يعترض بأنه من خواص ضمير الشأن الواجب التصدير وإنما هو نظير وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ [البقرة:
١٣٢] إلخ.
وتعقب بأن في تلك الآية تفسير جملة بجملة وهذه فيها تفسير ضمير بجملة. وفي الكشاف جعل أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً هو المفسر وفيه خفاء لأن ذلك مقول القول. واستدل بعضهم بالآية على إثبات الكلام النفسي بجعل قالَ إلخ بدلا من- أسر- ولعل الأمر لا يتوقف على ذلك لما أشرنا إليه من أن المراد قال في نفسه، نعم قال أبو حيان: إن الظاهر أنه عليه السلام خاطبهم وواجههم به بعد أن أسر كراهية مقالتهم في نفسه وغرضه توبيخهم وتكذيبهم، ويقويه أنهم تركوا أن يشفعوا بأنفسهم وعدلوا إلى الشفاعة له بأبيه وفيه نظر. وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة «فأسره» بتذكير الضمير وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ أي عالم علما بالغا إلى أقصى المراتب بأن الأمر ليس كما تصفون من صدور السرقة منا، فصيغة أفعل لمجرد المبالغة لا لتفضيل علمه تعالى على علمهم كيف لا وليس لهم بذلك من علم قاله غير واحد.
وقال أبو حيان: إن المعنى أعلم بما تصفون به منكم لأنه سبحانه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه الذي أحلتم سرقته عليه فأفعل حينئذ على ظاهره. واعترض بأنه لم يكن فيهم علم والتفضيل يقتضي الشركة، وأجيب بأنه تكفي الشركة بحسب زعمهم فإنهم كانوا يدعون العلم لأنفسهم، ألا ترى قولهم: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ جزما.
قالُوا عند ما شاهدوا مخايل أخذ بنيامين مستعطفين يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً طاعنا في السن لا يكاد يستطيع فراقه وهو علالة به يتعلل عن شقيقه الهالك، وقيل: أرادوا مسنا كبيرا في القدر، والوصف على القولين محط الفائدة وإلا فالإخبار بأن له أبا معلوم مما سبق فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله فلسنا عنده بمنزلته من المحبة والشفقة إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إلينا فأتم إحسانك فما الانعام إلا بالإتمام أو من عادتك الإحسان مطلقا فاجر على عادتك ولا تغيرها معنا فنحن أحق الناس بذلك، فالإحسان على الأول خاص وعلى الثاني عام، والجملة على الوجهين اعتراض تذييلي على ما ذهب إليه بعض المدققين، وذهب بعض آخر إلى أنه إذا أريد بالإحسان الإحسان إليهم تكون مستأنفة لبيان ما قبل إذ أخذ البدل إحسان إليهم وإذا أريد أن عموم ذلك من دأبك وعادتك تكون مؤكدة لما قبل وذكر أمر عام على سبيل التذييل أنسب بذلك.
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أي نعوذ بالله تعالى معاذا من أَنْ نَأْخُذَ فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه مضافا إلى المفعول به وحذف حرف الجر كما في أمثاله إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ لأن أخذنا له إنما هو بقضية فتواكم فليس لنا الإخلال بموجبها إِنَّا إِذاً أي إذا أخذنا غير من وجدنا متاعنا عنده ولو برضاه لَظالِمُونَ في مذهبكم وشرعكم وما لنا ذلك، وإيثار صيغة المتكلم مع الغير مع كون الخطاب من جهة اخوته على التوحيد من باب السلوك إلى سنن الملوك وللإشعار بأن الأخذ والإعطاء ليس مما يستبد به بل هو منوط بآراء أهل الحل والعقد، وإيثار مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ على من سرق متاعنا الأخصر لأنه أوفق بما وقع في الاستفتاء والفتوى أو لتحقيق الحق والاحتراز عن الكذب في الكلام مع تمام المرام فإنهم لا يحملون وجدان الصواع عنده على محمل غير السرقة، والمتاع اسم لما ينتفع به وأريد به الصواع، وما ألطف استعماله مع الأخذ المراد به الاسترقاق والاستخدام وكأنه لهذا أوثر على الصواع، والظاهر أن الأخذ في كلامهم محمول على هذا المعنى أيضا حقيقة.
وجوز ابن عطية أن يكون ذلك مجازا لأنهم يعلمون أنه لا يجوز استرقاق حر غير سارق بدل من قد أحكمت السنة رقه فقولهم ذلك كما تقول لمن تكره فعله: اقتلني ولا تفعل كذا وأنت لا تريد أن يقتلك ولكنك تبالغ في استنزاله، ثم قال: وعلى هذا يتجه قول يوسف عليه السلام: مَعاذَ اللَّهِ لأنه تعوذ من غير جائز، ويحتمل أن لا يريدوا هذا المعنى، وبعيد عليهم وهم أنبياء أن يريدوا استرقاق حر فلم يبق إلا أن يريدوا بذلك الحمالة أي خذ أحدنا وأبقه عندك حتى ينصرف إليك صاحبك ومقصدهم بذلك أن يصل بنيامين إلى أبيه فيعرفه جلية الحال اه وهو كلام لا يعول عليه أصلا كما لا يخفى ولجواب يوسف عليه السلام معنى باطن هو أن الله عز وجل إنما أمرني بالوحي أن آخذ بنيامين لمصالح علمها سبحانه في ذلك فلو أخذت غيره كنت ظالما لنفسي وعاملا بخلاف الوحي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ أي يئسوا من يوسف عليه السلام واجابته لهم إلى مرادهم، فاستفعل بمعنى فعل نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب على ما في البحر، وقال غير واحد: إن السين والتاء زائدتان للمبالغة أي يئسوا يأسا كاملا لأن المطلوب
المرغوب مبالغ في تحصيله، ولعل حصول هذه المرتبة من اليأس لهم لما شاهدوه من عوذه بالله تعالى مما طلبوه الدال على كون ذلك عنده في أقصى مراتب الكراهة وأنه مما يجب أن يحترز عنه ويعاذ بالله تعالى منه، ومن تسميته ذلك ظلما بقوله: إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ.
وفي بعض الآثار أنهم لما رأوا خروج الصواع من رحله وكانوا قد أفتوا بما أفتوا تذكروا عهدهم مع أبيهم استشاط من بينهم روبيل (١) غضبا وكان لا يقوم لغضبه شيء ووقف شعره حتى خرج من ثيابه فقال: أيها الملك لتتركن أخانا أو لأصيحن صيحة لا يبقين بها في مصر حامل إلا وضعت فقال يوسف عليه السلام لولد له صغير: قم إلى هذا فمسه أو خذ بيده. وكان إذا مسه أحد من ولد يعقوب عليه السلام يسكن غضبه، فلما فعل الولد سكن غضبه فقال لإخوته: من مسني منكم؟ فقالوا: ما مسك أحد منا فقال: لقد مسني ولد من آل يعقوب عليه السلام، ثم قال لإخوته كم عدد الأسواق بمصر؟ قالوا: عشرة قال: اكفوني أنتم الأسواق وأنا أكفيكم الملك أو اكفوني أنتم الملك وأنا أكفيكم الأسواق فلما أحس يوسف عليه السلام بذلك قام إليه وأخذ بتلابيبه وصرعه وقال: أنتم يا معشر العبرانيين تزعمون أن لا أحد أشد منكم قوة فعند ذلك خضعوا وقالوا: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إلخ،
ويمكن على هذا أن يكون حصول اليأس الكامل لهم من مجموع الأمرين.
وجوز بعضهم كون ضمير مِنْهُ لبنيامين، وتعقب بأنهم لم ييأسوا منه بدليل تخلف كبيرهم لأجله وروى أبو ربيعة عن البزي عن ابن كثير أنه قرأ «استأيسوا» من أيس مقلوب (٢) يئس، ودليل القلب على ما في البحر عدم انقلاب ياء أيس ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وحاصل المعنى (٣) لما انقطع طمعهم بالكلية خَلَصُوا انفردوا عن غيرهم واعتزلوا الناس.
وقول الزجاج: انفرد بعضهم عن بعض فيه نظر نَجِيًّا أي متناجين متشاورين فيما يقولون لأبيهم عليه الصلاة والسلام، وإنما وحده وكان الظاهر جمعه لأنه حال من ضمير الجمع لأنه مصدر بحسب الأصل كالتناجي أطلق على المتناجين مبالغة أو لتأويله بالمشتق والمصدر ولو بحسب الأصل يشمل القليل والكثير أو لكونه على زنة المصدر لأن فعيلا من أبنية المصادر هو فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس وكعشير (٤) بمعنى معاشر، أي مناج بعضهم بعضا فيكونون متناجين وجمعه أنجية قال لبيد:
وشهدت أنجية الخلافة عاليا | كعبي وارداف الملوك شهود (٥) |
إني إذا ما القوم كانوا أنجية | واضطربوا مثل اضطراب الأرشية |
(٢) في مجمع البيان أن أيس ويئس كل منهما لغة اه منه. [.....]
(٣) على تقرير كون الزيادة للمبالغة اه منه.
