آيات من القرآن الكريم

وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
ﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲ ﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ

٥- أفادت الآية أن على المسلم أن يحذّر أخاه مما يخاف عليه، ويرشده إلى ما فيه طريق السلامة والنجاة، فإن الدين النصيحة، والمسلم أخو المسلم.
الفصل الثالث عشر من قصة يوسف معرفة يوسف أخاه بنيامين واتخاذه التدابير لإبقائه لديه
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٩ الى ٧٦]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)
الإعراب:
جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ جَزاؤُهُ مبتدأ، والهاء عائد للسّرق، وتقديره: جزاء

صفحة رقم 28

السّرق أخذ من وجد في رحله. وقوله: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ جملة هي في موضع خبر المبتدأ، أي فالاستعباد جزاء السّرق، وفاء: فَهُوَ متضمنة معنى الشرط أو جواب له على أن مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ شرطية، والجملة الشرطية كما هي: خبر المبتدأ الاول: جَزاؤُهُ على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير، كأنه قيل: جزاؤه من وجد في رحله، فهو هو، إلا أنه أقام الظاهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة في البيان.
فَهُوَ جَزاؤُهُ مبتدأ وخبر، والجملة خبر المبتدأ مَنْ وُجِدَ الذي هو الاسم الموصول.
البلاغة:
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ فيه جناس الاشتقاق. أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ فيه أيضا جناس الاشتقاق.
المفردات اللغوية:
آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضم إليه بنيامين على الطعام أو في المنزل. فَلا تَبْتَئِسْ تحزن. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الحسد لنا، وأمره ألا يخبرهم، وتواطأ معه على أنه سيحتال على أن يبقيه عنده. جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ أعد لهم الطعام بسرعة. السِّقايَةَ في الأصل: المشربة أو وعاء يسقى به، والمراد به هنا المكيال الذي كان يكال به الطعام للناس، وهو صواع الملك، فهو كان مشربة، ثم جعل صاعا يكال به، ويقدر بكيلة مصرية ١٢/ ١ من الإردب المصري، والإردب ١٩٨ لترا، أو ١٥٦ كغ. قيل: كان من فضة، وقيل: كان من ذهب. فِي رَحْلِ أَخِيهِ بنيامين.
أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، أو أعلم وأخبر، وهو يفيد الكثرة والتكرار. أَيَّتُهَا الْعِيرُ القافلة أو الجمال التي تحمل الطعام، والمراد أصحابها. ماذا تَفْقِدُونَ أيّ شيء ضاع منكم، والفقد: غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه.
صُواعَ الْمَلِكِ صاعه أو مكياله. حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام جعلا له. وَأَنَا بِهِ بالحمل. زَعِيمٌ كفيل وضامن، أؤديه إلى من ردّه.
تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجب. لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ.. استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم، لما عرفوا منهم في كرتي مجيئهم، مما يدل على فرط أمانتهم، مثل ردّ البضاعة التي جعلت في رحالهم.
قالُوا: فَما جَزاؤُهُ أي قال المؤذن وأصحابه، فما جزاء السارق. إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في قولكم: ما كنا سارقين، ووجد فيكم. قالُوا: جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي عقوبة السارق استعباد أو استرقاق من وجد في رحله. فَهُوَ جَزاؤُهُ تأكيد لما سبق أي فأخذ السارق جزاء

