
وإذا أردت أن تقف على الموزونات راجع الآيتين المذكورتين آنفا في سورة الحجر قال تعالى «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ» عند الله لا فرق بينهما لديه «وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ» (١٠) ذاهب على وجه الأرض، والسّرب بفتح السّين وسكون الرّاء هو الماشية كلها والطّريق وبالكسر لقطيع من النّساء والظّباء وبفتحتين الحفرة تحت الأرض والقناة وجاء في الحديث (آمنا في سربك) أي أهلك، والمعنى أن كلّ ذلك عند الله سواء لا يختلف عنده حال عن حال فالسر والعلانية والخفاء والظّهور عنده سواسية
«لَهُ» لذلك الإله العظيم «مُعَقِّباتٌ» ملائكة يتعاقبون ليل نهار «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ» من أمام كلّ عبد من عبيده «وَمِنْ خَلْفِهِ» ورائه «يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» قدره وقضائه بأمر الله وإذنه، ومعقبات جمع معقبة، ومعقبة جمع عاقب، ولا يستدل بهذا أن الملائكة إناث كما زعم البعض، لأن جمع الجمع مثل رجالات جمع رجال ورجال جمع رجل، والملائكة لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال يتعاقبون فيكم ملائكة. وعلى هذا الحديث. وقوله تعالى (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الآية الثالثة من سورة الأنبياء في ج ٢، جاءت لغة (أكلوني البراغيث) على أن يكون الواو في الفعل ضمير جمع فقط والفاعل البراغيث، كما أن الملائكة في الحديث (والّذين في الآية) هما الفاعل، والواو في الفعلين ضمير جمع فقط أي يحرسونه بالليل والنّهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الّذين باتوا فيكم فيسألهم وهو أعلم كيف تركتم عبادي، فيقولون تركناهم وهم يصلون، وآتيناهم وهم يصلون، وهذه الآية عامة، لأن الله تعالى وكلّ بكل نفس من من يحفظها من ملائكته. وروي عن ابن عباس وغيره لما جاء عامر بن الطّفيل وزيد بن ربيعة من بني عامر بن زيد قال عامر يا محمد مالي إن أسلمت؟ قال لك ما للمسلمين وعليك ما عليهم (ومن هنا يعلم أن ليس لأحد أن يشترط على إمام المسلمين شرطا يتميز به عن بقية المسلمين) قال تجعل الأمر لي من بعدك؟ قال ليس ذلك لي إنما هو لله تعالى يجعله حيث يشاء، قال فتجعلني على الدّبر أي البادية؟

أنت على المدر أي المدن؟ قال لا، قال فما تجعل لي؟ قال أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها، قال أو ليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه صلّى الله عليه وسلم لانه كبير قومه وأوعز إلى رفيقه زيد (أو أريد أخي لبيد) إني إذا كلمته قدر خلفه واضربه بالسّيف، فجعل عامر يخاصم الرّسول ويراجعه، فجاء زيد أو أربد واخترط السّيف ليضربه فلم ينسل، فالتفت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرآه ماسكا قبضة السيف ومسلول منه قدر شبر، فقال اللهم اكفتيهما بما شئت، فأرسل الله صاعقة على زيد في يوم صحر فأحرقته، وهرب عامر وهو يقول والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا لأنك دعوت ربك فقتل صاحبي زيدا، فقال الله يمنعني فخرج خراج أصل أذن عامر وهو في بيت امرأة سلولية وصارت له غدة كغدة البعير، ركب جواده وجعل يركض في الصّحراء، ومات على ظهره. وهذه معجزتان صلّى الله عليه وسلم وأنزل الله (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) الى السّجدة الآتية قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ» من النّعم والعافية التي أنعم بها على هذين الخبيثين وغيرهم لأن المعنى عام وخصوص السّبب لا يقيده ولا يخصصه «حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» من النية والعمل الحسن إلى النّية السّيئة والعمل القبيح فيبدل الله نعمهم نقما وصحتهم سقما وخيرهم شرا وتوفيقهم خذلانا وكثرتهم قلة وخصبهم جدبا وعزهم ورياستهم ذلا ومهانة كما فعل بعامر ورفيقه زيد الّذين أرادا أن يمكرا بحضرة الرسول ويغدرا به فحنظه الله وأهلكهما أي أن الله تعالى لا يزال مديما نعمه عباده حتى يتسببوا لانقطاعها «وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً» من الأسواء فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ» (١١) بلي أمرهم غيره.