(٤) وخليط بمعنى مخالط وسمير بمعنى مسامر وغير ذلك اه منه.
(٥) وهو يقوي كونه جامدا كرغيف وأرغفة اه منه.
يهوذا قاله وهب. والكلبي، وعن محمد بن إسحاق أنه لاوي أَلَمْ تَعْلَمُوا كأنهم أجمعوا عند التناجي على الانقلاب جملة ولم يرض به فقال منكرا عليهم: «ألم تعلموا».
أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا يوثق به وهو حلفهم بالله تعالى وكونه منه تعالى لأنه بإذنه فكأنه صدر منه تعالى أو هو من جهته سبحانه- فمن- ابتدائية وَمِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ أي قصرتم في شأنه ولم تحفظوا عهد أبيكم فيه وقد قلتم ما قلتم. وما مزيدة والجملة حالية، وهذا على ما قيل أحسن الوجوه في الآية وأسلمها، وجوز أن تكون ما مصدرية ومحل المصدر النصب عطفا على مفعول تَعْلَمُوا أي ألم تعلموا أخذ أبيكم موثقا عليكم وتفريطكم السابق في شأن يوسف عليه السلام، وأورد عليه أمران الفصل بين حرف العطف والمعطوف بالظرف، وتقديم معمول صلة الموصول الحرفي عليه وفي جوازهما خلاف للنحاة والصحيح الجواز خصوصا بالظرف المتوسع فيه، وقيل: بجواز العطف على اسم أَنَّ ويحتاج حينئذ إلى خبر لأن الخبر الأول لا يصح أن يكون خبرا له فهو فِي يُوسُفَ أو مِنْ قَبْلُ على معنى ألم تعلموا أن تفريطكم السابق وقع في شأن يوسف عليه السلام أو أن تفريطكم الكائن أو كائنا في شأن يوسف عليه السلام وقع من قبل.
واعترض بأن مقتضى المقام إنما هو الإخبار بوقوع ذلك التفريط لا يكون تفريطهم السابق واقعا في شأن يوسف عليه السلام كما هو مفاد الأول، ولا يكون تفريطهم الكائن في شأنه واقعا من قبل كما هو مفاد الثاني.
وفيه أيضا ما ذكره أبو البقاء وتبعه أبو حيان من أن الغايات لا تقع خبرا ولا صلة (١) ولا صفة ولا حالا وقد صرح بذلك سيبويه سواء جرت أم لم تجر فتقول: يوم السبت يوم مبارك والسفر بعده ولا تقول والسفر بعد، وأجاب عنه في الدر المصون بأنه إنما امتنع ذلك لعدم الفائدة لعدم العلم بالمضاف إليه المحذوف فينبغي الجواز إذا كان المضاف إليه معلوما مدلولا عليه كما في الآية الكريمة، ورد بأن جواز حذف المضاف إليه في الغايات مشروط بقيام القرينة على تعيين ذلك المحذوف على ما صرح به الرضي فدل على أن الامتناع ليس معللا بما ذكر.
وقال الشهاب: (٢) إن ما ذكروه ليس متفقا عليه فقد قال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة: إنها تقع صفات وأخبارا وصلات وأحوالا ونقل هذا الإعراب المذكور هنا عن الرماني وغيره واستشهد له بما يثبته من كلام العرب، ثم إن في تعرفها بالإضافة باعتبار تقدير المضاف إليه معرفة يعينه الكلام السابق عليها اختلافا والمشهور أنها (٣) معارف، وقال بعضهم: نكرات وإن التقدير من قبل شيء كما في شرح التسهيل. والفاضل صاحب الدر سلك مسلكا حسنا وهو أن المضاف إليه إذا كان معلوما مدلولا عليه بأن يكون مخصوصا معينا صح الأخبار لحصول الفائدة فإن لم يتعين بأن قامت قرينة العموم دون الخصوص وقدر من قبل شيء لم يصح الأخبار ونحوه إذ ما شيء إلا وهو قبل شيء ما فلا فائدة في الأخبار فحينئذ يكون معرفة ونكرة، ولا مخالفة بين كلامه وكلام الرضي مع أن كلام الرضي غير متفق عليه انتهى، وهو كما قال تحقيق نفيس، وقيل: محل المصدر الرفع على الابتداء والخبر مِنْ قَبْلُ وفيه البحث السابق،
(٢) وذكر أنه تحقيق حقيق بان يرسم في دفاتر الأذهان ويعلق في حقائب الحفظ والجنان اه منه.
(٣) وذكر السيرافي في شرح الكتاب ما يقتضي أن الغايات معارف لا يقدر ما حذف بعدها إلا معرفة فتأمل اه منه.
وقيل: ما موصولة ومحلها من الأعراب ما تقدم من الرفع أو النصب وجملة فَرَّطْتُمْ صلتها والعائد محذوف، والتفريط بمعنى التقديم من الفرط لا بمعنى التقصير أي ما قدمتموه من الجناية.
وأورد عليه أنه يكون قوله تعالى: مِنْ قَبْلُ تكرار فإن جعل خبرا يكون الكلام غير مفيد وإن جعل متعلقا بالصلة يلزم مع التكرار تقديم متعلق الصلة على الموصول وهو غير جائز، وقيل: ما نكرة موصوفة ومحلها ما تقدم وفيه ما فيه فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ مفرع على ما ذكره وذكر به و «برح» تامة وتستعمل إذا كانت كذلك بمعنى ذهب وبمعنى ظهر كما في قولهم: برح الخفاء، وقد ضمنت هنا معنى فارق فنصبت الْأَرْضَ على المفعولية، ولا يجوز أن تكون ناقصة لأن الأرض لا يصح أن تكون خبرا عن المتكلم هنا وليست منصوبة على الظرفية ولا بنزع الخافض وعنى بها أرض مصر أي فلن أفارق أرض مصر جريا على قضية الميثاق حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في البراح بالانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها على وجه لا يؤدي إلى نقض الميثاق أو بخلاص أخي بسبب من الأسباب، قال في البحر: إنه غيا ذلك بغايتين خاصة وهي إذن أبيه وعامة وهي حكم الله تعالى له وكأنه بعد أن غيا بالأولى رجع وفوض الأمر إلى من له الحكم حقيقة جل شأنه، وأراد حكمه سبحانه بما يكون عذرا له ولو الموت، والظاهر أن أحب الغايتين إليه الأولى فلذا قدم لِي فيها وأخره في الثانية فليفهم وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا يحكم سبحانه إلا بالحق والعدل.
ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا له يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ الظاهر أن هذا القول من تتمة كلام كبيرهم وقيل:
هو من كلام يوسف عليه السلام وفيه بعد كما أن الظاهر أنهم أرادوا أنه سرق في نفس الأمر. وَما شَهِدْنا عليه إِلَّا بِما عَلِمْنا من سرقته وتبقيناه حيث استخرج صواع الملك من رحله. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ وما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الميثاق أو ما علمنا أنك ستصاب به كما أصبت بيوسف. وقرأ الضحاك «سارق» باسم الفاعل.
وقرأ ابن عباس وأبو رزين والكسائي في رواية «سرّق» بتشديد الراء مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة فمعنى وَما شَهِدْنا إلخ وما شهدنا إلا بقدر ما علمنا من التسريق وما كنا للأمر الخفي بحافظين أسرق بالصحة أم دس الصواع في رحله ولم يشعر. واستحسنت هذه القراءة لما فيها من التنزيه كذا قالوا، والظاهر أن القول باستفادة اليقين من استخراج الصواع من رحله مما لا يصح فكيف يوجب اليقين، واحتمال أنه دس فيه من غير شعور قائم جعل مجرد وجود الشيء في يد المدعى عليه بعد إنكاره موجبا للسرق في شرعهم أولا، قيل: فالوجه أن الظن البين قائم مقام العلم، ألا ترى أن الشهادة تجوز بناء على الاستصحاب ويسمى علما كقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [الممتحنة: ١٠] وإنما جزموا بذلك لبعد الاحتمالات المعارضة عندهم، وإذا جعل الحكم بالسرقة وكذا علمهم أيضا مبنيا على ما شاهدوا من ظاهر الأمر اتحدت القراءتان ويفسر وَما كُنَّا إلخ بما فسّر به على القراءة الأخيرة، وقيل:
معنى ما شَهِدْنا إلخ ما كانت شهادتنا في عمرنا على شيء إلا بما علمنا وليست هذه شهادة منا إنما هي خبر عن صنيع ابنك بزعمهم وَما كُنَّا إلخ كما هو وهو ذهاب أيضا إلى أنهم غير جازمين. وفي الكشف الذي يشهد له الذوق أنهم كانوا جازمين وقولهم: إن يسرق فقد سرق تمهيد بين، وادعاء العلم لا يلزم العلم فإن كان لبعد الاحتمالات المعارضة فلا يكون كذبا محرما وإلا فغايته الكذب في دعوى العلم وليس بأول كذباتهم، وكان قبل أن تنبؤوا ولهذا خونهم الأب في هذه أيضا، على أن قولهم: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ مؤكدا ذلك التأكيد يدل على أنهم جعلوا الوجدان في الرحل قاطعا وإلا كان عليهم أن يقولوا: جزاؤه من وجد في رحله متعديا أو سارقا ونحوه، فإن يحتمل عنهم الحزم هنالك فلم لا يحتمل هاهنا اه وفيه مخالفة لبعض ما نحن عليه، وكذا لما ذكرناه في تفسير جَزاؤُهُ
إلخ، ولعل الأمر في هذا هين. ومن غريب التفسير أن معنى قولهم: لِلْغَيْبِ لليل وهو بهذا المعنى في لغة حمير وكأنهم قالوا: «وما شهدنا إلا بما علمنا- من ظاهر حاله- وما كنا لليل حافظين» أي لا ندري ما يقع فيه فلعله سرق فيه أو دلس عليه، وأنا لا أدري ما الداعي إلى هذا التفسير المظلم مع تبلج صبح المعنى المشهور وأيا ما كان فلام لِلْغَيْبِ للتقوية والمراد حافظين الغيب وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون كما روي عن ابن عباس وقتادة والحسن مصر، وقيل: قرية بقربها لحقهم المنادي بها، والأول ظاهر على القول بأن المفتش لهم يوسف عليه السلام والثاني الظاهر على القول بأنه المؤذن، وسؤال القرية عبارة عن سؤال أهلها إما مجازا في القرية لإطلاقها عليها بعلاقة الحالية والمحلية أو في النسبة أو يقدر فيه مضاف وهو مجاز أيضا عند سيبويه وجماعة. وفي المحصول وغيره أن الإضمار والمجاز متباينان ليس أحدهما قسما من الآخر والأكثرون على المقابلة بينهما، وأيا ما كان فالمسؤول عنه محذوف للعلم به، وحاصل المعنى أرسل من تثق به إلى أهل القرية واسألهم عن القصة وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها أي أصحابها الذين توجهنا فيهم وكنا معهم فإن القصة معروفة فيما بينهم وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب عليه السلام، وقيل: من أهل صنعاء، والكلام هنا في التجوز والإضمار كالكلام سابقا.