صفحة رقم 29

المسروق لا غير، وكان ذلك سنة آل يعقوب. كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ أي مثل هذا الجزاء جزاء الظالمين بالسرقة، وهذا تصريح منهم ليوسف بتفتيش أوعيتهم.
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ ففتشها. قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ قبل تفتيش وعاء أخيه بنيامين لئلا يتهم. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع. كَذلِكَ كِدْنا أي مثل ذلك الكيد (أي التدبير الخفي) كدنا ليوسف، علمناه الحيلة في أخذ أخيه وأوحينا به إليه. ما كانَ يوسف.
لِيَأْخُذَ أَخاهُ رقيقا من السرقة. فِي دِينِ الْمَلِكِ في قانون أو نظام أو حكم أو شرع ملك مصر لأن جزاءه في ذلك النظام الضرب وتغريم مثلي المسروق، لا الاسترقاق. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك، وهو أخذه بحكم أبيه، أي لم يتمكن من أخذه إلا بمشيئة الله بإلهامه سؤال إخوته، وجوابهم بنظامهم أو سنتهم. والاستثناء متصل من أعم الأحوال، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا، أي لكن أخذه بمشيئة الله وإذنه.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم كيوسف. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ من المخلوقين.
عَلِيمٌ أعلم منه، حتى ينتهي إلى الله تعالى.
المناسبة:
الربط بين الآيات هنا واضح، إذ هي تعرض أجزاء ومشاهد قصة واحدة ذات حلقات متسلسلة، فبعد أن اتجه أولاد يعقوب إلى مصر لجلب الميرة، مزودين بوصية والدهم، وصلوا إلى مكان وجود العزيز الذي يتولى بيع الطعام للناس، فلما دخلوا عرف أخاه وضمه إليه.
التفسير والبيان:
حينما دخل أولاد يعقوب على يوسف في مجلسه الخاص ومنزل ضيافته، ومعهم أخوه شقيقه بنيامين، بعد أن كانوا دخلوا القصر من أبواب متفرقة، ضم إليه أخاه واختلى به، وأطلعه على شأنه، وعرّفه أنه أخوه، وقال له: لا تبتئس أي لا تأسف ولا تحزن على ما صنعوا بي، وأمره ألا يطلع إخوته على ما أطلعه عليه من أنه أخوه، وتواطأ معه أنه سيتخذ تدبيرا يبقيه عنده معززا مكرما.
روي أنهم قالوا له: هذا أخونا، قد جئناك به، فقال لهم: أحسنتم

صفحة رقم 30

وأصبتم، وستجدون ذلك عندي، فأنزلهم وأكرمهم، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا، فأجلسه معه على مائدته، وجعل يواكله، وقال: أنتم عشرة، فلينزل كل اثنين منكم بيتا، وهذا لا ثاني له، فيكون معي، فبات يوسف يضمه إليه، ويشم رائحته، حتى أصبح وسأله عن ولده، فقال: لي عشرة بنين، اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك، فقال له:
أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك؟! ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل (أمهما) فبكى يوسف وقام إليه وعانقه، وقال له: إني أنا أخوك يوسف، فلا تحزن بما كانوا يعملون بنا في الماضي، فإن الله قد أحسن إلينا، وجمعنا على خير، ولا تعلمهم بما أعلمتك «١».
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ.. فلما أعدّ لهم الطعام، وحمل لهم أبعرتهم طعاما، أمر بعض فتيانه أن يضع السقاية (الصواع أو المكيال، وهي إناء من فضة في قول الأكثرين، وقيل: من ذهب) في رحل أخيه بنيامين، دون علم أحد.
ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ثم نادى مناد حينما عزموا على الخروج: أيتها العير أي يا أصحاب العير، إنكم قوم سارقون، فقفوا. فبهتوا وذهلوا.
فالتفتوا إلى المنادي وقالوا: أي: قال إخوة يوسف للمنادي ومن معه: أيّ شيء تفقدونه؟ فأجابوهم: نفقد صاع الملك الذي يكيل به، ولمن أتى به حمل بعير من القمح، وهذا يدل على أن عيرهم الإبل، وأنا به زعيم أي كفيل ضامن، وهذا من باب الجعالة والضمان والكفالة.
قال إخوة يوسف بعد اتهامهم بالسرقة: والله لقد خبرتمونا وجربتمونا في المرة الأولى وحين عودتنا إذ رددنا بضاعتنا إليكم، وتحققتم منذ عرفتمونا، وشاهدتم

(١) الكشاف: ٢/ ١٤٧

صفحة رقم 31

سيرتنا الحسنة أنا ما جئنا لنفسد في أرض بسرقة ولا غيرها من التعدي على حقوق الناس، ولم نكن يوما ما سارقين، فليست سجايانا تقتضي هذه الصفة.
فقال لهم فتيان يوسف: فما جزاء السارق إن كان فيكم، إن كنتم كاذبين في نفي التهمة عنكم؟ أي أيّ عقاب للسارق في شرعكم إن وجدنا فيكم من أخذه، وأنتم تدّعون البراءة؟
فأجابوهم: جزاؤه أخذ من وجد في رحله، ومثل هذا الجزاء نجزي الظالمين للناس بسرقة أموالهم في شريعتنا أن يسترقوا، وهكذا كانت شريعة إبراهيم ويعقوب عليهما السلام: أن السارق يدفع إلى المسروق منه، فيصيرا عبدا له، وهذا هو ما أراده يوسف عليه السلام.
ولهذا بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه للتورية وحتى لا يتهم، ثم استخرج السقاية من وعاء أخيه بنيامين، فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم، وإلزاما لهم بما يعتقدونه ويحكمون به.
قوله: فَهُوَ جَزاؤُهُ تقرير للحكم السابق وتأكيد له، بعد تأكيد ثقتهم وبراءتهم بأنفسهم.
كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي مثل ذلك الكيد وهو التدبير الخفي، كدنا ليوسف، أي دبرنا له في الخفاء وأوحينا إليه أن يفعله. وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه الله ويرضاه، لما فيه من الحكمة والمصلحة المطلوبة. وهو دليل على جواز التوصل إلى الأغراض المشروعة بما ظاهره الحيلة إذا لم يخالف نصا تشريعيا أو حكما مقررا، فهي حيلة جائزة مشروعة، لا ممنوعة محظورة، لما يترتب عليها من الخير والمصلحة، دون إلحاق ضرر بأحد، مع اطمئنان بنيامين إلى البراءة، بسبب التواطؤ السابق بينه وبين أخيه يوسف.

