبْتَدِئُ بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ دُونِ تَغْيِيرٍ يَصْدُرُ مِنَ الْعَبْدِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ بِالنِّعَمِ دِينًا وَدُنْيَا وَيُفَضِّلُ فِي ذَلِكَ مَنْ شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، فَالْمُرَادُ مِمَّا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّغْيِيرُ بِالْهَلَاكِ وَالْعِقَابِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَبَعْضُهُمْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [الرعد: ٦] فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُنْزِلُ بِهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِلَّا وَالْمَعْلُومُ مِنْهُمُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ، حَتَّى قَالُوا: إِذَا كَانَ الْمَعْلُومُ أَنَّ فِيهِمْ مَنْ يُؤْمِنُ أَوْ فِي عَقِبِهِ مَنْ يُؤْمِنُ فَإِنَّهُ تَعَالَى لَا يُنْزِلُ عَلَيْهِمْ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْكَلَامُ يَجْرِي عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ قَوْمٍ بَالَغُوا فِي الْفَسَادِ وَغَيَّرُوا طَرِيقَتَهُمْ فِي إِظْهَارِ عُبُودِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّهَ يُزِيلُ عَنْهُمُ النِّعَمَ وَيُنْزِلُ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعًا مِنَ الْعَذَابِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ الَّذِي يَكُونُ مُخْتَلِطًا بِأُولَئِكَ الْأَقْوَامِ فَرُبَّمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَذَابِ.
رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِقَابٍ»
وَاحْتَجَّ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ وَالْقَاضِي بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي مَسْأَلَتَيْنِ:
المسألة الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَا يُعَاقِبُ أَطْفَالَ الْمُشْرِكِينَ بِذُنُوبِ آبَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَيُغَيِّرُ اللَّهُ حَالَهُمْ مِنَ النِّعْمَةِ إِلَى الْعَذَابِ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَالُوا: الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْمُجْبِرَةِ إِنَّهُ تَعَالَى يَبْتَدِئُ الْعَبْدَ بِالضَّلَالِ وَالْخِذْلَانِ أَوَّلَ مَا يَبْلُغُ وَذَلِكَ أَعْظَمُ مِنَ الْعِقَابِ، مَعَ أَنَّهُ مَا كَانَ مِنْهُ تَغْيِيرٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ اللَّهِ فِي التَّغْيِيرِ مُؤَخَّرٌ عَنْ فِعْلِ الْعَبْدِ، إلا أن قوله تعالى:
وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الْإِنْسَانِ: ٣٠] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ مُؤَخَّرٌ عَنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ التَّعَارُضُ.
وَأما قوله: وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فَقَدِ احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ فِي الْفِعْلِ. قَالُوا: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا كَفَرَ الْعَبْدُ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَعَالَى يَحْكُمُ بِكَوْنِهِ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْتَقِلًّا بِتَحْصِيلِ الْإِيمَانِ لَكَانَ قَادِرًا عَلَى رَدِّ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ قَوْلُهُ:
وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فَثَبَتَ أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ وَإِنْ أَشْعَرَتْ بِمَذْهَبِهِمْ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مِنْ أَقْوَى الدَّلَائِلِ عَلَى مَذْهَبِنَا. قَالَ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمْ تُغْنِ الْمُعَقِّبَاتُ شَيْئًا، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنْهُ: لَا رَادَّ لِعَذَابِي وَلَا نَاقِضَ لِحُكْمِي: وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ أَيْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ، وَيَمْنَعُ قَضَاءَ اللَّهِ عَنْهُمْ، وَالْمَعْنَى: مَا لَهُمْ والٍ يَلِي أَمْرَهُمْ، ويمنع العذاب عنهم.
[سورة الرعد (١٣) : الآيات ١٢ الى ١٣]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (١٣)
اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا خَوَّفَ الْعِبَادَ بِإِنْزَالِ مَا لَا مَرَدَّ لَهُ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ،
وَذَلِكَ لِأَنَّهَا دَلَائِلُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ، وَأَنَّهَا تُشْبِهُ النِّعَمَ وَالْإِحْسَانَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، وَتُشْبِهُ الْعَذَابَ وَالْقَهْرَ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ هَاهُنَا أُمُورًا أَرْبَعَةً. الْأَوَّلُ: الْبَرْقُ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ: خَوْفاً وَطَمَعاً وجوه. الأول: لا يصح أن يكونا مَفْعُولًا لَهُمَا لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِفِعْلِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ إِلَّا عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ إِرَادَةَ خَوْفٍ وَطَمَعٍ أَوْ عَلَى مَعْنَى إِخَافَةً وَإِطْمَاعًا. الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مُنْتَصِبَيْنِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْبَرْقِ كَأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ خَوْفٌ وَطَمَعٌ وَالتَّقْدِيرُ: ذَا خَوْفٍ وَذَا طَمَعٍ أَوْ عَلَى مَعْنَى إِيخَافًا وَإِطْمَاعًا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَا حَالًا مِنَ الْمُخَاطَبِينَ أَيْ خَائِفِينَ وَطَامِعِينَ.