وقيل: لا تجوز ولا إضمار في الموضعين والمقصود حالة تحقيق الحال والاطلاع على كنه القصة على السؤال من الجمادات والبهائم أنفسها بناء على أنه عليه السلام نبي فلا يبعد أن تنطق وتخبره بذلك على خرق العادة. وتعقب بأنه مما لا ينبغي أن يكون مرادا ولا يقتضيه المقام لأنه ليس بصدد إظهار المعجزة، وقال بعض الأجلة: الأولى ابقاء الْقَرْيَةَ والْعِيرَ على ظاهرهما وعدم إضمار مضاف إليهما ويكون الكلام مبنيا على دعوى ظهور الأمر بحيث إن الجمادات والبهائم قد علمت به وقد شاع مثل ذلك في الكلام قديما وحديثا ومنه قول ابن الدمينة:
سل القاعة الوعسا من الاجرع الذي | به البان هل حييت اطلال دارك |
سلوا مضجعي عني وعنها فإننا | رضينا بما يخبرن عنا المضاجع |
واسأل نجوم الليل هل زار الكرى | جفني وكيف يزور من لم يعرف |
يروى أنهم لما عزموا على الرجوع إلى أبيهم قال لهم يوسف عليه السلام: إذا أتيتم أباكم فاقرؤوا عليه السلام وقولوا له: إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ولدك يوسف ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله، فساروا حتى وصلوا إليه فأخبروه بجميع ما كان فبكى وقال ما قال،
وبَلْ للاضراب وهو على ما قيل إضراب لا عن صريح كلامهم فإنهم صادقون فيه بل عما يتضمنه من ادعاء البراءة صفحة رقم 37
عن التسبب فيما نزل به وإنه لم يصدر عنهم ما أدى إلى ذلك من قول أو فعل كأنه لم يكن الأمر كذلك بل زينت وسهلت لكم أنفسكم أمرا من الأمور فأتيتموه يريد بذلك فتياهم بأخذ السارق بسرقته وليس ذلك من دين الملك.
وقال أبو حيان إن هنا كلاما محذوفا وقع الاضراب عنه والتقدير ليس حقيقة كما أخبرتم بل سولت إلخ وهو عند ابن عطية وادعى أنه الظاهر على حد ما قال في قصة يوسف عليه السلام ظن سوء بهم خلا أنه عليه السلام صدق ظنه هناك ولم يتحقق هنا. وذكر ابن المنير في توجيه هذا القول هاهنا مع أنهم لم يتعمدوا في حق بنيامين سوءا ولا أخبروا أباهم إلا بالواقع على جليته وما تركوه بمصر إلا مغلوبين عن استصحابه انهم كانوا عند أبيهم عليه السلام حينئذ متهمين وهم قمن باتهامه لما أسلفوه في حق يوسف عليه السلام وقامت عنده قرينة تؤكد التهمة وتقويها وهو أخذ الملك له في السرقة ولم يكن ذلك إلا من دينه لا من دينه ولا من دين غيره من الناس فظن أنهم الذين أفتوه بذلك بعد ظهور السرقة التي ذكروها تعمدا ليتخلف دونهم، واتهام من هو بحيث يتطرق إليه التهمة لا جرح فيه لا سيما فيما يرجع إلى الوالد مع الولد، ثم قال: ويحتمل أن يكون الوجه الذي سوغ له هذا القول في حقهم أنهم جعلوا مجرد وجود الصواع في رحل من يوجد في رحله سرقة من غير أن يحيلوا الحكم على ثبوت كونه سارقا بوجه معلوم، وهذا في شرعنا لا يثبت السرقة على من ادعيت عليه فإن كان في شرعهم أيضا كذلك ففي عدم تحرير الفتوى اشعار بأنهم كانوا حراصا على أخذه وهو من التسويل وان اقتضى ذلك في شرعهم فالعمدة على الجواب الأول هذا، والتنوين في أَمْراً للتعظيم أي أمرا عظيما فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي فأمري ذلك أو فصبر جميل أجمل وقد تقدم تمام الكلام فيه فتذكر.
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف وأخيه بنيامين والمتوقف بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي وحالهم الْحَكِيمُ الذي يبتلي ويرفع البلاء حسب الحكمة البالغة، قيل: إنما ترجى عليه السلام للرؤيا التي رآها يوسف عليه السلام فكان ينتظرها ويحسن ظنه بالله تعالى لا سيما بعد أن بلغ الشظاظ الوركين وجاوز الحزام الطبيين فإنه قد جرت سنته تعالى أن الشدة إذا تناهت يجعل وراءها فرجا عظيما، وانضم إلى ذلك ما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له أن لا يموت حتى يرى ولده وَتَوَلَّى أي أعرض عَنْهُمْ كراهة لما جاؤوا به وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن على ما فات، والظاهر أنه عليه السلام أضافه إلى نفسه، والألف بدل من ياء المتكلم للتخفيف، والمعنى يا أسفي تعال فهذا أوانك، وقيل: الألف ألف الندبة والهاء محذوفة والمعول عليه الأول، وإنما تأسف على يوسف مع أن الحادث مصيبة أخويه لأن رزأه كان قاعدة الارزاء عنده وإن تقادم عهده أخذا بمجامع قلبه لا ينساه ولا يزول عن فكره أبدا
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده | ولكن نكاء القرح بالقرح أوجع |
وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن سعيد بن جبير «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٦] إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم» أي لم يعلموه ولم يوفقوا له عند نزول المصيبة بهم، ألا يرى إلى صفحة رقم 38
يعقوب عليه السلام حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وقال ما قال، وفي أَسَفى ويُوسُفَ تجنيس نفيس من غير تكلف وهو مما يزيد الكلام الجليل بهجة وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي بسببه وهو في الحقيقة سبب للبكاء والبكاء سبب لا بيضاض عينه فإن العبرة إذا كثرت محقت سواد العين وقلبته إلى بياض كدر فأقيم سبب السبب مقامه لظهوره، والابيضاض قيل إنه كناية عن العمى فيكون قد ذهب بصره عليه السلام بالكلية واستظهره أبو حيان لقوله تعالى: فَارْتَدَّ بَصِيراً [يوسف: ٩٦] وهو يقابل بالأعمى، وقيل: ليس كناية عن ذلك والمراد من الآية أنه عليه السلام صارت في عينيه غشاوة بيضتهما وكان عليه السلام يدرك إدراكا ضعيفا، وقد تقدم الكلام في حكم العمى بالنسبة إلى الأنبياء عليهم السلام، وكان الحسن ممن يرى جوازه.
فقد أخرج عبد الله بن أحمد في زوائده وابن جرير وأبو الشيخ عنه قال: كان منذ خرج يوسف من عند يعقوب عليهما السلام إلى يوم رجع ثمانون سنة لم يفارق الحزن قلبه ودموعه تجري على خديه ولم يزل يبكي حتى ذهب بصره وما على الأرض يومئذ والله أكرم على الله تعالى منه، والظاهر أنه عليه السلام لم يحدث له هذا الأمر عند الحادث الأخير، ويدل عليه ما
أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ليث بن أبي سليم أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فعرفه فقال له: أيها الملك الكريم على ربه هل لك علم بيعقوب؟ قال: نعم. قال: ما فعل؟ قال: ابيضت عيناه من الحزن عليك قال: فما بلغ من الحزن؟ قال: حزن سبعين مثكلة قال: هل له على ذلك من أجر؟ قال: نعم أجر مائة شهيد.