صفحة رقم 32

وسبب ذلك التدبير الخفي أن يوسف ما كان يتمكن من أخذ أخيه في حكم ملك مصر الذي لا يبيح استرقاق السارق، ولكن قيض الله له أن التزم له إخوته بما التزموه وهو أن يستعبد السارق، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم، ولهذا مدحه الله تعالى بقوله: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم، كما قال تعالى:
يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة ٥٨/ ١١].
وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعم الأحوال أي ما كان ليأخذ أخاه في نظام الملك في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة الله، فإنه فعل ذلك بإذن الله ووحيه، مما يدل على أن تلك الحيلة بإقرار الشرع، ووحي الله تعالى.
وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ أي فوق كل عالم من هو أعلم منه، قال الحسن البصري: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل. فإذا كان إخوة يوسف علماء فإن يوسف كان أعلم منهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- كانت فرحة غامرة من أفراح العمر لقاء الأخوين: يوسف وبنيامين، فضم يوسف أخاه إليه، وتعرّف عليه بعد فراق دام أكثر من ربع قرن، وتواطأ معه على خطة إبقائه لديه.
٢- دل قول يوسف لأخيه فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ على التحلي بصفة العفو والتسامح، وإظهار الحب والود لإخوته، ونسيان الماضي وتجاوز أخطائهم معه في مقتبل العمر.
٣- كان وضع الصواع في رحل بنيامين بأمر يوسف عليه السلام تعليما

صفحة رقم 33

وإلهاما ووحيا من الله، وكان إبقاء أخيه لديه عملا بشريعة إبراهيم ويعقوب، وإلزاما لإخوته بما حكموا به.
٤- لم يكن وصف أولاد يعقوب بأنهم سارقون كذبا من يوسف عليه السلام، وإنما المراد أيتها العير حالكم حال السّرّاق، والمعنى: إن شيئا لغيركم صار عندكم من غير رضا الملك ولا علمه. أو أن ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، أو أنهم سارقون باعتبار ما كان منهم حينما أخذوا يوسف من أبيه، فألقوه في الجبّ.
٥- دل قوله: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ على جواز الجعالة «١» وضمان الجعل قبل إنجاز العمل أو قبل إتمامه. وقد أجيز للضرورة، فجاز فيه من الجهالة ما لا يجوز في غيره، وهو من العقود الجائزة التي يجوز لأحدهما فسخه، إلا أن المجعول له يجوز أن يفسخه قبل الشروع بالعمل وبعده، إذا رضي بإسقاط حقه، وليس للجاعل أن يفسخه إذا شرع المجعول له في العمل. ولا يشترط في عقد الجعالة حضور المتعاقدين، كسائر العقود لقوله تعالى: وَلِمَنْ جاءَ بِهِ.. وبهذا كله قال الشافعي، وكذا المالكية والحنابلة، ولم يجز الحنفية الجعالة للجهالة.
ولم يكن قوله حِمْلُ بَعِيرٍ ضمان المجهول، لأن حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق (٦٠ صاعا) فصح ضمانه، غير أنه كان بدل مال عن المسروق، وهو كفالة بما لم يجب، لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة، فلعله كان يصح في شرعهم، أو كان هذا جعالة.

(١) الجعالة: التزام بعوض على شيء معلوم أو مجهول، وهو تصرف بإرادة منفردة، مثل الإعلان عن مكافأة أو جعل لمن يجد شيئا ضائعا، أو يكتشف علاجا لمرض معين، أو لمن يتفوق في قضية علمية أو اكتشاف علمي.

صفحة رقم 34

٦- دل قوله: وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ على جواز الكفالة بنوعيها: الكفالة بالمال والكفالة بالنفس، وهذا مطابق للحديث النبوي الذي أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه ابن حسان وصححه عن أبي أمامة الباهلي وغيره: «الزعيم غارم» وهو رأي المذاهب الأربعة، ولم يجز بعضهم الكفالة بالنفس لعجز الكفيل عن إحضار المكفول بنفسه.
وهل يلزم الكفيل بالنفس ضمان المال أو لا؟ قال الحنفية: لا يلزمه إن مات المكفول بنفسه: لأنه إنما تكفل بالنفس ولم يتكفل بالمال، فمحال أن يلزمه ما لم يتكفل به. وقال المالكية والليث والأوزاعي: يغرم المال، ويرجع به على المطلوب لأن الكفيل يعلم أن المضمون بنفسه إنما يطلب بمال، فإذا ضمن إحضاره ولم يأته به، فكأنه فوّته عليه، فلزمه المال.
وإذا انعقدت الكفالة جاز في رأي الجمهور للدائن المكفول له أن يطالب بالمال أو الدين من شاء من المدين الأصيل أو الكفيل. ورأي مالك الأخير: ألا يطالب الكفيل إلا أن يفلس الغريم (المدين) أو يغيب لأن البدء بمطالبة من عليه الحق أولى إلا أن يكون معدما، فيؤخذ الدين من الكفيل، لأنه معذور في أخذه في هذه الحالة.
والكفالة لا تصح إلا في الحقوق التي تجوز النيابة فيها، مما يتعلق بالذمة من الأموال، وكان الدين ثابتا مستقرا، أي لازما. فلا تصح الكفالة بنجوم (أقساط) الكتابة لأنها ليست بدين لازم أو ثابت مستقر. وأما الحقوق التي لا يمكن لأحد القيام بها عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها عند الأكثرين لأن درء هذه الحدود مطلوب ما أمكن، ويسجن المدعى عليه الحد، حتى ينظر في أمره.
وأجاز أبو يوسف ومحمد الكفالة في الحدود والقصاص، لجواز الكفالة بالنفس.
وأجاز الشافعية كفالة تسليم النفس في الحدود الخالصة للآدمي كقصاص وحد قذف وتعزير لأنها حق لآدمي، فصحت الكفالة، كسائر حقوق الآدميين المالية.

صفحة رقم 35

٧- كان استرقاق أو استعباد السارقين دين يعقوب عليه السلام وحكمه، وقد فهم هذا من جواب أولاده: جَزاؤُهُ: مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ، فَهُوَ جَزاؤُهُ وفي الجملة معنى التوكيد، كما تقول: جزاء من سرق القطع، فهذا جزاؤه لأنهم التزموا استرقاق من وجد في رحله.
وكان حكم السارق عند أهل مصر أن يغرم ضعفي ما أخذ.
وأما قطع يد السارق في شريعتنا فهو ناسخ لما تقدم من الشرائع، أو لما كان في شرع يعقوب من استرقاق السارق.
٨- يجوز التوصل إلى الأغراض أو الحقوق المشروعة إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلا. وأجاز الحنفية والشافعية الحيلة إلى المباح، واستخراج الحقوق، لفعل يوسف بوضع الصواع في رحل أخيه، ولفعل أيوب مع امرأته:
وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص ٣٨/ ٤٤] ولأمر النبي صلّى الله عليه وسلم ببيع التمر الرديء بالدراهم، ثم شراء التمر الجيد (الجنيب) بالدراهم.
واجمع العلماء على أن للرجل قبل حلول الحول التصرف في ماله بالبيع والهبة إذا لم ينو الفرار من الصدقة، فإذا حال الحول لا يحل له التحيل ولا النقصان، ولا أن يفرّق بين مجتمع، ولا أن يجمع بين متفرق.
وقال مالك: إذا فوّت من ماله شيئا ينوي به الفرار من الزكاة قبل الحول بشهر أو نحوه، لزمته الزكاة عند الحول، أخذا منه
بقوله صلّى الله عليه وسلم: «خشية الصدقة».
وقال أبو حنيفة: إن نوى بتفريقه الفرار من الزكاة قبل الحول بيوم لا يضرّه لأن الزكاة لا تلزم إلا بتمام الحول، ولا يتوجه إليه معنى
الحديث السابق: «خشية الصدقة» «١»
إلا حينئذ.

(١) نص الحديث الذي أخرجه البخاري عن أنس: «ولا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصدقة» (سبل السلام ٣/ ٥٩١، ط بيروت).

صفحة رقم 36
التفسير المنير
عرض الكتاب
المؤلف
وهبة بن مصطفى الزحيلي الدمشقي
الناشر
دار الفكر المعاصر - دمشق
سنة النشر
1418
الطبعة
الثانية
عدد الأجزاء
30
التصنيف
التفسير
اللغة
العربية