مطلب في البرق والصّواعق والتسبيح والسجود والفوق بين العالم والجاهل:
ولما خوف الله عباده في هذه الآية ذكر شيئا من عظيم قدرته بشبه النّعم من وجه والعذاب من آخر فقال جل قوله «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً» من نزول الصّواعق «وَطَمَعاً» بنزول الغيث قال أبو الطّيب:
فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى | يرجى الحيا منه وتخشى الصّواعق |

بِحَمْدِهِ»
هو الصّوت الخارج بعد البرق، والبرق هو اللّمعان الحاصل من خلال السحب عند تراكمها وتصادمها بعضها ببعض، ولما كان كلّ شيء يسبح بحمد الله كما مر في الآية ٤٤ من الاسراء في ج ١ وفي الآية الأولى من سورة الحديد المارة، وبما أن الرّعد شيء أيضا فيسبح الله كسائر الأشياء «وَالْمَلائِكَةُ» تسبح مِنْ خِيفَتِهِ» أيضا «وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ» الشعل الغارية الكهربائية الحاصلة من الرعد «فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ» من خلقه فيهلكهم كما أهلك زيد المذكور آنفا «وَهُمْ» والحال ان الّذين يكذبون رسول الله «يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ» وينكرون على رسوله قدرته على بعث الخلق بعد الموت ويتخذون معه شركاء بعد صدور هذه الآيات ولا يخشونه وهو القوي العظيم «وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ» (١٣) المكر والكيد لأعدائه حيث يأتيهم بما يدمرهم من حيث لا يحتسبون ولا يعرفون ولا يقدرون على رده، وهذه اللّفظة لم تكرر في القرآن «لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ» المجابة من الحق لأنها دعوة حق من الرّسول على عامر وزيد لتجاوزهما عليه صلّى الله عليه وسلم وإرادتهما اغتياله بطريق الغدر بلا سبب «وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ» أوثانا مما اتخذوه وعبدوه من دون الله كعامر وزيد وغيرهما من الكفرة، والآية عامة في كلّ من يدعو من دون الله «لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ» يدفع عنهم ضرا أو يجلب لهم نفعا «إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ» أي إلّا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه على بعد منه يطلب منه المجيء «لِيَبْلُغَ فاهُ» فيدخل في فيه ليشربه وهو جماد من حيث عدم النّطق والفهم، كما أن الماء جماد من هذه الحيثية لا يشعر ببسط الكفين ولا يعلم بما يراد منها ولا بالعطش، لذلك يقول الله تعالى «وَما هُوَ بِبالِغِهِ» لأنه لا يفهم ولا يقدر أن يجيب دعاءه، فمثل الّذين يدعون من دون الله لدفع ما يهمهم دفعه وجلب ما يهمهم جلبه مثل هذا الجماد لا يعي ما يراد منه ولا به، لأنه لا يفهم ولا يقدر على الاجابة، فلا يركن إلى أمثال هذا إلّا الكافر الذي لا يعتقد بالله، ولهذا فلا يستجاب دعاؤه لكفره «وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ» أوثانهم «إِلَّا فِي ضَلالٍ» (١٤) عن طريق الحق وهباء لا قيمة له. ونظير هذه الجملة آخر الآية ٥٠ من سورة المؤمن في ج ٢

وذلك لأن أصواتهم منصرفة إلى أوثانهم وهي لا تجيبهم لأنها محجوبة عن الله تعالى لعدم دعائهم إياه ولأنهم يأنفون من السّجود لعظمته «وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً» واختيارا رغبة ورضى وشوقا كالملائكة والرّسل والمؤمنين المخلصين «وَكَرْهاً» جبرا وقسرا رغم أنوفهم كالكفار والمنافقين عند نزول الشّدائد بهم، ولكن لا فائدة لهم من ذكره لأنهم لا يرجون له ثوابا ولا يعتقدون به، وإنما يخضعون لله حال الضّيق والمحنة فقط «وَظِلالُهُمْ» تسجد لعظمته أيضا تبعا لهم. والضّمير فيه يعود ان في الأرض، لأن من في السّماء لا ظل له «بِالْغُدُوِّ» من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس والغدوة والغداة منها إلى نصف النّهار «وَالْآصالِ» (١٥) جمع أصيل ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، هذا ويجب على من قرأ هذه الآية ومن سمعها السّجود لله تعالى كما مر في الآية الأخيرة من سورة والنّجم في ج ١ «قُلْ» يا سيد الرّسل لهؤلاء الّذين لا يعرفون الله