وقرأ ابن عباس ومجاهد مِنَ الْحُزْنِ بفتح الحاء والزاي وقرأ قتادة بضمهما.
واستدل بالآية على جواز التأسف والبكاء عند النوائب، ولعل الكف عن أمثال ذلك لا يدخل تحت التكليف فإنه قل من يملك نفسه عند الشدائد.
وقد روى الشيخان من حديث أنس أنه ﷺ بكى على ولده إبراهيم وقال: «إن العين تدمع والقلب يخشع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»
وإنما المنهي عنه ما يفعله الجهلة من النياحة ولطم الخدود والصدور وشق الجيوب وتمزيق الثياب.
ورويا أيضا من حديث أسامة أنه ﷺ رفع إليه صبي لبعض بناته يجود بنفسه فأقعده في حجره ونفسه تتقعقع كأنها في شن ففاضت عيناه عليه الصلاة والسلام فقال سعد: يا رسول الله ما هذا؟
فقال: هذه رحمة جعلها الله تعالى فيمن شاء من عباده وإنما يرحم الله تعالى من عباده الرحماء. وفي الكشاف أنه قيل له عليه الصلاة والسلام: تبكي وقد نهيتنا عن البكاء؟ قال: ما نهيتكم عن البكاء وإنما نهيتكم عن صوتين أحمقين صوت عند الفرح وصوت عند الترح وعن الحسن أنه بكى على ولد أو غيره فقيل له في ذلك فقال: ما رأيت الله تعالى جعل الحزن عارا على يعقوب عليه السلام فَهُوَ كَظِيمٌ
أي مملوء من الغيظ على أولاده ممسك له في قلبه لا يظهره، وقيل: مملوء من الحزن ممسك له لا يبديه، وهو من كظم السقاء إذا شده بعد ملئه، ففعيل بمعنى مفعول أي مكظوم فهو كما جاء في يونس عليه السلام إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [القلم: ٤٨] ويجوز أن يكون بمعنى فاعل كقوله تعالى وَالْكاظِمِينَ [آل عمران: ١٣٤] من كظم الغيظ إذا تجرعه أي شديد التجرع للغيظ أو الحزن لأنه لم يشكه إلى أحدا قط، وأصله من كظم البعير جرته إذا ردها في جوفه فكأنه عليه السلام يرد ذلك في جوفه مرة بعد أخرى من غير أن يطلع أحدا عليه. وفي الكلام من الاستعارة على الوجهين ما لا يخفى، ورجح الأخير منهما بأن فعيلا بمعنى فاعل مطرد ولا كذلك فعيلا بمعنى مفعول قالُوا أي الإخوة وقيل غيرهم من أتباعه عليه السلام تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي لا تفتأ ولا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجعا عليه فحذف حرف النفي كما في قوله:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا | ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي |
من الدين كشف الستر عن كل كاذب | وعن كل بدعي أتى بالعجائب |
فلولا رجال مؤمنون لهدمت | صوامع دين الله من كل جانب |
فلذا أكدوه بالقسم أي نقسم بالله تعالى لا تزال ذاكر يوسف متفجعا عليه حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشفيا على الهلاك، وقيل: الحرض من أذابه هم أو مرض وجعله مهزولا نحيفا، وهو في الأصل مصدر حرض فهو حرض بكسر الراء، وجاء أحرضني كما في قوله:
إني امرؤ لج بي حب فأحرضني | حتى بليت وحتى شفني السقم |
وقرأ الحسن البصري «حرضا» بضمتين ونحوه من الصفات رجل جنب وغرب (١) أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ أي الميتين، وأَوْ قيل: يحتمل أن تكون بمعنى بل أو بمعنى إلى، فلا يرد عليه أن حق هذا التقديم على حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً فإن كانت للترديد فهي لمنع الخلو والتقديم على ترتيب الوجود كما قيل في قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: ٢٥٥] أو لأنه أكثر وقوعاالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي
البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه كبث الريح التراب واستعمل في الغم الذي لا يطيق صاحبه الصبر عليه كأنه ثقل عليه فلا يطيق حمله وحده فيفرقه على من يعينه، فهو مصدر بمعنى المفعول وفيه استعارة تصريحية. وجوز أن يكون بمعنى الفاعل أي الغم الذي بث الفكر وفرقه، وأيّا ما كان فالظاهر أن القوم قالوا ما قالوا بطريق التسلية والإشكاء فقال في جوابهم: إني لا أشكو ما بي إليكم أو إلى غيركم حتى تتصدوا لتسليتي وإنما أشكو غمي حُزْنِي إِلَى اللَّهِ
تعالى ملتجئا إلى جنابه متضرعا في دفعه لدى بابه فإنه القادر على ذلك.
وفي الخبر عن ابن عمر قال: «قال رسول الله ﷺ من كنوز البر إخفاء الصدقة وكتمان المصائب والأمراض ومن بث لم يصبر»
وقرأ الحسن وعيسى «حزني» بفتحتين وقرأ قتادة بضمتين. أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ
أي من لطفه ورحمته الا تَعْلَمُونَ
فأرجو أن يرحمني ويلطف بي ولا يخيب رجائي، فالكلام على حذف مضاف ونَ
بيانية قدمت على المبين وقد جوزه النحاة. وجوز أن تكون ابتدائية أي أعلم وحيا أو إلهاما أو بسبب من أسباب العلم من جهته تعالى ما لا تعلمون من حياة يوسف عليه السلام.
قيل: إنه عليه السلام علم ذلك من الرؤيا حسبما تقدم، وقيل إنه رأى ملك الموت في المنام فأخبره أن يوسف حي ذكره غيره واحد ولم يذكروا له سندا
والمروي عن ابن أبي حاتم عن النضر أنه قال: بلغني أن يعقوب عليه السلام مكث أربعة وعشرين عاما لا يدري أيوسف عليه السلام حي أم ميت حتى تمثل له ملك الموت عليه السلام فقال له:
من أنت؟ قال: أنا ملك الموت فقال: أنشدك باله يعقوب هل قبضت روح يوسف؟ قال: لا فعند ذلك قال عليه السلام:
يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا
أي فتعرفوا، وهو تفعل من الحس وهو في الأصل الإدراك بالحاسة، وكذا أصل التحسس طلب الإحساس، واستعماله في التعرف استعمال له في لازم معناه، وقريب منه التجسس بالجيم، وقيل: إنه به في الشر وبالحاء في الخير ورد بأنه، قرئ هنا «فتجسسوا» بالجيم أيضا، وقال الراغب: أصل الجس مس العرق وتعرف نبضه للحكم به على الصحة والمرض وهو أخص من الحس فإنه تعرف ما يدركه الحس والجس تعرف حال ما من ذلك مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ أي من خبرهما، ولم يذكر الثالث لأن غيبته اختيارية لا يعسر إزالتها، وعلى فرض ذلك الداعية فيهم للتحسس منه لكونه أخاهم قوية فلا حاجة لأمرهم بذلك، والجار متعلق بما عنده وهو بمعنى عن بناء على ما نقل
عن ابن الأنباري أنه لا يقال: تحسست من فلان، وإنما يقال: تحسست عنه، وجوز أن تكون للتبعيض على معنى تحسوا خبرا من أخبار يوسف وأخيه.
وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ أي لا تقنطوا من فرجه سبحانه وتنفيسه، وأصل معنى الروح بالفتح كما قال الراغب التنفس يقال: أراح الإنسان إذا تنفس ثم استعير للفرج كما قيل: له تنفيس من النفس.
وقرأ عمر بن عبد العزيز والحسن وقتادة «روح» بالضم، وفسر بالرحمة على أنه استعارة من معناها المعروف لأن الرحمة سبب الحياة كالروح وإضافتها إلى الله تعالى لأنها منه سبحانه، وقال ابن عطية كأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن كل من بقيت روحه يرجى، ومن هذا قوله:
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع. وقول عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب... وغائب الموت لا يؤوب
وقرأ أبي «من رحمة الله» وعبد الله «من فضل الله» وكلاهما عند أبي حيان تفسير لا قراءة. وقرئ «تأيسوا».
وقرأ الأعرج «تيئسوا» بكسر التاء والأمر والنهي على ما قيل إرشاد لهم إلى بعض ما أبهم في قوله: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٦٢] ثم إنه عليه السلام حذرهم عن ترك العمل بموجب نهيه بقوله: إِنَّهُ أي الشأن لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لعدم علمهم بالله تعالى وصفاته فإن العارف لا يقنط في حال من الأحوال أو تأكيدا لما يعلمونه من ذلك، قال ابن عباس: إن المؤمن من الله تعالى على خير يرجوه في البلاء ويحمده في الرخاء.