المسألة الثَّانِيَةُ: فِي كَوْنِ الْبَرْقِ خَوْفًا وَطَمَعًا وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّ عِنْدَ لَمَعَانِ الْبَرْقِ يُخَافُ وُقُوعُ الصَّوَاعِقِ وَيُطْمَعُ فِي نُزُولِ الْغَيْثِ قَالَ الْمُتَنَبِّي:
فَتًى كَالسَّحَابِ الْجَوْنِ يَخْشَى وَيَرْتَجِي | يُرَجِّي الْحَيَا منها ويخشى الصواعق |
المسألة الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حُدُوثَ الْبَرْقِ دَلِيلٌ عَجِيبٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُهُ أَنَّ السَّحَابَ لَا شَكَّ أَنَّهُ جِسْمٌ مركب في أَجْزَاءٍ رَطْبَةٍ مَائِيَّةٍ، وَمِنْ أَجْزَاءٍ هَوَائِيَّةٍ وَنَارِيَّةٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهِ الْأَجْزَاءُ الْمَائِيَّةُ والماء جسم بارد رطب، والنار جسم حار يَابِسٌ وَظُهُورُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ التَّامِّ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ صَانِعٍ مُخْتَارٍ يُظْهِرُ الضِّدَّ مِنَ الضِّدِّ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرِّيحَ احْتَقَنَ فِي دَاخِلِ جِرْمِ السَّحَابِ وَاسْتَوْلَى الْبَرْدُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَانْجَمَدَ السَّطْحُ الظَّاهِرُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الرِّيحَ يُمَزِّقُهُ تَمْزِيقًا عَنِيفًا فَيَتَوَلَّدُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْزِيقِ الشَّدِيدِ حَرَكَةٌ عَنِيفَةٌ، وَالْحَرَكَةُ الْعَنِيفَةُ مُوجِبَةٌ لِلسُّخُونَةِ وَهِيَ الْبَرْقُ؟
وَالْجَوَابُ: أَنَّ كُلَّ مَا ذَكَرْتُمُوهُ عَلَى خِلَافِ الْمَعْقُولِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٌ. الْأَوَّلُ: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: أَيْنَمَا يَحْصُلِ الْبَرْقُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَحْصُلَ الرَّعْدُ وَهُوَ الصَّوْتُ الْحَادِثُ مِنْ تَمَزُّقِ السَّحَابِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ كَثِيرًا مَا يَحْدُثُ الْبَرْقُ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ الرَّعْدِ. الثَّانِي: أَنَّ السُّخُونَةَ الْحَاصِلَةَ بِسَبَبِ قُوَّةِ الْحَرَكَةِ مُقَابِلَةٌ لِلطَّبِيعَةِ الْمَائِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْبَرْدِ، وَعِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْعَارِضِ الْقَوِيِّ كَيْفَ تَحْدُثُ النَّارِيَّةُ؟
بَلْ نَقُولُ: النِّيرَانُ الْعَظِيمَةُ تَنْطَفِئُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا، وَالسَّحَابُ كُلُّهُ مَاءٌ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِ شُعْلَةٌ ضَعِيفَةٌ نَارِيَّةٌ؟ الثَّالِثُ: مِنْ مَذْهَبِكُمْ أَنَّ النَّارَ الصِّرْفَةَ لَا لَوْنَ لَهَا الْبَتَّةَ، فَهَبْ أَنَّهُ حَصَلَتِ النَّارِيَّةُ بِسَبَبِ قُوَّةِ الْمُحَاكَّةِ الْحَاصِلَةِ بِأَجْزَاءِ السَّحَابِ لَكِنْ مِنْ أَيْنَ حَدَثَ ذَلِكَ اللَّوْنُ الْأَحْمَرُ؟ فَثَبَتَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي ذَكَرُوهُ ضَعِيفٌ وَأَنَّ حُدُوثَ النَّارِ الْحَاصِلَةِ فِي جِرْمِ السَّحَابِ مَعَ كَوْنِهِ مَاءً خَالِصًا لَا يُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ القادر الحكيم. صفحة رقم 21
النوع الثاني: من الدلائل المذكورة في هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : السَّحَابُ اسْمُ جِنْسٍ وَالْوَاحِدَةُ سَحَابَةٌ وَالثِّقَالُ جَمْعُ ثَقِيلَةٍ لِأَنَّكَ تَقُولُ سَحَابَةٌ ثَقِيلَةٌ وَسَحَابٌ ثِقَالٌ كَمَا تَقُولُ امْرَأَةٌ كَرِيمَةٌ وَنِسَاءٌ كِرَامٌ وَهِيَ الثِّقَالُ بِالْمَاءِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا أَيْضًا مِنْ دَلَائِلِ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ الْمَائِيَّةَ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهَا حَدَثَتْ فِي جَوِّ الْهَوَاءِ أَوْ يُقَالُ إِنَّهَا تَصَاعَدَتْ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُدُوثُهَا بِإِحْدَاثِ مُحْدِثٍ حَكِيمٍ قَادِرٍ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ إِنَّ تِلْكَ الْأَجْزَاءَ تَصَاعَدَتْ مِنَ الْأَرْضِ فَلَمَّا وَصَلَتْ إِلَى الطَّبَقَةِ الْبَارِدَةِ مِنَ الْهَوَاءِ بَرَدَتْ فَثَقُلَتْ فَرَجَعَتْ إِلَى الْأَرْضِ فَنَقُولُ هَذَا بَاطِلٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْطَارَ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً تَكُونُ الْقَطَرَاتُ كَبِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ صَغِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ مُتَقَارِبَةً، وَأُخْرَى تَكُونُ مُتَبَاعِدَةً وَتَارَةً تَدُومُ مُدَّةَ نُزُولِ الْمَطَرِ زَمَانًا طَوِيلًا وَتَارَةً قَلِيلًا فَاخْتِلَافُ الْأَمْطَارِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مَعَ أَنَّ طَبِيعَةَ الْأَرْضِ وَاحِدَةٌ، وَطَبِيعَةَ الشَّمْسِ الْمُسَخِّنَةِ لِلْبُخَارَاتِ وَاحِدَةٌ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ وو أيضا فَالتَّجْرِبَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ لِلدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ فِي نُزُولِ الْغَيْثِ أَثَرًا عَظِيمًا وَلِذَلِكَ كَانَتْ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ مَشْرُوعَةً، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُؤَثِّرَ فِيهِ هُوَ قُدْرَةُ الْفَاعِلِ لَا الطَّبِيعَةُ وَالْخَاصِّيَّةُ.
النوع الثَّالِثُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الرَّعْدُ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَفِيهِ أَقْوَالٌ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَهَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ هُوَ صَوْتُ ذَلِكَ الْمَلَكِ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْيَهُودَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الرَّعْدِ مَا هُوَ؟ فَقَالَ: «مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ مَعَهُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ يَسُوقُ بِهَا السَّحَابَ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ». قَالُوا: فَمَا الصَّوْتُ الَّذِي نَسْمَعُ؟ قَالَ:
«زَجْرُهُ السَّحَابَ»
وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ لَيْسَ بِمَلَكٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الرَّعْدُ هُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالسَّحَابِ وَصَوْتُهُ تَسْبِيحٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ الصَّوْتُ أَيْضًا يُسَمَّى بِالرَّعْدِ وَيُؤَكِّدُ هَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ وَيَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ فَنُطْقُهُ الرَّعْدُ وَضَحِكُهُ الْبَرْقُ».
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الْبِنْيَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا لِحُصُولِ الْحَيَاةِ فَلَا يَبْعُدُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَخْلُقَ الْحَيَاةَ وَالْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالنُّطْقَ فِي أَجْزَاءِ السَّحَابِ فَيَكُونُ هَذَا الصَّوْتُ الْمَسْمُوعُ فِعْلًا لَهُ وَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ ذَلِكَ ونحن نرى ن السَّمَنْدَلَ يَتَوَلَّدُ فِي النَّارِ، وَالضَّفَادِعَ تَتَوَلَّدُ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ، وَالدُّودَةَ الْعَظِيمَةِ رُبَّمَا تَتَوَلَّدُ فِي الثُّلُوجِ الْقَدِيمَةِ، وَأَيْضًا فَإِذَا لَمْ يَبْعُدْ تَسْبِيحُ الْجِبَالِ فِي زَمَنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَا تَسْبِيحُ الْحَصَى فِي زَمَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ تَسْبِيحُ السَّحَابِ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهَذَا الشَّيْءُ الْمُسَمَّى بِالرَّعْدِ مَلَكٌ أَوْ لَيْسَ/ بِمَلَكٍ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلَكٍ لِأَنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَقَالَ: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ مُغَايِرٌ لِلْمَعْطُوفِ. وَالثَّانِي: وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الْمَلَائِكَةِ وَإِنَّمَا إِفْرَادُهُ بِالذِّكْرِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [الْبَقَرَةِ: ٩٨] وَفِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [الْأَحْزَابِ: ٧].