تعالى إلّا عند نزول البلاء بهم ولا يدعونه إلّا عند اشتداد الأزمة رسلهم «مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» فإن لم يجيبوك عتوا وعنادا فأنت «قُلِ اللَّهُ» لأنهم يتلعثمون عند قول الحق ويترددون عن الإجابة عنه، وإذا قالوه يقولونه جبرا، ثم «قُلْ» توبيخا لهم لاتخاذهم أوثانا يزعمون أنها تشفع لهم «أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ» لأموركم أصناما «لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا» فما فائدتكم منهم بعد أن علمتم أن مالك الضّر والنّفع هو الله لا غير، ومما يدل على تمام معرفتهم به أنه يملك ذلك ويملك الحياة والموت والخير والشر، إنهم يدعونه عند الشّدة، ومن جهلهم وحمقهم يعرضون عنه عند الرّخاء قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظّلمات والنّور» فبالطبع
يقولون لا، فقل لهم كما لا يستوي هذان الصّنفان، لا يستوي الكفر والإيمان الوثن والرّحمن، راجع الآية ٢١ من سورة فاطر في ج ١ تجد ما يتعلق في هذا البحث «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ»
سماء وأرضا وشمسا وقمرا وإنسا وجنا وملائكة ووحشا وأنهارا وبحارا «فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ» الخلق الذي خلقه شركاؤهم فلم يميزوا بين خلق الله وخلق أوثانهم، كلا لم تخلق

شيئا ما، فيا سيد الرّسل «قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ» وما يعمله خلقه من خلقه «وَهُوَ الْواحِدُ» المتفرد بالخلق «الْقَهَّارُ» (١٦) لكل شيء لا أوثانهم العاجزة عن حفظ نفسها وهذا الإله الجليل هو الذي «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ» به «بِقَدَرِها» الذي علمه قبل نزوله «فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً» رغوة بيضاء قيقاء تشبه الزبد منتفخة مرتفعة على وجه السيل وهذا مثل ضربه الله تعالى لعباده بمثل آخر وهو «وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ» من الذهب والفضة «ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ» لا تكون إلّا منهما، وإنما أعيد الضّمير إلى الذهب والفضة مع عدم ذكرها للمعلومية، راجع قوله تعالى (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) وقوله تعالى (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) الآية ٣٢ من سورة ص في ج ١ فيما يتعلق بهذا الضّمير لأن الحلية لا تكون إلّا منهما، أما الأحجار الكريمة التي يتحلى بها فلا توقد، عليها النّار، لذلك لا يتصور إعادة الضّمير إليها «أَوْ مَتاعٍ» آخر من غيرهما كالحديد والنّحاس والرّصاص وكلّ ما يذاب مما يتخذ منه الأواني وما يتمتع به فيكون له «زَبَدٌ مِثْلُهُ» مثل زبد الماء بسبب غليانه على النّار، ولا دخل للأحجار الكريمة في هذا أيضا، لأنها لا تذاب على النّار «كذلك» مثل هذا المثل «يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ» الذي ينتفع به مثل الماء والذهب وبقية المعادن المنطبعة «وَالْباطِلَ» الذي لا ينتفع به كرغوة الماء وخبث المعادن المعبر عنها بالزبد المعبر عنه بقوله عز قوله «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً» متلاشيا لا فائدة فيه «وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ» كالماء الصّافي وجوهر المعادن المذكورة التي يتزين بها «فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» وعلى النّاس «كَذلِكَ» مثل هذا الضّرب «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ» (١٧) ليعتبر خلقه بها قال تعالى «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ» ما دعاهم إليه «الْحُسْنى» الجنّة إذ لا أحسن منها مقعدا ولا أهنا منها مشربا، ولا أمرا منها ماكلا، فنعمة الجنّة مكافأة لهم وجزاء «وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ» دعاءه هم النّار والدّمار وحين يعانون عذابها يتمنون «لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ» مما يلاقونه من هولها ولكن ليس لهم ذلك، ولو فرض أنهم يملكونه وأرادوا أن يفتدوا به
صفحة رقم 44