وذكر الإمام أن اليأس لا يحصل إلا إذا اعتقد الإنسان أن الإله غير قادر على الكمال أو غير عالم بجميع المعلومات أو ليس بكريم، واعتقاد كل من هذه الثلاث يوجب الكفر فإذا كان اليأس لا يحصل إلا عند حصول أحدها وكل منها كفر ثبت أن اليأس لا يحصل إلا لمن كان كافرا، واستدل بعض أصحابنا بالآية على أن اليأس من رحمة الله تعالى كفر، وادعى أنها ظاهرة في ذلك.
وقال الشهاب: ليس فيها دليل على ذلك بل هو ثابت بدليل آخر، وجمهور الفقهاء على أن اليأس كبيرة ومفاد الآية أنه من صفات الكفار لا أن من ارتكبه كان كافرا بارتكابه، وكونه لا يحصل إلا عند حصول أحد المكفرات التي ذكرها الإمام مع كونه في حيز المنع لجواز أن ييأس من رحمة الله تعالى إياه مع إيمانه بعموم قدرته تعالى وشمول علمه وعظم كرمه جل وعلا لمجرد استعظام ذنبه مثلا واعتقاده عدم أهليته لرحمة الله تعالى من غير أن يخطر له أدنى ذرة من تلك الاعتقادات السيئة الموجبة للكفر لا يستدعي أكثر من اقتضائه سابقية الكفر دون كون ارتكابه نفسه كفرا كذا قيل، وقيل: الأولى التزام القول بأن اليأس قد يجامع الإيمان وإن القول بأنه لا يحصل إلا بأحد الاعتقادات المذكورة غير بين ولا مبين.
نعم كونه كبيرة مما لا شك فيه بل جاء عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه أكبر الكبائر، وكذا القنوط وسوء الظن، وفرقوا بينها بأن اليأس عدم أمل وقوع شيء من أنواع الرحمة له، والقنوط هو ذاك مع انضمام حالة هي أشد منه في التصميم على عدم الوقوع، وسوء الظن هو ذاك مع انضمام أنه مع عدم رحمته له يشدد له العذاب كالكفار.
وذكر ابن نجيم في بعض رسائله ما به يرجع الخلاف بين من قال: إن اليأس كفر ومن قال: إنه كبيرة لفظيا فقال: قد ذكر الفقهاء من الكبائر الأمن من مكر الله تعالى واليأس من رحمته وفي العقائد واليأس من رحمة الله تعالى كفر
فيحتاج إلى التوفيق. والجواب أن المراد باليأس إنكار سعة الرحمة للذنوب، ومن الأمن الاعتقاد أن لا مكر، ومراد الفقهاء من اليأس اليأس لاستعظام ذنوبه واستبعاد العفو عنها، ومن الأمن الأمن لغلبة الرجاء عليه بحيث دخل في حد الأمن ثم قال: والأوفق بالسنة طريق الفقهاء لحديث الدارقطني عن ابن عباس مرفوعا حيث عدها من الكبائر وعطفها على الإشراك بالله تعالى اه وهو تحقيق نفيس فليفهم فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ أي على يوسف عليه السلام بعد ما رجعوا إلى مصر بموجب أمر أبيهم، وإنما لم يذكر إيذانا بمسارعتهم إلى ما أمروا به وإشعارا بأن ذلك أمر محقق لا يفتقر إلى الذكر والبيان. وأنكر اليهود رجوعهم بعد أخذ بنيامين إلى أبيهم ثم عودهم إلى مصر وزعموا أنهم لما جاؤوا أولا للميرة اتهمهم بأنهم جواسيس فاعتذروا وذكروا أنهم أولاد نبي الله تعالى يعقوب وأنهم كانوا اثني عشر ولدا هلك واحد منهم وتخلف أخوه عند أبيهم يتسلى به عن الهالك حيث إنه كان يحبه كثيرا فقال: ائتوني به لأتحقق صدقكم وحبس شمعون عنده حتى يجيئوا فلما أتوا به ووقع ما وقع من أمر السرقة أظهروا الخضوع والانكسار فلم يملك عليه السلام نفسه حتى تعرف إليهم ثم أمرهم بالعود إلى أبيهم ليخبروه الخبر ويأتوا به وهو الذي تضمنته توراتهم اليوم وما بعد الحق إلا الضلال قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ خاطبوه بذلك تعظيما له على حد خطابهم السابق به على ما هو الظاهر، وهل كانوا يعرفون اسمه أم لا؟ لم أر من تعرض لذلك فإن كانوا يعرفونه ازداد أمر جهالتهم غرابة، والمراد على ما قال الإمام وغيره يا أيها الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الهزال من شدة الجوع، والمراد بالأهل ما يشمل الزوجة وغيرها وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها واحتقارا، من أزجيته إذا دفعته وطردته والريح تزجي السحاب، وأنشدوا لحاتم:
ليبك على ملحان ضيف مدفع... وأرملة تزجي مع الليل أرملا
وكني بها عن القليل أو الرديء لأنه لعدم الاعتناء يرمي ويطرح، قيل: كانت بضاعتهم من متاع الأعراب صوفا وسمنا، وقيل: الصنوبر وحبة الخضراء (١) وروي ذلك عن أبي صالح، وزيد بن أسلم، وقيل: سويق المقل والإقط، وقيل: قديد وحش، وقيل: حبالا واعدالا وأحقابا، وقيل: كانت دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بوضيعة، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، والمروي عن الحسن تفسيرها بقليلة لا غير، وعلى كل- فمزجاة- صفة حقيقية للبضاعة، وقال الزجاج: هي من قولهم: فلان يزجي العيش أي يدفع الزمان بالقليل، والمعنى إنا جئنا ببضاعة يدفع بها الزمان وليست مما ينتفع به، والتقدير على هذا ببضاعة مزجاة بها الأيام أي تدفع بها ويصبر عليها حتى تنقضي كما قيل:
درج الأيام تندرج... وبيوت الهم لا تلج
وما ذكر أولا هو الأولى، وعن الكلبي أن «مزجاة» من لغة العجم، وقيل: من لغة القبط. وتعقب ذلك ابن الأنباري بأنه لا ينبغي أن يجعل لفظ معروف الاشتقاق والتصريف منسوبا إلى غير لغة العرب فالنسبة إلى ذلك مزجاة.
وقرأ حمزة والكسائي «مزجية» بالإمالة لأن أصلها الياء، والظاهر أنهم إنما قدموا هذا الكلام ليكون ذريعة إلى إسعاف مرامهم ببعث الشفقة وهز العطف والرأفة وتحريك سلسلة الرحمة ثم قالوا: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ أي أتممه لنا ولا تنقصه لقلة بضاعتنا أو رداءتها، واستدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ظاهره بالإيفاء أو بالمسامحة وقبول المزجاة أو بالزيادة على ما يساويها.
وقال الضحاك، وابن جريج: إنهم أرادوا تصدق علينا برد أخينا بنيامين على أبيه، قيل: وهو الأنسب بحالهم بالنسبة إلى أمر أبيهم وكأنهم أرادوا تفضل علينا بذلك لأن رد الأخ ليس بصدقة حقيقة، وقد جاءت الصدقة بمعنى التفضل كما قيل، ومنه تصدق الله تعالى على فلان بكذا، وأما قول الحسن لمن سمعه يقول: اللهم تصدق على أن الله تعالى لا يتصدق إنما يتصدق من يبغي الثواب قل: اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني فقد رد
بقوله صلى الله عليه وسلم: «صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم فاقبلوا صدقته»
وأجيب عنه مجازا ومشاكلة، وإنما رد الحسن على القائل لأنه لم يكن بليغا كما في قصة المتوفى، وادعى بعضهم تعين الحمل على المجاز أيضا إذا كان المراد طلب الزيادة على ما يعطى بالثمن بناء على أن حرمة أخذ الصدقة ليست خاصة بنبينا ﷺ كما ذهب إليه سفيان بن عيينة بل هي عامة له عليه الصلاة والسلام ولمن قبله من الأنبياء عليهم السلام وآلهم كما ذهب إليه البعض، والسائلون من إحدى الطائفتين لا محالة، وتعقب بأنا لو سلمنا العموم لا نسلم أن المحرم أخذ الصدقة مطلقا بل المحرم إنما هو أخذ الصدقة المفروضة وما هنا ليس منها، والظاهر كما قال الزمخشري: أنهم تمسكنوا له عليه السلام بقولهم: مَسَّنا إلخ وطلبوا إليه أن يتصدق عليهم بقولهم: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا فلو لم يحمل على الظاهر لما طابقه ذلك التمهيد ولا هذا التوطيد أعني إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ بذكر الله تعالى وجزائه الحاملين على ذلك وإن فاعله منه تعالى بمكان.