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الرَّعْدَ اسْمٌ لِهَذَا الصَّوْتِ الْمَخْصُوصِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرَّعْدَ يُسَبِّحُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، لِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُمَا لَيْسَ إِلَّا وُجُودَ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ التَّنْزِيهِ وَالتَّقْدِيسِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَمَّا كَانَ حدوث هذا الصوت دليلا على وجود مُتَعَالٍ عَنِ النَّقْصِ وَالْإِمْكَانِ، كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ تَسْبِيحًا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الْإِسْرَاءِ: ٤٤].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ كَوْنِ الرَّعْدِ مُسَبِّحًا أَنَّ مَنْ يَسْمَعُ الرَّعْدَ فَإِنَّهُ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى، فَلِهَذَا الْمَعْنَى أُضِيفَ هَذَا التَّسْبِيحُ إِلَيْهِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: مِنْ كَلِمَاتِ الصُّوفِيَّةِ الرَّعْدُ صَعْقَاتُ الْمَلَائِكَةِ، وَالْبَرْقُ زَفَرَاتُ أَفْئِدَتِهِمْ، وَالْمَطَرُ بُكَاؤُهُمْ.
فَإِنْ قِيلَ: وَمَا حَقِيقَةُ الرَّعْدِ؟
قُلْنَا: اسْتَقْصَيْنَا الْقَوْلَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» فِي قَوْلِهِ: فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ [الْبَقَرَةِ: ١٩].
أما قوله: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ فَاعْلَمْ أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ يَقُولُ: عَنَى بِهَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَةِ أَعْوَانَ الرَّعْدِ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لَهُ أَعْوَانًا، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ أَيْ وَتُسَبِّحُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَخَشْيَتِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: إِنَّهُمْ خَائِفُونَ مِنَ اللَّهِ لَا كَخَوْفِ ابْنِ آدَمَ، فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَا يَعْرِفُ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ وَمَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَا يَشْغَلُهُ عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ طَعَامٌ وَلَا شَرَابٌ وَلَا شَيْءٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ الْحُكَمَاءِ يَذْكُرُونَ أَنَّ هَذِهِ الْآثَارَ الْعُلْوِيَّةَ إِنَّمَا تَتِمُّ بِقُوًى رُوحَانِيَّةٍ فَلَكِيَّةٍ، فَلِلسَّحَابِ رُوحٌ مُعِينٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْفَلَكِيَّةِ يُدَبِّرُهُ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي الرِّيَاحِ وَفِي سَائِرِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ، وَهَذَا عَيْنُ مَا نَقَلْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّعْدَ اسْمُ مَلَكٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ اللَّهَ، فَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِهَذِهِ العبارة هو عين مَا ذَكَرَهُ الْمُحَقِّقُونَ عَنِ الْحُكَمَاءِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ الْإِنْكَارُ؟
النوع الرَّابِعُ: مِنَ الدَّلَائِلِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى الصَّوَاعِقِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَامِرِ/ بْنِ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ أَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمَانِهِ وَيُجَادِلَانِهِ، وَيُرِيدَانِ الْفَتْكَ بِهِ، فَقَالَ أَرْبَدُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ: أَخْبِرْنَا عَنْ رَبِّنَا أَمِنْ نُحَاسٍ هُوَ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا رَجَعَ أَرْبَدُ أَرْسَلَ عَلَيْهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُ، وَرَمَى عَامِرًا بِغُدَّةٍ كَغُدَّةِ الْبَعِيرِ، وَمَاتَ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ الصَّاعِقَةِ عَجِيبٌ جِدًّا وَذَلِكَ لِأَنَّهَا تَارَةً تَتَوَلَّدُ مِنَ السَّحَابِ، وَإِذَا نَزَلَتْ مِنَ السَّحَابِ فَرُبَّمَا غَاصَتْ فِي الْبَحْرِ وَأَحْرَقَتِ الْحِيتَانَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ، وَالْحُكَمَاءُ بَالَغُوا فِي وَصْفِ قُوَّتِهَا، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ النَّارَ حَارَّةٌ يَابِسَةٌ وَطَبِيعَتُهَا ضِدُّ طَبِيعَةِ السَّحَابِ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ طَبِيعَتُهَا فِي الْحَرَارَةِ وَالْيُبُوسَةِ أَضْعَفَ مِنْ طَبِيعَةِ النِّيرَانِ الْحَادِثَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْعَادَةِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهَا أَقْوَى نِيرَانِ هَذَا الْعَالَمِ، فَثَبَتَ أَنَّ اخْتِصَاصَهَا بِمَزِيدِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ تَخْصِيصِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ هَذِهِ الدَّلَائِلَ الْأَرْبَعَةَ قَالَ: وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ دَلَائِلَ كَمَالِ عِلْمِهِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى [الرَّعْدِ: ٨] وَبَيَّنَ دَلَائِلَ كمال القدرة في هذه الآيات.