قال النقاش: وفي العدول عن إن الله تعالى يجزيك بصدقتك إلى ما في النظم الكريم مندوحة عن الكذب فهو من المعاريض، فإنهم كانوا يعتقدونه ملكا كافرا وروي مثله عن الضحاك، ووجه عدم بدئهم بما أمروا به على القول بخلاف الظاهر في متعلق التصدق بأن فيما سلكوه استجلابا للشفقة والرحمة فكأنهم أرادوا أن يملؤوا حياض قلبه من نميرها ليسقوا به أشجار تحسسهم لتثمر لهم غرض أبيهم، ووجهه بعضهم بمثل هذا ثم قال: على أن قولهم وَتَصَدَّقْ إلخ كلام ذو وجهين فإنه يحتمل الحمل على المحملين فلعله عليه السلام حمله على طلب الرد ولذلك قالَ مجيبا عما عرضوا به وضمنوه كلامهم من ذلك: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وكان الظاهر على هذا الاقتصار على التعرض بما فعل مع الأخ إلا أنه عليه السلام تعرض لما فعل به أيضا لاشتراكهما في وقوع الفعل عليهما، فإن المراد بذلك إفرادهم له عنه وإذلاله بذلك حتى كان لا يستطيع أن يكلمهم إلا بعجز وذلة، والاستفهام ليس عن العلم بنفس ما فعلوه لأن الفعل الإرادي مسبوق بالشعور لا محالة بل هو عما فيه من القبح بدليل قوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ أي هل علمتم قبح (١) ما فعلتموه زمان جهلكم قبحه وزال ذلك الجهل أم لا؟ وفيه من إبداء عذرهم وتلقينهم إياه ما فيه كما في قوله تعالى: ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الانفطار: ٦] والظاهر لهذا أن ذلك لم يكن تشفيا بل حث على الإقلاع ونصح لهم لما رأى من عجزهم وتمسكنهم ما رأى مع خفي معاتبة على وجود الجهل وأنه حقيق الانتفاء في مثلهم، فلله تعالى هذا الخلق الكريم كيف ترك حظه من التشفي إلى حق الله تعالى على وجه يتضمن حق الاخوتين أيضا والتلطف في أسماعه مع التنبيه على أن هذا الضر أولى بالكشف، قيل: ويجوز أن يكون هذا الكلام منه عليه السلام منقطعا عن كلامهم وتنبيها لهم عما هو حقهم ووظيفتهم من الإعراض عن جميع المطالب والتمحض لطلب بنيامين، بل يجوز أن يقف عليه السلام بطريق الوحي أو الإلهام على وصية أبيه عليه السلام وإرساله إياهم للتحسس منه ومن أخيه فلما رآهم قد اشتغلوا عن ذلك قال ما قال، والظاهر أنه عليه السلام لما رأى ما رأى منهم وهو من أرق خلق الله تعالى قلبا وكان قد بلغ الكتاب أجله شرع في كشف أمره فقال ما قال.
روي عن ابن إسحاق أنهم لما استعطفوه رق لهم ورحمهم حتى أنه أرفض دمعه باكيا ولم يملك نفسه فشرع في التعرف لهم، وأراد بما فعلوه به جميع ما جرى وبما فعلوه بأخيه أذاهم له وجفاءهم إياه وسوء معاملتهم له وإفرادهم له كما سمعت، ولم يذكر لهم ما آذوا به أباهم على ما قيل تعظيما لقدره وتفخيما لشأنه أن يذكره مع نفسه وأخيه مع أن ذلك من فروع ما ذكر،
وقيل: إنهم أدوا إليه كتابا من أبيهم وصورته كما في الكشاف من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع على قفاه السكين ليقتل ففداه الله تعالى، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب الأولاد إلي فذهب به اخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا: قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه ثم كان لي ابن كان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته لذلك وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي روق نحوه،
فلما قرأ يوسف عليه السلام الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا هذا،
وما أشرنا إليه من كون المراد إثبات الجهل لهم حقيقة هو الظاهر، وقيل: لم يرد نفي العلم عنهم لأنهم كانوا علماء ولكنهم لما لم يفعلوا ما يقتضيه العلم وترك مقتضى العلم من صنيع الجهال سماهم جاهلين، وقيل: المراد جاهلون بما يؤول إليه الأمر، وعن ابن عباس والحسن جاهِلُونَ صبيان قبل أن تبلغوا أوان الحلم والرزانة، وتعقب بأنه ليس بالوجه لأنه لا يطابق الوجود وينافي وَنَحْنُ عُصْبَةٌ فالظاهر عدم صحة الإسناد، وزعم في التحرير أن قول الجمهور: إن الاستفهام للتقرير والتوبيخ ومراده عليه السلام تعظيم الواقعة أي ما أعظم ما ارتكبتم في يوسف وأخيه كما يقال: هل تدري من عصيت؟
وقيل: هل بمعنى قد كما في هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ [الإنسان: ١] والمقصود هو التوبيخ أيضا وكلا القولين لا يعول عليه والصحيح ما تقدم. ومن الغريب الذي لا يصح البتة ما حكاه الثعلبي أنه عليه السلام حين قالوا له ما قالوا غضب عليهم فأمر بقتلهم فبكوا وجزعوا فرق لهم وقال: هَلْ عَلِمْتُمْ إلخ قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير ولذلك أكد بإن واللام لأن التأكيد يقتضي التحقق المنافي للاستفهام الحقيقي، ولعلهم قالوه استغرابا وتعجبا، وقرأ ابن كثير وقتادة وابن محيصن «إنك» بغير همزة استفهام، قال في البحر: والظاهر أنها مرادة ويبعد حمله على الخبر المحض، وقد قاله بعضهم لتعارض الاستفهام والخبر إن اتحد القائلون وهو الظاهر، فإن قدر أن بعضا استفهم وبعضا أخبر ونسب كل إلى المجموع أمكن وهو مع ذلك بعيد، وأنت في القراءتين مبتدأ ويُوسُفُ خبره والجملة في موضع الرفع خبر إن، ولا يجوز أن يكون أنت تأكيدا للضمير الذي هو اسم- إن- لحيلولة اللام، وقرأ أبي «أإنك أو أنت يوسف» وخرج ذلك ابن جني في كتاب المحتسب على حذف خبر إن وقدره أإنك لغير يوسف أو أنت يوسف، وكذا الزمخشري إلا أنه قدره أإنك يوسف أو أنت يوسف ثم قال: وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع فهو يكرر الاستيثاق، قال في الكشف: وما قدره أولى لقلة الإضمار وقوة الدلالة على المحذوف وإن كان الأول أجري على قانون الاستفهام، ولعل الأنسب أن يقدر أإنك أنت أو أنت يوسف تجهيلا لنفسه أن يكون مخاطبه يوسف أي أإنك المعروف عزيز مصر أو أنت يوسف، استبعدوا أن يكون العزيز يوسف أو يوسف عزيزا، وفيه قلة الإضمار أيضا مع تغاير المعطوف والمعطوف عليه وقوة الدلالة على المحذوف والجري على قانون الاستفهام مع زيادة الفائدة من إيهام البعد بين الحالتين.
فإن قيل: ذاك أوفق للمشهور لقوة الدلالة على أنه هو، يجاب بأنه يكفي في الدلالة على الأوجه كلها أن
الاستفهام غير جاء على الحقيقة، على أن عدم التنافي بين كونه مخاطبهم المعروف وكونه يوسف شديد الدلالة أيضا مع زيادة إفادة ذكر موجب استبعادهم وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق، واختلفوا في تعيين سبب معرفتهم إياه عليه السلام فقيل: عرفوه بروائه وشمائله وكان قد أدناهم إليه ولم يدنهم من قبل، وقيل: كان يكلمهم من وراء حجاب فلما أراد التعرف إليهم رفعه فعرفوه، وقيل: تبسم فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم وكان يضيء ما حواليه من نور تبسمه، وقيل: إنه عليه السلام رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه كان ليعقوب وإسحاق وسارة مثلها تشبه الشامة البيضاء فعرفوه بذلك، وينضم إلى كل ذلك، علمهم أن ما خاطبهم به لا يصدر مثله إلا عن حنيف مسلم من سنخ (١) إبراهيم لا عن بعض أعزاء مصر، وزعم بعضهم أنهم إنما قالوا ذلك على التوهم ولم يعرفوه حتى أخبر عن نفسه قالَ أَنَا يُوسُفُ والمعول عليه ما تقدم وهذا جواب عن مساءلتهم وزاد عليهم قوله: وَهذا أَخِي أي من أبوي مبالغة في تعريف نفسه، قال بعض المدققين: إنهم سألوه متعجبين عن كونه يوسف محققين لذلك مخيلين لشدة التعجب أنه ليس إياه فأجابهم بما يحقق ذلك مؤكدا، ولهذا لم يقل عليه السلام: بلى أو أنا هو فأعاد صريح الاسم وَهذا أَخِي بمنزلة أنا يوسف لا شبهة فيه على أن فيه ما يبنيه عليه من قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وجوز الطيبي أن يكون ذلك جاريا على الأسلوب الحكيم كأنهم لما سألوه متعجبين أنت يوسف؟ أجاب لا تسألوا عن ذلك فإنه ظاهر ولكن اسألوا ما فعل الله تعالى بك من الامتنان والإعزاز وكذلك بأخي ولي من ذاك في شيء كما لا يخفى. وفي إرشاد العقل السليم إن في زيادة الجواب مبالغة وتفخيما لشأن الأخ وتكملة لما أفاده قوله: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ حسبما يفيده قَدْ مَنَّ إلخ فكأنه قال: هل علمتم ما فعلتم بنا من التفريق والإذلال فأنا يوسف وهذا أخي قد من الله تعالى علينا بالخلاص عما ابتلينا به والاجتماع بعد الفرقة والعزة بعد الذلة والأنس بعد الوحشة. ولا يبعد أن يكون فيه إشارة إلى الجواب عن طلبهم لرد بنيامين بأنه أخي لا أخوكم فلا وجه لطلبكم انتهى وفيه ما فيه. وجملة قَدْ مَنَّ إلخ عند أبي البقاء مستأنفة، وقيل: حال من يُوسُفُ وأَخِي وتعقب بأن فيه بعدا لعدم العامل في الحال حينئذ، ولا يصح أن يكون هذا لأنه إشارة إلى واحد وعلينا راجع إليهما جميعا إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَتَّقِ أي يفعل التقوى في جميع أحواله أو يق نفسه عما يوجب سخط الله تعالى وعذابه وَيَصْبِرْ على البلايا والمحن أو على مشقة الطاعات أو عن المعاصي التي تستلذها النفس فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٢) أي أجرهم، وإنما وضع المظهر موضع المضمر تنبيها على أن المنعوتين بالتقوى والصبر موصفون بالإحسان، والجملة في موضع العلة للمن. واختار أبو حيان عدم التخصيص في التقوى والصبر، وقال مجاهد: المراد من يتق في ترك المعصية ويصبر في السجن، والنخعي من يتق الزنا ويصبر على العزوبة، وقيل: من يتق المعاصي ويصبر على أذى الناس، وقال الزمخشري: المراد من يخف الله تعالى ويصبر عن المعاصي وعلى الطاعات. وتعقبه صاحب الفرائد بأن فيه حمل من يتق على المجاز ولا مانع من الحمل على الحقيقة والعدول عن ذلك إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز فالوجه أن يقال: من يتق من يحترز عن ترك ما أمر به وارتكاب ما نهي عنه ويصبر في المكاره وذلك باختياره وهذا بغير اختياره فهو محسن، وذكر الصبر بعد التقوى من ذكر الخاص بعد العام ويجوز أن يكون ذلك لإرادة الثبات على التقوى كأنه قيل: من يتق ويثبت على التقوى انتهى.
(٢) جوز أبو حيان كون المحسنين عاما يندرج فيه من تقدم فتأمل اه منه.
والوجه الأول ميل لما ذكره أبو حيان. وتعقب ذلك الطيبي بأن هذه الجملة تعليل لما تقدم وتعريض بإخوته بأنهم لم يخافوا عقابه تعالى ولم يصبروا على طاعته عز وجل وطاعة أبيهم وعن المعصية إذ فعلوا ما فعلوا فيكون المراد بالاتقاء الخوف وبالصبر الصبر على الطاعة وعن المعصية ورد بأن التعريض حاصل في التفسير الآخر فكأنه فسره به لئلا يتكرر مع الصبر وفيه نظر. وقرأ قنبل من «يتق» بإثبات الياء، فقيل: هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وهذه ياء إشباع وقيل: جزمه بحذف الحركة المقدرة وقد حكوا ذلك لغة، وقيل: هو مرفوع ومَنَّ موصول وعطف المجزوم عليه على التوهم كأنه توهم أن مَنَّ شرطية ويَتَّقِ مجزوم، وقيل: إن يَصْبِرْ مرفوع كيتقي إلا أنه سكنت الراء لتوالي الحركات وإن كان ذلك في كلمتين كما سكنت في يَأْمُرُكُمْ ويُشْعِرُكُمْ ونحوهما أو للوقف وأجري الوصل مجرى الوقف، والأحسن من هذه الأقوال كما في البحر أن يكون يتقي مجزوما على لغة وإن كانت قليلة، وقول أبي علي: إنه لا يحمل على ذلك لأنه إنما يجيء في الشعر لا يلتفت إليه لأن غيره من رؤساء النحويين حكوه لغة نظما ونثرا قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا أي اختارك وفضلك علينا بالتقوى والصبر، وقيل:
بالملك، وقيل: بالصبر والعلم ورويا عن ابن عباس، وقيل: بالحلم والصفح ذكره سليمان الدمشقي، وقال صاحب الغنيان: بحسن الخلق والخلق والعلم والحلم والإحسان والملك والسلطان والصبر على أذانا والأول أولى.
وَإِنْ أي والحال أن الشأن كُنَّا لَخاطِئِينَ أي لمتعمدين للذنب إذ فعلنا ما فعلنا ولذلك أعزك وأذلنا، فالواو حالية وإِنْ مخففة اسمها ضمير الشأن واللام التي في خبر كان هي المزحلقة و «خاطئين» من خطئ إذا تعمد وأما أخطأ فقصد الصواب ولم يوفق له، وفي قولهم: هذا من الاستنزال لإحسانه عليه السلام والاعتراف بما صدر منهم في حقه مع الإشعار بالتوبة ما لا يخفى ولذلك قالَ لا تَثْرِيبَ أي لا تأنيب ولا لوم عَلَيْكُمُ وأصله من الثرب وهو الشحم الرقيق في الجوف وعلى الكرش، وصيغة التفعيل للسلب أي إزالة الثرب كالتجليد والتقريع بمعنى إزالة الجلد والقرع، واستعير للوم الذي يمزق الأعراض ويذهب بهاء الوجه لأنه بإزالة الشحم يبدو الهزال وما لا يرضى كما أنه باللوم تظهر العيوب فالجامع بينهما طريان النقص بعد الكمال وإزالة ما به الكمال والجمال وهو اسم لا وعَلَيْكُمُ متعلق بمقدر وقع خبرا، وقوله تعالى: الْيَوْمَ متعلق بذلك الخبر المقدر أو بالظرف أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم، وليس التقييد به لإفادة وقوع التثريب في غيره فإنه عليه السلام إذا لم يثرب أول لقائه واشتعال ناره فبعده بطريق الأولى. وقال المرتضى: إن الْيَوْمَ موضوع موضع الزمان كله كقوله:
اليوم يرحمنا من كان يغبطنا | واليوم نتبع من كانوا لنا تبعا |
في الحديث «لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت»
باتفاق الرواة فيه وإنما الخلاف فيه هل هو مبني أو معرب ترك تنوينه، وفي التصريح نقلا عن المغني أن صفحة رقم 48
نصب الشبيه بالمضاف وتنوينه هو مذهب البصريين، وأجاز البغداديون لا طالع جبلا بلا تنوين أجروه في ذلك مجرى المضاف كما أجروه مجراه في الإعراب وعليه يتخرج
الحديث «لا مانع» إلخ.
فيمكن أن يكون مبنى ما قاله أبو حيان وغيره مذهب البصريين، والحديث المذكور لا يتعين- كما قال الدنوشري أخذا من كلام المغني في الجهة الثانية من الباب الخامس- حمله على ما ذكر لجواز كون اسم لا فيه مفردا واللام متعلقة بالخبر والتقدير لا مانع مانع لما أعطيت وكذا فيما بعده. وذكر الرضي أن الظرف بعد النفي لا يتعلق بالمنفي بل بمحذوف وهو خبر وأن الْيَوْمَ في الآية معمول عَلَيْكُمُ ويجوز العكس، واعترض أيضا حديث الفصل بين المصدر ومعموله بما فيه ما فيه، وقيل: عَلَيْكُمُ بيان كلك في سقيا لك فيتعلق بمحذوف والْيَوْمَ خبر.
وجوز أيضا كون الخبر ذاك والْيَوْمَ متعلقا بقوله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ونقل عن المرتضى أنه قال في الدرر:
قد ضعف هذا قوم من جهة أن الدعاء لا ينصب ما قبله ولم يشتهر ذلك، وقال ابن المنير: لو كان متعلقا به لقطعوا بالمغفرة بأخبار الصديق ولم يكن كذلك لقولهم: يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [يوسف: ٩٧] وتعقب بأنه لا طائل تحته لأن المغفرة وهي ستر الذنب يوم القيامة حتى لا يؤاخذوا به ولا يقرعوا إنما يكون ذلك الوقت وأما قبله فالحاصل هو الإعلام به والعلم بتحقق وقوعه بخبر الصادق لا يمنع الطلب لأن الممتنع طلب الحاصل لا طلب ما يعلم حصوله، على أنه يجوز أن يكون هضما للنفس واعتبر باستغفار الأنبياء عليهم السلام، ولا فرق بين الدعاء والاخبار هنا انتهى.
وقد يقال أيضا: إن الذي طلبوه من أبيهم مغفرة ما يتعلق به ويرجع إلى حقه ولم يكن عندهم علم بتحقق ذلك، على أنه يجوز أن يقال: إنهم لم يعتقدوا إذ ذاك نبوته وظنوه مثلهم غير نبي فإنه لم يمض وقت بعد معرفة أنه يوسف يسع معرفة أنه نبي أيضا وما جرى من المفاوضة لا يدل على ذلك فافهم، وإلى حمل الكلام على الدعاء ذهب غير واحد وذهب جمع أيضا إلى كونه خبرا. والحكم بذلك مع أنه غيب قيل: لأنه عليه السلام صفح عن جريمتهم حينئذ وهم قد اعترفوا بها أيضا فلا محالة أنه سبحانه يغفر لهم ما يتعلق به تعالى وما يتعلق به عليه السلام بمقتضى وعده جل شأنه بقبول توبة العباد، وقيل: لأنه عليه السلام قد أوحي إليه بذلك، وأنت تعلم أن أكثر القراء على الوقف على الْيَوْمَ وهو ظاهر في عدم تعلقه- بيغفر- وهو اختيار الطبري وابن إسحاق. وغيرهم واختاروا كون الجملة بعد دعائية وهو الذي يميل إليه الذوق والله تعالى أعلم وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإن كل من يرحم سواه جل وعلا فإنما يرحم برحمته سبحانه مع كون ذلك مبنيا على جلب نفع أو دفع ضر ولا أقل من دفع ما يجده في نفسه من التألم الروحاني مما يجده في المرحوم، وقيل: لأنه تعالى يغفر الصغائر والكبائر التي لا يغفرها غيره سبحانه ويتفضل على التائب بالقبول، والجملة إما بيان للوثوق بإجابة الدعاء أو تحقيق لحصول المغفرة لأنه عفا عنهم فالله تعالى أولى بالعفو والرحمة لهم هذا.
ومن كرم يوسف عليه السلام ما
روي أن إخوته أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشية ونحن نستحي منك بما فرط منا فيك فقال عليه السلام: إن أهل مصر وإن ملكت فيهم كانوا ينظرون إلي بالعين الأولى ويقولون:
سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ ولقد شرفت بكم الآن وعظمت في العيون حيث عليم الناس أنكم اخوتي وأني من حفدة إبراهيم عليه السلام،
والظاهر أنه عليه السلام أنه حصل بذلك من العلم للناس ما لم يحصل قبل فإنه عليه السلام على ما دل عليه بعض الآيات السابقة والأخبار قد أخبرهم أنه ابن من وممن.
وكذا ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: قال الملك يوما
ليوسف عليه السلام إني أحب أن تخالطني في كل شيء إلا في أهلي وأنا آنف أن تأكل معي فغضب يوسف عليه السلام، فقال: أنا أحق أن آنف أنا ابن إبراهيم خليل الله وأنا ابن إسحاق ذبيح الله وأنا ابن يعقوب نبي الله لكن لم يشتهر ذلك أو لم يفد الناس علما.
وفي التوراة التي بأيدي اليهود اليوم أنه عليه السلام لما رأى من إخوته مزيد الخجل أدناهم إليه وقال: لا يشق عليكم إن بعتموني وإلى هذا المكان أوصلتموني فإن الله تعالى قد علم ما يقع من القحط والجدب وما ينزل بكم من ذلك ففعل ما أوصلني به إلى هذا المكان والمكانة ليزيل عنكم بي ما ينزل بكم ويكون ذلك سببا لبقائكم في الأرض وانتشار ذراريكم فيها وقد مضت من سني الجدب سنتان وبقي خمس سنين وأنا اليوم قد صيرني الله تعالى مرجعا لفرعون وسيدا لأهله وسلطانا على جميع أهل مصر فلا يضق عليكم أمركم اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا هو القميص الذي كان عليه حينئذ كما هو الظاهر وعن ابن عباس وغيره أنه القميص الذي كساه الله تعالى إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وكان من قمص الجنة جعله يعقوب حين وصل إليه في قصبة فضة وعلقه في عنق يوسف وكان لا يقع على عاهة من عاهات الدنيا إلا ابرأها بإذن الله تعالى. وضعف هذا بأن قوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ يدل على أنه عليه السلام كان لابسا له في تعويذته كما تشهد به الإضافة إلى ضميره وهو تضعيف ضعيف كما لا يخفى، وقيل: هو القميص الذي قد من دبر وأرسله ليعلم يعقوب أنه عصم من الفاحشة ولا يخفى بعده، وأيّا ما كان فالباء إما للمصاحبة أو للملابسة أي اذهبوا مصحوبين أو ملتبسين به أو للتعدية على ما قيل أي اذهبوا قميصي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً أي يصر بصيرا ويشهد له فَارْتَدَّ بَصِيراً أو يأت إلي وهو بصير وينصره قوله: وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ من النساء والذراري وغيرهم مما ينتظمه لفظ الأهل كذا قالوا.
وحاصل الوجهين- كما قال بعض المدققين- أن الإتيان في الأول مجاز عن الصيرورة ولم يذكر إتيان الأب إليه لا لكونه داخلا في الأهل فإنه يجل عن التابعية بل تفاديا عن أمر الخوة بالإتيان لأنه نوع إجبار على من يؤتى به فهو إلى اختياره، وفي الثاني على الحقيقة وفيه التفادي المذكور، والجزم بأنه من الآتين لا محالة وثوقا بمحبته وإن فائدة الإلقاء إتيانه على ما أحب من كونه معافى سليم البصر، وفيه أن صيرورته بصيرا أمر مفروغ عنه مقطوع إنما الكلام في تسبب الإلقاء لإتيانه كذلك فهذا الوجه أرجح وإن كان الأول من الخلافة بالقبول بمنزل، وفيه دلالة على أنه عليه السلام قد ذهب بصره، وعلم يوسف عليه السلام بذلك يحتمل أن يكون بإعلامهم ويحتمل أن يكون بالوحي، وكذا علمه بما يترتب على الإلقاء يحتمل أن يكون عن وحي أيضا أو عن وقوف من قبل على خواص ذلك القميص بالتجربة أو نحوها إن كان المراد بالقميص الذي كان في التعويذة ويتعين الاحتمال الأول إن كان المراد غيره على ما هو الظاهر. وقال الإمام: يمكن أن يقال: لعل يوسف عليه السلام علم أن أباه ما عرا بصره ما عراه إلا من كثرة البكاء وضيق القلب فإذا ألقى عليه قميصه فلا بد وأن ينشرح صدره وأن يحصل في قلبه الفرح الشديد وذلك يقوي الروح ويزيل الضعف عن القوي فحينئذ يقوى بصره ويزول عنه ذلك النقصان فهذا القدر مما يمكن معرفته بالعقل فإن القوانين الطبية تدل على صحته وأنا لا أرى ذلك، قال الكلبي: وكان أولئك الأهل نحوا من سبعين إنسانا (١) وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس أنهم اثنان وسبعون من ولده وولد ولده، وقيل: ثمانون، وقيل: تسعون وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن مسعود أنهم ثلاثة وتسعون. وقيل: ست وتسعون وقد نموا في مصر فخرجوا منها مع موسى عليه السلام وهم ستمائة ألف وخمسمائة وبضعة وسبعون رجلا سوى الذرية والهرمى وكانت الذرية ألف ألف ومائتي ألف على ما قيل.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريبا من بيت المقدس والقول بأنه كان بالجزيرة لا يعول عليه، يقال: فصل من البلد يفصل فصولا إذا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشيء فصلا إذا فرقه وهو متعد. وقرأ ابن عباس «ولما انفصل العير» قالَ أَبُوهُمْ يعقوب عليه السلام لمن عنده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أي لأشم فهو وجود حاسة الشم أشمه الله تعالى ما عبق بالقميص من ريح يوسف عليه السلام من مسيرة ثمانية أيام على ما روي عن ابن عباس، وقال الحسن وابن جريج من ثمانين فرسخا، وفي رواية عن الحسن أخرى من مسيرة ثلاثين يوما. وفي أخرى عنه من مسيرة عشر ليال، وقد استأذنت الريح على ما روي عن أبي أيوب الهروي في إيصال عرف يوسف عليه السلام فأذن الله تعالى لها، وقال مجاهد: صفقت الريح القميص فراحت روائح الجنة في الدنيا واتصلت بيعقوب عليه السلام فوجد ريح الجنة فعلم أنه ليس في الدنيا من ريحها إلا ما كان من ذلك القميص فقال ما قال، ويبعد ذلك الإضافة فإنها حينئذ لأدنى ملابسة وهي فيما قبل وإن كانت كذلك أيضا إلا أنها أقوى بكثير منها على هذا كما لا يخفى لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ أي تنسبوني إلى الفند بفتحتين ويستعمل بمعنى الفساد (١) كما في قوله:
إلا سليمان إذ قال الإله له | قم في البرية فاحددها عن الفند |
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى | فكن حجرا من يابس الصخر جلمد |
يا عاذليّ دعا لومي وتفنيدي | فليس ما قلت من أمر بمردود |
دع الدهر يفعل ما أراد فإنه | إذا كلف الافناد بالناس أفندا |
الهلاك والذهاب من قولهم: ضل الماء في اللبن أي ذهب فيه وهلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير تفسيره بالجنون وهو مما لا يليق وكأنه لتفسير بمثل ذلك قال قتادة: لقد قالوا كلمة غليظة لا ينبغي أن يقولها مثلهم لمثله عليه السلام ولعلهم إنما قالوا ذلك لظنهم أنه مات.